فان كوخ.. .. حرب ضد الجنون

فان كوخ.. .. حرب ضد الجنون

ترجمة: رنده القاسم
في الثاني من أيار 1889 ، كتب "فينسينت فان كوخ" رسالة لأخيه (ثيو) من مشفى في (أرليس) الفرنسية ليكشف عن نية لا تحتمل. إذ قرر ،و لأسباب عدة، بأن أكثر ما يناسبه هو الانضمام للجيش . و أعرب "فينسينت" عن قلقه من رفض محاولته بسبب ما أسماه "الحادث"

و بالتأكيد هذا ما كان . أما الحادث فهو ما وقع خلال فترة أعياد الميلاد في السنة السابقة ، إذ عانى من أزمته الشهيرة و بلغ الأمر ذروته مع قطعه لأذنه. و بعد ذلك أصابته سلسلة من الانهيارات العقلية و كان من بين أعراضها الهلوسة السمعية و الخوف من أن جيرانه يحاولون تسميمه .و أمضى معظم السنة مع مراقبة طبية.
و لكن الغموض و المفارقة في قضية فان كوخ، و هي الأشهر في تاريخ الفن، تكمنان في أنه خلال الأشهر التي أدت لهذه الكارثة بل و حتى بعد وقوعها باستثناء فترة المعاناة الحادة، استمر فان كوخ بالعمل و رسم روائع فنية تعتبر الأشهر عالميا مثل "كرسي فينسينت" و " كرسي غوغان" و كلاهما في تشرين الثاني 1888.إذن ما هي مشكلة فان كوخ؟ و هل ساعدته أم أعاقته؟ بكلمة أخرى هل كانت مشاكله العقلية مكملة لموهبته أم أنها واحدة من المشاكل الكثيرة التي عانى منها؟ و لكنها بالتأكيد كانت السبب في رفض الفيلق الخارجي الفرنسي رغبته بالانضمام له ، و كان فان كوخ قلقا من أن تعتبر رغبته هذه تصرفا مجنونا أو محاولة للتضحية بالذات ، و أشاربحزن إلى إرادته العيش في بيئة تجبره على إتباع القواعد كما في المشفى أو الجيش فعندها فقط سيشعر بالهدوء.
و بعد أقل من أسبوع في 8 أيار سمح له وفقا لرغبته بالدخول إلى مشفى الأمراض العقلية و بقي هناك لأكثر من سنة و غادر ليعيش شمال باريس تحت إشراف الطبيب ، و هناك أطلق بنفسه رصاصة على صدره في 27 تموز 1890 و مات بعد يومين و هو في السابعة و الثلاثين من عمره.
التراجيديا الحادة التي غلفت حياته خلقت صورتين متناقضتين عن فان كوخ. فالعامة تراه فنانا بدائيا مجنونا ، يعمل وفقا لنوبات من الإلهام و يشرب المسكرات حتى الثمالة و يتصرف بغرابة.و من جهة أخرى يفضل مؤرخو الفن التأكيد على فان كوخ آخر: مفكر و قوي الملاحظة أعماله نتيجة لتخطيط حذر هذا عدا أن رسائله تكشف النقاب عن إنسان ذكي و فصيح.و الواقع أن الصورتين تحملان شيئا من الحقيقة .لأن فان كوخ قام بأفعال غريبة و لكن غير مؤذية وفقا لشهادات جيرانه في أرليس ،و كان سكيرا و هو نفسه تحدث عن ذلك و اعترف بأنه وصل لدرجة الأصفر الفاقع بخلط قهوة مع كحول.و لكنه كان يعمل بسرعة مدهشة و تباهى بأنه خلال ساعة فقط رسم السيدة جينوكس زوجة صاحب مقهى و ذلك عام 1888بداية تشرين الثاني. غير أنه طالما اشتكى من الشعور بأن دماغه أثناء الرسم يبذل جهدا كبيرا في الحسابات الجافة لأجل الموازنة بين الألوان ،كحال ممثل يؤدي دورا صعبا على خشبة المسرح ، حيث عليك التفكير بآلاف الأشياء في وقت واحد خلال نصف ساعة و لكن الشيء الوحيد الذي كان يعزيه و يلهيه الخمر أو الكثير من التبغ " و كل ذلك قد يبدو تصرفات بوهيمية ، لكن ،وفقا لرسائله و اسكيتشاته، كان فان كوخ يفكر مسبقا بكثير من الوضوح.فالسيدة جينوكس عملت لأشهر في الفندق الذي أقام به و بلا شك قدمت له الكثير من المشروب ما يعني أنه امتلك الكثير من الوقت للتفكير بكيفية رسمها قبل القيام بذلك فعليا وسط نوبة من الطاقة. والأكثر من ذلك أن فان كوخ كان قارئا و يفكر بعمق و كان شرها في قراءة الروايات و الجرائد و بشكل عام يميل مؤرخو الفن إلى اعتبار مشاكل فان كوخ العقلية غير ذات صلة و ركزوا على أعماله و كلماته .فمن الصعوبة بمكان تشخيص حالة رجل مات قبل مائة و عشرين عاما.و لكن هذا لم يحول دون محاولات كثيرة نتج عنها افتراضات متفاوته مثل : تسمم بالرصاص ، الهلوسة ،داء ميينيير، ضربة شمس حادة ،شيزوفرينيا ، الزهري، الصرع، عدم توازن في الهرمونات أو اضطراب في الشخصية.و لكن هل من طريقة للحد من هذه الافتراضات الطبية؟ ربما ، و لكن لا يمكن أن ننكر وجود مشكلة راسخة و مستمرة أتعبت فان كوخ كما قال هو نفسه.
و بالمقاييس التقليدية، كانت حياته غريبة الأطوار، فأبوه كاهن هولندي قرر أن يعمل ابنه الأكبر فينسينت في تجارة الفن غير أنه ترك هذه المهنة و اتبع خط أبيه , و لكنه لم يكمل محاولته بتعلم اللاهوت و عوضا عن ذلك أضحى واعظا في مناجم الفحم البلجيكية و لم يكن يملك المؤهلات في المدرسة التبشيرية و رغم ذلك تابع الوعظ إلى أن تم طرده.و استمر بالعمل التطوعي إلى أن قرر أخيرا أن يغدو رساما.و المذهل أنه خلال السنوات العشر الأولى رغم بدايته غير المستقرة و المفتقدة للتدريب أبدع واحدة من أهم الأعمال في الفن الغربي.و إلى حد ما لملم الفن شتاته و يمكن القول بأن الجهود اليومية للفت انتباهه للواقع ، على سبيل المثال رسمه للكرسي،كانت عملية علاجية حتى و إن كان الأمر ينتهي به إلى زجاجة الخمر.و استمر فان كوخ ببذل الجهود باستثناء الأوقات التي كانت حالته العقلية في الحضيض .و هنا نتحدث عن جانب آخر في مشكلته و هي أنها كانت متقطعة فبعد أيام من الأزمات الحادة يعود لانجاز روائعه. و هذا الأمر قد يفترض إصابته بالاكتئاب المهووس أو ما يسمى هذه الأيام بالاضطراب ثنائي القطب.إذ كان يمر بفترات اكتئاب يتلوها فترات من الطاقة و الابتهاج.ولكن يبقى الشيء الأكيد بان المشاعر التي كان يرى فيها الأشياء العادية و يصورها تعبر عن حالة من اليأس مع محاولات لربط نفسه بالواقع . فان كوخ لم يكن فنانا مجنونا و لكن رسام عظيم جدا خاض حربا داخلية ضد الجنون.

عن The Times