المصور مع رجال الفكر العربي..وحدة في صومعة..مع كتبه وخمسة كلاب!

المصور مع رجال الفكر العربي..وحدة في صومعة..مع كتبه وخمسة كلاب!

ولد في لبنان، وعاش حياته يطوف العالم، واصبح علما من اعلام الفكر السياسي في الشرق الاوسط.
ولايزال القراء في البلاد العربية، يذكرون مقالاته وبحوثه التي كانت تنشرها جريدة"الاهرام"في صدر صفحاتها، خلال جولاته في اوروبا قبل الحرب العالمية الاخيرة، وبعدها!


وعندما تولى منصب سفير لبنان في ايطاليا، كان يبعث الى وزارة الخارجية اللبنانية بتقارير دقيقة عن خطوط السياسة الاوروبية، وكانت هذه التقارير قطعا رائعة، يتلقفها رجال الخارجية في لبنان ويقرأونها حرفا حرفاً.. ومن هذه التقارير السرية، تقرير خطير عن تصرفات فاروق الماجنة في"كابري"وملاهي روما، وكان فاروق ملكا في ذلك الحين، ومع ذلك فقد وصفه بانه"وصمة في جبين التاريخ المصري"!
أما اليوم، فقد اعتزل المفكر الكبير مناصب السياسة، ومال عن الميدان، وبنى داره في اعلى هضاب"برمانا"بلبنان، وهناك بين حديقته التي يتولى الاشراف عليها بنفسه، وبين داره التي تضم اروع اللوحات، وانفس الكتب والمؤلفات.. يعيش المفكر الاستاذ اميل خوري..

يعيش وحده مع كلابه الخمسة، وهو يعتقد ان اعجابه الشديد بالمرأة، هو الذي جعله يمتنع عن الزواج!
وذهبت اليه، في"برمانا"، على بعد ثلاثين دقيقة بالسيارة من العاصمة"بيروت"!
وكان مساء يوم مشمس بديع، وكان الجبل الذي تتخلله غابات الصنوبر، يبتسم، وعلى روابيه بقايا دموع الامطار!
عندنا وعندهم
وكان الاستاذ الكبير، ذو الشعر الفضي، يشرف على"تسميد"شجرة تفاح في حدائقه، ويقول للفلاح الذي يعمل عنده:"احفر بعيدا عن الشجرة.. عند عمق الجذور".
فقلت له:
- هل انت منصرف تماما الى زراعة التفاح؟
- ما تريد؟ من يسكن في الريف فعليه ان يكون فلاحا حقيقيا.
- وهل هذه القاعدة معمول بها في السياسة؟
- دعنا من السياسة.
- يقال يا سيدي، ان السياسة كالقمار، ليس من السهل ان يبرأ الرجل منها، فهل استطعت ان تحقق المعجزة؟!
وهز رأسه مبتسما وقال:
- القمار داء لم اصب به، فلا استطيع ان اقارن بين صعوبة الابلال منه، وبين استعصاء داء السياسة على محترفيها متى ارادوا البرء منها.. ولكن ماذا عنيت بالسياسة في سؤالك؟ ان للسياسة معاني عدة، ومفهومها في هذه البلاد يختلف كل الاختلاف عنه في غيرها فاذا كنت تعني السياسة بمفهومها اللبناني، فهي براء مني، وانا براء منها!
وشعرت بالمرارة تظهر مع كل كلمة من كلماته، فقلت:
- وما الفرق الذي تعنيه؟
- ما كنت اظنك محتاجا الى مثل هذا التفصيل الذي تطلب، فالسياسة هنا شهوات ونكايات، وعنعنات طائفية واقطاعية واقليمية او قروبة، فلا احزاب بالمعنى الصحيح الا اثنان او ثلاثة وكلها في طور المهد.. ومادامت الحال على حالهاا، فالسياسة عندنا اسم لغير مسمى، والديمقراطية مهزلة ليس لنا منها الا القشور والمظاهر، اقرب الى الاتوقراطية منها الى الديموقراطية، ولن يستقيم الامر الا بتطهير كل فكرة سياسية من الاعتبارات الاقطاعية والطائفية، وبتأليف احزاب على هذا الاساس، يكون كل منها مفتوحا، لا لابناء طائفة معينة، بل لجميع اللبنانيين بدون استثناء، واذا عجزت انفسنا عن هذا العمل، فقل اننا سنبقى متخلفين عن الركب.
رجال التاريخ
وكنا قد دخلنا الصالة التي ازدحمت جدرانها بلوحات كبار الرسماين، فقلت للاستاذ الكبير:
- ايهما اكثر نفعاً للناس: رجال الفن والفكر، ام رجال السياسة؟
- رجال الفن والفكر بدون شك، هذا اذا وجدوا، واقل رجال الساسة فائدة هم الذين لا يفكرون، ويؤلمني ان اقول لك ان عددهم عندنا ليس بقليل!
- من هو السياسي المثالي في نظرك؟
- في اي بلد؟
- في العالم اطلاقا.
- هو الذي يكون على خلق متين.. ومتانة الخلق تعني في ما تعني، كبير النفس، ونظافة الكف، والوفاء للمبدأ وان يكون على ثقافة واسعة، يستوعبها ويسترشدها كلما قامت في وجهه عقبات وتعقدت المشاكل بين يديه.
- واي نوع من الثقافة يحتاج اليها الرجل السياسي؟
- الثقافة التاريخية.
واستطرد، وقد عادت المرارة الى صوته:
- انا اعلم ان بعض رجال السياسة في البلاد العربية يستدبرون تعاليم التاريخ، او يجهلونها، بل ان منهم من يتباهى بهذا الجهل!
- اي رجل في التاريخ تأثرت بشخصيته وتمنيت ان تكونه؟
- اذا اردت التخصيص، فاني اقول ان انفع رجال السياسة في العصور الحديثة، كانوا اولئك الذين وضعوا معاهدة فينا عام 1814، فاعطوا للدنيا وعلى وجه التخصص لاوروبا والبلاد الواقعة حول المتوسط، عهداً هانئا آمنا مستقرا دام قرنا كاملا، وهذا العهد، كان في ما اعتقد، اجمل العهود التي عرفتها الشعوب الظمأى الى الامن والتعاون والتفاهم، ومرد هذا، ان ابطال معاهدة فينا، كانوا يعطون للمشكلات التي يعالجونها الوقت الكافي لدرسها، ووضع الحلول اللازمة لها. والفرق بينهم وبين رجال السياسة في العصر الحاضر، ان هؤلاء يعطون للمآدب وحفلات الاستقبال والرقص وما اليه، وقتا يضعف فيهم قوة التفكير ويضطرهم في امور كثيرة الى الارتجال.
الشيطان التائب
وكان الاستاذ الكبير قد تذكر شيئا فقام من مكانه، وتناول كتابا كان ملقى فوق مقعد، واعاده الى مكانه في المكتبة.
وقلت له:
- ما هو آخر كتاب قرأته؟
-"الشيطان".. للكاتب الايطالي المعاصر "جيوفاني بابيتي" ، وهو من المفكرين الذين انا معجب بهم.. وهو يدور حول"كبير الملائكة الذي سقط في الخطيئة، فطرده الله من السماء، فنزل الى الارض يزرعها فسادا حتى تعب من الفساد، ولم يعد يجد طعما للبطولة في التغلب على البشر، ضعاف النفوس والارادة، فهدته قديسة حسناء الى التوبة والعودة الى طاعة الله"!
- بمناسبة الحديث عن كتاب"الشياطن"هل لي ان اسألك عن الوصايا العشر، التي تستطيع ان تقدمها للشبان، الذين يسيرون على الطريق الذي سبقتهم اليه؟
- ولماذا الوصايا العشر، هل انا موسى جديد؟
- كم وصية تستطيع ان تعطي؟
- وصية او اثنتين، الوصية الاولى ان لا ينقطع الشبان عن الدرس والمطالعة، والوصية الثانية ان ينأوا بانفسهم عن الغرور، وان يربأوا بها عن مواقف الاعتذار!
أين الزوجة؟
وخرجنا الى الحديقة، وكان المساء قد القى رداءه على غابات الجبل، والقمر يلف الروابي بغلالة شفافة من النور..
وكان في منتصف الحديقة، تمثال من البرونز، منتصباً بين مشاتل الزهور والرياحين، يمثل حسناء وهي عارية، كما تخيلها الايطال"سيدوني"وكان من الصعب ان يعرف الزائر لاول مرة، ان هذا تمثال من البرونز، وليس امرأة عارية تسري في الحديثة فوق اجنحة ضياء القمر..
وفجأة التفت الى الاستاذ الكبير وقلت له:
- لماذا لم تتزوج؟
وهل انت سعيد هكذا؟ وحيدا، في قصر فوق جبل، وكانك في عالم بعيد؟ الا تشعر بالوحشة؟
- ان الرجل الذي يعيش هنا بين طوائف وطوائف من الذكريات، وتحيط به كلاب تسهر اذا نام.. وتصوم اذا غاب، لا يكون وحيداً..


المصـــور / 1948