نبي الفن المعاصر

نبي الفن المعاصر

مصطفى درويش
فارق الرسام العالمي الاشهر فان كوخ الحياة في التاسع والعشرين من تموز- يوليو من عام 1890 وكان قبلها بيومين قد اطلق على نفسه الرصاص أثر نوبة من نوبات الاكتئاب التي كان يعاني منها بسبب مضاعفات مرض الصرع واحساسه الدائم بالفشل وعدم القدرة على تحقيق أي نجاح يذكر

فهذا الفنان الذي تباع لوحاته حاليا بالملايين لم يبع الا لوحة واحدة في حياته كلها (صحيفة الهدهد الدولية ) أرسلت مصطفى درويش في هذه المناسبة ليزور متحف فان كوخ بامستردام ويعود بانطباعاته عن الرسام الهولندي وزوار معرضه الذين يقفون في طوابير طويلة لالقاء نظرة على اعمال لم تلفت قبل قرن من الزمان الا بعض العيون المدربة .
لايوجد أطول من الطابور الذي يمتد عشرات الامتار أمام متحف فان كوخ ليصل الى متحف( ريكش )المجاور الذي يحتفي برمبرانت غير متحف آن فرانك الفتاة اليهودية التي اختفت في غرفة ضيقة خلف كنيسة وكتبت يومياتها قبل أن يعثر عليها الغستابو ويسوقها الى معسكرات الأعتقال النازية لتختفي مع من أختفى في تلك المعسكرات الرهيبة.
ويمكن المقارنة بين الطابورين لا من حيث الطول فقط بل من حيث نوعية الواقفين فعند آن فرانك التي أختفت آثارها في السادسة عشرة من عمرها يكثر المواهقون الذين قرأوا مذكراتها في المدارس اما عند فان كوخ فتزيد الأعمار وتبدو الأناقة على سياح من مختلف القارات جاء بعضهم خصيصا ليباهي بعد عودته بأنه زار فان كوخ .
يبدأ المتحف وقبل البورتريه الشخصي المهيب الذي رسمه فان كوخ لنفسه بلوحة ( كوخ هاتن ) وهو بيت ريفي في بلدة (درينث) الهولندية أقام فيه الفنان المحب للريف والطبيعة بعض الوقت ومنه تعلم كما يبدو حب الأرياف فقد كانت المدن تصيبه بالانهيار العصبي لذا ترى أفضل أعماله منجزة في الريف وخصوصا بلدة آرل الفرنسية التي عاش فيها مع غوغان قبل أن يتخاصما وتنبت اشاعة الاذن المقطوعة الممنوحة لفتاة البار في حانة تلك البلدة .
أن حب كوخ لغوغان يتجلى في لوحاته فأجمل رسومه وأغلاها ثمنا هذه الايام كلوحات عباد الشمس وكرسي غوغان والبيارتان البيضاء والزهرية وأشجار الدراق والاجاص المزهرة رسمها كوخ ليزين بها غوغان غرفته أما غرفة فان كوخ نفسه فهي محفوظة في لوحة (غرفة النوم ) المتقشفة التي عاش فيها بسريرها الأصفر وطاولتها المخلعة المحاطة بكرسيين يحجب مسنداهما بعض ثياب الفنان المعلقة على الجدران كأي طالب فقير لا يمتلك ثمن خزانة .
وقد كان فان كوخ فقيرا ككل أصحاب المثل العليا ولولا مساعدة أخيه ثيو لما رسم ولا عاش على الكفاف لكن مأثرة أنتشاره تعود – أحقاقا للحق – الى زوجة أخيه ( جو فان كوخ بورجر ) فهي التي حافظت على 1100من رسومه و800 رسالة من رسائله و900 لوحة وكل هذا الخليط يوضح خلفيات مآسيه واليها يعود الفضل في أنشاء متحفه الحالي وسط أمستردام فلولا أخلاص هذه المرأة لاندثر فان كوخ في جملة ما اندثر من أصحاب المواهب في كل زمان و مكان .
ويركز متحف الفنان تركيزا خاصا على تطليق كوخ للمرحلة الانجيلية فيفرد جدارا كاملا ليظهر كيف بدأ الانجيل يختفي من عالم فان كوخ وتحل مكانه أفكار الكاتب الفرنسي أميل زولا ففي أحدى تلك اللوحات يختفي الكلام من صفحات الانجيل الذي حمله من والده ليعطيه لأخيه لكن رواية أميل زولا ( متعة العيش ) تظهر بوضوح بغلافها القديم الأصفر الذي يعرض المتحف نسخة منهالى جانب أنجيل الفنان داخل جام من الزجاج قريب من لوحات المرحلة الأنجيلية .
ولا يعادل الزحام عند اللوحات الأنجيلية غير الزحام عند لوحته الشهيرة ( آكلو البطاطا ) التي تلخص بوجوه أصحابها وفانوسهم الشحيح الاضاءة بؤس قرن بأكمله ثم يخف الزحام ليعود أكثر اكتظاظا عند مرحلة آرل الفرنسية وسان ريمي التي دخل فيها الفنان الى المصحة وبدأ حينها برسم عدة بورتريهات لطبيبه الدكتور غاشيت الذي أشرف على علاجه من مرض الصرع الذي يقف كما يعتقد النفسانيون وراء نوبات اكتئابه التي قادته الى الانتحار .
كان من يخالفون هذا الرأي يقولون لماذا البحث عن مرض بعينه والفنان يعترف بقلمه أن فشله من النوع المزمن الذي لا علاج له لذا ابرز منظمو المتحف في بداية معروضات متحفه عبارته التي كتبها قبل فترة قصيرة من أنتحارة حين خط بقلمه ذلك القول الممض الحزين ( أني احس أحساس انسان فاشل وأشعر أن الفشل هو قدري الحقيقي ولا سبيل لتغييره ) وبعد هكذا أحساس كان لابد من أن تأتي الرصاصة التي صنعت نهاية فنان كبير أغترب عن أهل عصره ووجد العزاء في الريشة والالوان ملبيا نداء الفن مع أنه لم يتعلمه في أية مدرسة لكنه كان يحس كما قال في أحدى رسائله التي يبتدئ بها المتحف بأنه يجب أن يترك ذكرى مختلفة للانسانية وهذاعين ما فعله فكل ما في متحفه يحكي قصة صراع الانسان مع ظروف أقوى منه يقاتلها الى أن يتعب وقبل أن يختفي يقول لمن يأتي بعده رسما وكتابة أو موسيقى : أشهد أني عشت وحاولت أن أجعل الحياة أكثر جمالا مما هي عليه فعذرا أن لم أستطع .
وعودة الى البورتريه الشخصي في بداية المتحف لا بد من أن تشاهد العين المدربة كيف كانت ريشة الفنان بضرباتها الرهيفة تتجه الى الأعلى لتخلق هالة حول رأسه تشبه الهالة التي يرسمها فنانو القرون الوسطى حول رأس المسيح عليه السلام فهل كان فان كوخ يحس بأنه أحد أنبياء الفن الحديث ؟ ربما نعم وربما لا لكن أعجاب البشرية بفنه الراقي والمتعاطف مع ما حوله رغم مآسيه يسمح له بأن يحتل ذلك الموقع الرفيع.