أكتوبر أو 10 أيام هزت العالم

أكتوبر أو 10 أيام هزت العالم

عبدالعزيز
حين يذكر المخرج الروسي سيرجي ايزنشتاين فإن اسمه غالباً ما يرتبط بفلمه الأشهر Battleship Potemkin- 1925، الذي يتعرض فيه لثورة العمال ضد القيصر عام ١٩٠٥ والتي انتهت بمجزرة بشعة ضد مطالبات العمال السلمية وقتها بحقوقهم، صوّرها ايزنشتاين بطريقة بديعة في فلمه الذي لفت الأنظار إليه، والذي كان سبباً كافياً لأن تكلفه السلطات الشيوعية مع Grigori Aleksandrov بصنع فلم آخر يتناول الثورة التالية

التي أعقبت ثورة العمال، كانت تلك ثورة أوكتوبر الكبرى في ١٩١٧ والتي انتهت بانتصار النظام الشيوعي أخيراً بقيادة لينين وانتهاء الحكم القيصري، كان هذا تحفته الأخرى الأقل شهرة والأكمل سينمائياً October (Ten Days that Shock the World) – 1928. الفلم نفسه لم يحقق وقتها النجاح المتوقع منه، ففي حين كانت السلطات تتوقع بروباغاندا خالصة موجهة بكاملها لتمجيد الشيوعية واستفزاز خصومها، صنع ايزنشتاين تحفة شاعرية لا زالت تشكل إلهاماً عظيماً لكل السينمائيين في العالم بمختلف توجهاتهم الفكرية والسياسية. إنه عمل يتجاوز أي شيء صنع قبله، وسيبقى شاهداً على إمكانيات السينما الصامتة على أن تتفوق على أي سينما تطورت بعدها، وهذا ما جعله متفوقاً دائماً، الأمر الذي دفع زميله ومنافسه وقتها بودفوكين للتعليق رداً على الانتقادات التي تتهم الفلم بالفشل: كم أتمنى لو استطعت أن أصنع فشلاً ملهماً كهذا.
صورة استيعاب الأبعاد التاريخية للثورة لا يبدو ضرورة لإدراك بعده الجمالي، فرغم أجواء الحرب التقشفية إلا أنه من النادر أن تجد لقطة مجردة مما يستحق التأمل. ايزنشتاين لم يكن مجرّد رائد مبكر في نظرياته التي دفعت السينما خطوات كبيرة للأمام، لكنه أيضاً كان يملك شعرية بصرية لا زالت لا تقارن بأي مخرج آخر. فالفلم يتدفق في مزيج هائل من الصور التي تشكل بتلاحقها بلاغة بصرية حقيقية، وذلك من خلال ما يدعوه ايزنشتاين نفسه بـ"المونتاج الفكري”، إذ يخلق بمزج لقطة مع أخرى معنى مغاير للمعنى الذي كانت ستشكله اللقطة منفردة، قد يكون أشهر مثال عليها في هذا الفلم هو لقطة"الطاووس المذهب"الذي يرمز فيه لغرور أحد قادة الحكومة. هذا النوع من الرمزية يجعل من بعض المشاهد مادة خصبة لتعدد القراءات، وهو لا يسرف في إثقال فلمه به بقدر ما أنه يستخدمه بين حين وآخر كوسيلة لتمرير حكمه الخاص فيما يجري من أحداث.

صورة الفلم مصمم بطريقة تجعله محاطاً بالجمال من كل الاتجاهات، فالحدث الرئيسي للثورة يجري داخل"قصر الشتاء"العريق والذي كان مقراً للحكومة وقتها وتم العناية بجمال تصميمه، فحين يخطب أحدهم شاتماً ولاعناً نرى خلفه بوضوح قطعة أثرية خلابة النقوش، وحين يتدرب بعض الجنود فإنهم يفعلون ذلك وفي خلفية المشهد تمثال لطفل يخطو خطوته الأولى مع أمه. كما لا يمكن أن نغفل الدور العظيم للإضاءة المستخدمة للإضاءة هنا، الإضاءة التي تبدو كما لو أنها تبعث الحياة في التماثيل أحياناً، وتجعل الشخصيات الحية المضخّمة تبدو كالتماثيل في أحيان أخرى. ورغم كل هذا التشبث بإضافة البعد الجمالي للصورة فإن الواقعية تبدو جزءاً أساسياً من الحدث، والأسلوب الوثائقي للعمل جعله أشبه بشاهد على زمنه، إلى حد أنه تم استخدام مشاهد الثورة من هذا الفلم في العديد من الأفلام الوثائقية التي أتت لاحقاً كتجسيد للكيفية التي حدث بها الأمر، وسواء كان الأمر قد حدث في الحقيقة بنفس الصورة التي جسدها ايزنشتاين أم لا، فإن براعته كانت عظيمة بما يكفي لأن تمنح السينما أولوية على الواقع في صفحات التاريخ.

صورة كمية الجهد الذي بُذل في صنع الفلم أمر يصعب تصوره، فكل لقطة تبدو مدروسة لتظهر بهذا الشكل المتقن الذي لا يمنحها جماليتها الخاصة فقط بل يجعلها تتسق بتناغم دقيق مع الإيقاع السردي للفلم، ونحن نتحدث هنا عن فلم يحوي عدد هائل من اللقطات مصورة في مواقع متعددة ما بين القصور والساحات والسجون والشوارع والأزقة، وبطاقم ضخم يتجاوز الآلاف من الناس المتدفقين في المشهد، داخل المشهد نفسه تتنوع اللقطات من زوايا متعددة تكثف شعورك بفوضوية الحدث، ما بين لقطات متحركة مقابل لقطات ثابتة، ولقطات بعيدة تصور أحشاداً كبيرة من الناس مقابل لقطات مقرّبة تصور أفراداً منهم على نحو منعزل، وغيرها من أشكال التباين والتنوع والتضاد الذي يمنح الفلم ثراؤه البصري ويرسخ شعورك بالتوتر الذي يمتد طول مدة الفلم، هناك أيضاً لقطات مقرّبة على تفاصيل أخرى كنقش مكتوب على حد سيف، ولقطة تتبعها لقبضته المطعّمة بالجواهر وغير ذلك (هناك لقطات مقرّبة بوضوح إلى حد يظهر مرور رصاصة في جوف بندقية)، ورغم اكتظاظ الفلم بكل هذه الأنواع المختلفة من اللقطات المختلفة، فإن القدرة الاستيعابية للكاميرا لا تقتصر في كونها تلتقط خصائص الحركة التي تصنع جمال اللقطة فحسب، بل أيضاً ما يصنع تأثيرها التراكمي على مسار الفلم ككل، كل شيء محسوب مسبقاً دون أي أثر للارتجال، لذا يبقى السؤال محيراً عن التكنيك الذي اتبعه ايزنشتاين ليصنع هذه اللقطات المتعددة في نوعيتها وكميتها وجمالياتها ثم يجمعها معاً بهذا التماسك، والجواب لابد أن يكون أحد أوجه الإبهار الكثيرة في هذا العمل.

صورة إنه فلم صامت بمعنى الكلمة، فالحوارات تكاد تكون معدومة، والصورة تعج بديناميكية هائلة، انظر كمية الحركة التي تحدث في لقطة مقرّبة إلى هذا الحد في مشهد تعرّض البلشفكي للضرب مبكراً في الفلم. كل التفاصيل يتم استيعابها على الشاشة في تجسيد كامل للحظة يظهر فظاعتها على نحو بالغ في الإتقان. غير أن المشهد الأكثر شاعرية برأيي، ربما في كل أعمال ايزنشتاين، ولن تعد مبالغة إن اعتبره أحدهم الأكثر شاعرية في تاريخ السينما، هو المشهد التالي لهذا، أثناء المجزرة التي ترتكبها الحكومة القيصرية ضد البلاشفة، تستلقي امرأة ميتة في الحد الفاصل بين نصفيْ الجسر الذي تجري فيه المجزرة، حيث تأمر الحكومة القيصرية برفع الجسر لمنع الثوار من التقدم، وفي اللحظة التي ينقسم فيها الجسر منفصلاً من المنتصف، لا يصوّر ايزنشتاين عندها الأشخاص المتراكضين والثوار في حالة الهلع وكل الفوضى التي تحصل في المشهد، بل يركز فقط على الطريقة التي ينسدل بها شعر المرأة بين نصفيْ الجسر، وعلى الطرف الآخر من الجسر الذي يرتفع هناك حصان معلق مشدود إلى عربته التي تنفصل عنه شيئاً فشيئاً مع ارتفاع الجسر، إن تفاصيلاً بهذه الهامشية تصنع تراجيدية اللحظة بشكل أبلغ من أي شيء آخر، مصير الحصان والعربة يصبح مرآة لمصير الإنسانية، إنه يسرق الاهتمام حتى من لقطة المرأة التي ينشطر شعرها بين جسرين،يتغير إيقاع الفلم عندها، فبدلاً من المونتاج السريع الديناميكي في المشهد السابق الذي يتم خلاله ضرب البلشفكي، يهدأ كل شيء الآن، يبطئ ايزنشتاين رتم الصورة في اللحظة التي يزداد فيها توتّر الحدث، وهذا التباين يحقق تأثيره على نحو مذهل، مندمجاً بكونشرتو الكمان لبييتهوفن على نحوى ينأى بجماليته الفريدة إلى أقصى الحدود التعبيرية للسينما.

3إن النضج المذهل الذي طرأ على رؤية ايزنشتاين يجعل من هذا الفلم درساً خصباً في اللغة السينمائية لم يفهمه نقاده، السلطات الشيوعية خصوصاً التي ظنت أن الفلم معقد أكثر من اللازم بالنسبة لهدفه، فيما هو اليوم أحد أعظم أمجاد السوفييت لو كان يمكن لهم أن يفتخروا بأي من إنتاجاتهم. حماسة إيزنشتاين اتجاه النظام الشيوعي التي يُنتقد عليها اليوم كانت هي المنبع الأساسي الذي يمد أفلامه بقوة تعبيرية هائلة، وهو الذي كان يقول: (أعطتني الثورة أثمن شيء في حياتي، لقد جعلت مني فناناً). ما صنعه ايزنشتاين في النهاية لم يكن مجرد فلم عن الثورة، إنه بطريقته الخاصة أيضاً فعل ثوري غيّر شكل السينما للأبد.

عن الحوار المتمدن