من رحلة للمستر توماس هوويل البريطاني 1788

من رحلة للمستر توماس هوويل البريطاني 1788

■ يعقوب سركيس
مؤرخ عراقي راحل
للتاريخ نفع لايجهله الكثيرون ولذة لمن لهم ميل الى الوقوف على أخبار من سلف. واهم غايات التاريخ الانتفاع من التجارب التي سجلتها الأيام المطلوبة على صحائفها الخالدة. ويقضي الواجب على المؤرخ ان ينتقى اصدق الروايات مما دونه كتبة الوقائع مميزا منها الغث من السمين. ولا مشاحة في ان هؤلاء المدونين يختلفون في أذواقهم ومشاربهم وآرائهم فمنهم من يسيطر على قلمه فيملي عليه ما تهواه نفسه غير مكترث للحق ومنهم من يكتب ما يوحيه اليه ضميره وهو على غير هدى ومنهم من لايسطر شيئا الا وقد تروى مليا في الأمر وتبصر فيه وسبر غوره فيتوخى الواقع غير هياب ولا وجل.


ان مصادر تاريخ العراق للقرن الثامن عشر قليلة فرأيت ان أضيف اليها تعريف صفحة جاءت تنبئنا عن حالة البصرة في إحدى سني الربع الأخير من ذلك القرن الغابر حينما استولى عليها ثويني العبدالله المعروف بـ" ابي فريحة"(2) (بالتصغير والتأنيث) تاركا للمؤرخ المنصف ان يتحرى اصدق المآخذ مؤيدا رأي هذا ومزيفا فكر ذاك وهو ما يطلبه التاريخ الحق.
وقبل ان أقدم على التعريب لابد لي من إبداء كلمات وجيزة للتعريف بزعيم المنتفق الشيخ ثويني العبدالله المحمد المانع. ومحمد هذا هو أبو سعدون الذي تعرف به اليوم الحمولة السعدونية الشهيرة التي كان آباؤها يسمون بـ"آل شبيب" قبل عصر سعدون ونبوغه. وما شبي بالا احد الجدود الأعلين ذوي الشرف الباذخ والسؤدد العزيز. فثويني اذا هو من آل شبيب وهو ابن أخي سعدون. وقد ابتدأت زعامته للمرة الأولى سنة 1193هـ (1779م) على اثر قتل الخزاعل(خزاعة) ثامر ابن عمه سعدون(3) وليست تسمية آل شبيب بغريبة عنا بل هي معروفة في عهدنا هذا ايضا. وهي تطلق على أقرباء آل سعدون الذين يمتون اليهم بشبيب.
وبعد هذا التمهيد أعود الى صاحب الرحلة وهو من موظفي شركة الهند الشرقية. وكان في البصرة في شباط سنة 1788م(1203هـ) اي بعد الواقعة ببضعة أشهر فقط وقد قال ما تعريبه:
"لم تبق تجارة البصرة زاهية كما كانت عليه قبلا لكنها لاتزال المخزن التجاري الأهم في هذه الأصقاع فيثرى التاجر فيها واما حاكمها فهو تركي(4) وسكانها عرب وقد توطنتها أسر تركية وارمنية.
"وكان الشيخ ثويني-الشيخ العربي القدير- قد استولى على هذه الحاضرة في سنة 1787م (1202هـ) بتدابيره الصائبة ففاجأ حاميتها واحتل المدينة بدون مقاومة. والامر الذي يجب توجيه النظر اليه انه لم يصب اذ ذاك احد من سكانها باهانة ولم يتجاوز احد على مال لأحدهم، ولم يطلب الشيخ من سكانها غرامة حربية. وبعد ان استولت جيوش الشيخ بنصف ساعة عادت شؤون الناس تجري بانتظام لا يشوبه ما يخل به فكأنه لم يقع هناك حادث يفوق العادة(5).
" ان الشعوب الممعنة في المدينة والعلم لتغبط هذه الحالة الداعية الى الشرف وهي ترينا انه مع ما عليه الأعراب من ميلهم الى السلب والنهب فأن لهم أنظمة ودساتير تبعث بهم الى حب السلام رائدها الطاعة القصوى لرئيسهم وهو روح النظام العسكري.
"اما الشيخ فهو كهل شجاع باسل ذو اقدام على العمل قل من يفوقه وهو عزيز لدى وطنييه لحسن تبصره في الأمور وتوقد ذهنه وجنوحه الى جانب الحق ولاعتداله الذي يتمشى عليه في شؤون إمارته ولقد جعلته هذه الصفات محترما عند الناس كافة.
"دام حكم الشيخ في البصرة ثلاثة أشهر ثم علم ان باشا بغداد(6)- وهو متبوع الشيخ في تأدية الضريبة- كان قد قدم لمحاربته بجيش قوامه ستة آلاف جندي فجمع الشيخ قواه واتجه بها الى شواطئ الفرات ليقابل عدوه فالتقى الجيشان هناك على بعد من البصرة واشتبك القتال واستمر بين الفريقين ولم تنجل النتيجة الحاسمة بادئ بدء بل باتت أخيرا بجانب الأتراك وأنفل العرب ففر الشيخ البائس يتبعه بعض ذويه وقد نجوا من ملحمة النار. ثم خطب الشيخ ود الباشا مستميلا إياه وطلب اليه المعذرة عما صدر منه ولكن الباشا رفض طلبه واقام مقامه شيخا غيره(7).
"اجل، زال حكم ثويني من البصرة ولكنه بقي يرأس عشيرة كبيرة تبذل نفسها لخدمته خدمة نصوحا لحبها اياه وشغفها به ولا يبعد ان يصبح عدو الباشا الأزرق ان لم يعده الباشا الى منصبه" أهـ.
مر الرحالة بالعراق قافلا من الهند ووجهته لندن فوصل اليها والقى عصا الترحال فيها ثم نشر رحلته وفي مطاويها كلمته الأخيرة عن الشيخ ثويني ثم جاءت الوقائع مصداقا لما ارتآه اذ اضطر والي بغداد سليمان باشا وهو في أحرج المواقف الى إعادة الشيخ ثويني الى منصبه للمرة الثالثة ليستعين به على محاربة الوهابي فتربع الشيخ على مسند(8) الحكم ورحل الى انحاء نجد للإيقاع بالعدو ولكن عبدا اسمه طعيس(9) (بالتصغير) وهو من عبيد جبور بني خالد اغتاله هناك في موضع اسمه الشباك(10) (وهو ماء في ديرة بني خالد) في اليوم الرابع من المحرم سنة 1212هـ (1797م) وقتل القاتل في ساعته وهو ينتمي الى الوهابيين وقد جرت قضيته مذ ذاك مثلا يضرب به عند المنتفق فيقولون: "باع بيعة طعيس" يريدون بها انه صمم على الأمر ولا يرجع عنه ولو يعقبه الموت الزؤام.ويقال ان قبر ثويني معروف في تلك الأنحاء.
وهنا اختتم حاشيتي التي جاءت كذيل لما أردت تعريبه من ذكر عهد تباعد وبقي تاريخه في تضاعيف الكتب والأسفار.

الحواشي
(1)Voyage en retour de l’Inde par terre… par Howell, M.D. Traduitde l’anglais par Theophile Mandras. Paris V(1797)p. 23-24.
(2)هي ابنته واصلها قريحاء تصغير قرحاء. وفي المنتفق في الغراف ارض اسمها" الاقرح" وأخرى اسمها تل قرحة(تل قرحا) ولابد ان اسم "قريحة" مأخوذ من المعنى الفصيح ويظهر إنهم أرادوا بقرحا بيضاء او ما ضاهى هذا المعنى(3) كتاب دوحة الوزراء بالتركية وهو في تاريخ العراق ومؤلفه رسول افندي حاوي ابن الملا يعقوب الماهوني الأصل وتجد ترجمته في جريدة "العرب" البغدادية عن عددها الـ28 المؤرخ في 3 ايلول سنة 1917 وكانت وفاته سنة 1242هـ (1826م)(4) كان متسلمها ابراهيم افندي (دوحة الوزراء) في وقائع سنة 1201هـ (1786م). وفي مختصر مطالع السعود بطيب اخبار الوالي داود: ابراهيم بيك. والأصل لابن سند منه نسخة مخطوطة في خزانة كتب جامع مرجان والمختصر لامين بن حسن الحلواني طبع في بومبي سنة 1304هـ(5) جاء ذكر الواقعة في دوحة الوزراء وجاء في رسالة تجارية مرسلة من البصرة معاصرة لهذه الحوادث ان "ثويني" استولى على البصرة في ايار سنة 1787م (1202هـ) ثم قدم والي بغداد فاسترجعها منه في آب من تلك السنة(6) سليمان باشا(دوحة الوزراء) وتاريخ جودت 4: 101(7) هو حمود الثامر السعدون دوحة الوزراء(8) وصفته في هذه المجلة2: 507(9) الطعمس التل من الرمل ولعلها تصحيف الدعص الفصيحة(10) عنوان المجد في تاريخ نجد(1: 75) ودوحة الوزراء ومختصر مطالع السعود. ويسمى بعضهم " الشباك" كأنها جمع " الشبكة" ويلفظونها بإسكان الشين وباء مبهمة الحركة وكان ينطق بها كالجيم الفارسية المثلثة وفي الآخر هاء وذكر معجم البلدان لياقوت عدة مياه بهذا الاسم ونسبها "والشبكة الآبار المتقاربة".
من كتاب (مباحث عراقية) ج1