فرج عبو اكتشاف التنويعات الفنية

فرج عبو اكتشاف التنويعات الفنية

تتحدث ملامح ابداعات وتجليات الفنان، اي فنان، بالمرحلة التاريخية التي يعيش مناخها ويخوض غمارها فاذا كانت طفولة الفنان فرج عبو النعمان قد ارتبطت بالفن والادب والمسرح، فان المرحلة التالية وما بعدها، قد ارتبطت بالواقع الذي يشكل امتداداً لبداياته التي عاشها في مدينة الموصل، تلك المدينة التي استطاعت ان تحافظ على تقاليدها العربية الاصيلة.

واذا كان الفنان قد بدأ الرسم في سن مبكرة، ورسم عدة ديكورات للمسرح، او اعمالاً فنية، ومنها صورة للقديس (اشعيا) (1936) في كنيسة (مار اشعيا) بالموصل، وبعدها كتب المسرحية وقام باخراج عدد منها، وابرزها "المال والبنون" و"الوزير المحترم" وهما من تأليفه، فانه بعد ان انجز دراسته الاولى، قد بدأ يحاور واقعاً هو حصيلة الشعور الوطني والقومي معاً: اي واقع التغيير والحلم ببلورة الفن الذي يوازي معطيات التغيير نحو الجديد الاصيل.
فقبل مرحلة الرواد، وهي مرحلة تبلورت سماتها قبل ثورة "1958" لم يكن ثمة ما يشكل الا البدايات، وهي بدايات فذة مقارنة بالواقع الفني السائد انذاك. لكن الواقع تغير، وقد جعل "الفنانون" الشباب يسعون للامساك بالمداخل الاولى للفن: كدراسة الواقع، والحرص على بلورة رؤية ذات ارتباط عميق بجذوره، وهذا ما يوضح لنا، على سبيل المثال، تعدد التجرب التي مر بها الفنان، ومنها التجريد بشكل خاص او الفن التجريدي الاسلامي. بمعنى ان الفنان كان يعيش مرحلته في محاولة للخروج بمحصلة جديدة، اجابة على اسئلة المرحلة.
وكانت الاسئلة انذاك واضحة ومباشرة. بيد ان الرد عليها كان بحاجة الى ارادة ابداعية، او الى مواهب تناسبها على الاقل. وهي موهبة تتطلب قدرة على تطويع الاسلوب للموضوعات الحديثة.
وفي تلك المرحلة – الرواد – كان السؤال الاساسي يعني: ما معنى الفن؟ وكانت الاجابة واضحة: الفن هو مرآة الواقع، وهذه كلمة قالها جواد سليم واشار اليها اكثر من مرة. وثمة سؤال آخر: ماهو الفن الواقعي؟ وكانت الاجابة عليها لدى جواد سليم او فائق حسن او محمود صبري، قريبة لاجابة الفنان فرج عبو: اي كون هذا الجيل كان يسعى لجعل الفن مرآة للواقع. والاجابة العملية هنا تتوضح بخلق الفن الواقعي بابعاده الشاملة: الانتباهات للبيئة، الماضي، وللفن العالمي الحديث الذي دخل في صميم التجربة الفنية الخلاقة، وانصهر في نسيجها المعماري.
ان اجابات فرج عبو "عامة" في هذه المرحلة جسدت واقع الفن التشكيلي بالتركيز على الاساسات الواقعية للفن، ومنها محاولته المستمرة لبلورة "الهوية" والتأكيد على ابعادها الفنية. وهذا ما نراه صريحاً في افاق تجربته التي امتازت، ضمن هذه المرحلة، بخصائص خلاقة.
فاذا كان فائق حسن، قد حافظ على بلورة رؤيته الواقعية، وجواد سليم على خلق وحدة عضوية لرؤيته العامة، ومحمود صبري في منح الانسان قيمة تعبيرية، وشاكر حسن بعداً روحياً للفن، وجميل حمودي مناخاً عربياً للفن وخالد الجادر عشقاً للغنائية، واسماعيل الشيخلي ارتباطاً عميقا للقرية العراقية، فان الاستاذ فرج عبو، هو الآخر، حاول اكتشاف التنويعات الاسلوبية، في مجاله الفني.
فهو ضمن مرحلة الرواد، حاول ان يخرج بحصيلة فنية اسلوبية جديدة، وقد استطاع عملياً ان يحافظ على تقاليد هذه المرحلة التأسيسية، وفي الوقت نفسه ان يمضي بها الى ابعادها الاخرى: حيث تخلى ، مثلا عن المهارات "المدرسية" – الحرفية – وعن المفاهيم الاولية للفن، وبالتالي فانه استطاع، بعد سنوات من العمل والمثابرة، ان يجرب الاسلوب التجريدي الذي عكس عمق رؤيته الانسانية، محققاً بذلك بعدها الجمالي لها.

الواقعية/ البيئة
برهن تاريخ الفن العام ان التجارب الفنية الاصيلة، ذات جذور خفي او معلن بالواقع. بمعنى انها وليدة الشروط الاجتماعية والثقافية. ضمن هذا الغرض تكون تجربة فرج عبو قد تبلورت باستيعابها للشروط الواقعية في تجربته. فهو، مثل ابناء جيله، كان على تماس بالبيئة التي خبر تفاصيلها: الحياة اليومية، الطبيعة، العادات، فضلا عن التراث العربي الاسلامي العريق.
ان المعنى الواقعي لاعماله لا يتجسد في بداياته او في مراحل تجربته الفنية فحسب، وانما في الاتجاه العام لتجربته واعماله. فقد بدأت تجربته بدراسة الواقع المتطور في مختلف ابعاده. كذلك من خلال البعد الصريح للواقع انتقل الى تجسيد الحركة الداخلية له. من هنا بلور الفنان الخطوط العامة للمحتوى النظري لاعماله: المحتوى المرتبط بالابعاد المرئية للاشكال. وبالابعاد الاكثر تجسيداً للمحتوى الداخلي لها.
في الجانب الأول صور الطبيعة بغنائية تتجسد فيها بهجة الطبيعة ومعالمها الجمالية: انه تجسيد او احياء او منح الواقع بعداً متطوراً ومنظوراً اليه من زاوية واقعية. ففي اعماله عن شمال العراق، التي تصور الغابات والجبال والوديان والشلالات ثمة شعور بالسعادة يمنح العمل الفني موسيقي نشوانه. في الوقت ذاته هناك احياء للاتجاه الواقعي في الرسم: اي الذي يعيد بناء الواقع من زاوية واقعية. صحيح ان الفنان لم يلتزم باسلوب واحد، ولكنه، ضمن، الاتجاه الانطباعي والطبيعي، يكون قد برهن على فكرة في خلق المناخ المرتبط بالوحدات الاساسية للواقعية: فعندما صور الطبيعة لم يغفل حركتها الداخلية، وما تعنيه من تجليات جمالية وفنية. كذلك في اعماله الاخرى التي تصور معالم الواقع حيث يركز على الانسان ضمن ارتباطه بالمحيط العام: ففي اعماله عن "عمال الموانئ" – وهي دراسته للماجستير في مصر العربية – يكشف عن الصلة القائمة بين الانسان والبيئة: الانسان والطبيعة، ففي هذه الاعمال التي تصور شقاء وكدح الانسان ثمة كشف صريح عن واقعه بابعاده الصريحة: هناك تصوير دقيق لعمال الموانئ، وتصوير واقعي للمناخ العام الذي يحيط بهم والذي يمتزج بتجربتهم الحياتية. اي هناك صلة قائمة خلق الفنان مناخه منها، وبلور بصورة دقيقة محتواها الواقعي. كذلك في اعماله المستوحاة من التراث عبر الفنان عن التزامه بخلق الروابط بين الرموز التأرخية ودلالتها المسمتدة من البعد الطبيعي جاعلاً من العمل صلة تربط الحاضر بالماضي من منظور يحافظ فيه الشكل على قوته التعبيرية والمضمون على بعده الواقعي.
وفي الجانب الثاني، وهو الاتجاه التجريدي العربي الاسلامي، يستلهم الفنان البعد الآخر للواقع: انه يغوص في اعماق، ودلالات الاشكال والرموز خالقاً منهما اتجاها او مناخاً شديد التعبير، اي هو يستوحي من البعد الرمزي – الروحي – للابعاد الواقعية للدلالات التي تكمل الجانب الاول.
من هنا وبسبب هذا المنظور اقام الفنان علاقة متوحدة ومتحدة للاشكال الخارجية بالبعد الداخلي لها: العلاقة الموضوعية التي افضت بالفنان لاكتشاف الاسرار الكامنة وراء الاشكال والسطوح. وبهذا الاكتشاف يكون قد بلور تجربته العامة من منظور شامل في منح البعد الواقعي دلالات متعددة في تجسيد تجربته الفنية: اي منح المضمون قدرة الايحاء، والشكل قوة التعبير.

التجريد واستلهام التراث العربي الاسلامي
كان معرض الفنان التجريدي في اوائل العقد السابع، يشكل مرحلة جديدة في اتجاهه الفني. فبعد ان امضى سنوات طويلة في رسم الواقع ودراسته التفصيلية ذات الطابع الاجتماعي والنفسي، يعبر في هذه التجربة او هذا الاتجاه، عن منظار ىخر، وبرؤية جديدة.
ان هذا المنحى يكشف اساساً عن تعدد دراسات الفنان للاساليب التجريدية او ذات الاتجاه التجريدي، وهي متعددة: منها دراساته للتراث العربي الاسلامي، والتجاري الاوروبية المختلفة، واعماله الفنية تكشف عن هذه الحصيلة: بمعنى انها تخلينا الى فكرة اساسية: وهي عملية الاختزال للاشكال التي تستقصي الفكرة/ المضمون، في التعبير الاخير.
فهناك تجارب تجريدية ذات طابع سوريالي، حيث تتحول الاشكال الى رموز تعبيرية، ويتحول مناخ العمل الفني باسره الى دلالات تعبيرية متعددة. كذلك ثمة اعمالا كثيرة ذات طابع تجريدي خالص: وفيها برهن الفنان على مقدرته في التكوين الفني، وفي استخدام عناصر الفن في خلق المضمون المرتبط بالشكل التجريدي: الرمز الذي يستحيل الى لغة موسيقية عميقة تارة، والى لغة ثقافية معرفية تارة اخرى. بيد انه في الحالتين يقدم لنا تجربة تجريدية تعتمد على التقنية لهذا الاتجاه من الفن: وهو النمط الاكثر اختزالا ورمزية في التعبير عن الخلجات الداخلية للمضامين العامة، اي ذات الاتجاه الواقعي بشكل ادق.
وقبل ان يخوض الفنان غمار هذا الاتجاه كان قد درس المعمار واثره في اللوحة، فقد استلهم في الكثير من اعماله المعمار البغدادي بطابعه المتميز بالبساطة، والزخرفة الجمالية وعلاقته بالمعمار كبناء هندسي يتجلى فيه التراث العربي الاسلامي. كذلك فانه درس الكثير من المشاهد المتعلقة او المكونة للمدينة: حيث ركز على الخصوصية البنائية للازقة البغدادية، وواجهاتها الخارجية، والمناخ العام لها. وبهذا كان قد مهد لتجاربه القادمة رؤية فنية ترتبط فيه التجربة التجريدية ارتباطاً عضوياً وليس ارتباطاً شكليا. ولهذا استطاع بهذا التجريد ان يعبر عن مناخ المدينة: حيث عالج الفنان (بغداد) ورسمها من منظور تتوحد فيه قيمة المعمار التراثي بالروح او المناخ العميق لها: فبغداد بازقتها القديمة، وشخصياتها الشعبية، قد تحولت الى وثائق فنية لها بعدها الحضاري.
ولعله لهذا السبب اعطى تبريراً مباشرا لانتقاله من الاساليب الواقعية الى التجريد. وفي الوقت نفسه يجعلنا ازاء اجتهاد مبدأي آخر، وهو بحثه في الموروث الفني العربي الاسلامي.
من هنا تخيلنا اعمال الفنان فرج عبو، وغيره من جيل الرواد، الى مدخل خاص لاستلهام هذا التراث العظيم فبعد ان انجز دراسته للفن دراسة تعتمد على وحدة المضمون بالشكل للمنطق الرمزي في الفن، عبر عن منطقه بصورة جعلت من الفن التجريدي العربي الاسلامي ومن منظوره المتعدد الابعاد، قضية اساسية في اعماله اذ باعتماده على التشكيل الدقيق والاختزال المكثف للاشكال، استطاع ان يشكل بداية لمنحى جديد من الدراسة التي تستلهم الموروث العربي برؤية معاصرة.
ان منطق الفنان في هذا الاستفهام له قضيته، وهو بحثه عن الجذور في التجربة الحديثة للفن. فاذا شاعت العديد من التجارب التجريدية المتأثرة بالفن العالمي، فان فرج عبو حاول ان يحافظ على المنطق التجريدي ولكن من زاوية تحفظ له جذوره في تبرير تجربته الجديد. هذا المنطق يتجلى فيه الموروث على الحياة والتجدد. وفي ذاته ان محافظ التجربة الجديدة على صلتها الابداعية والورحية بالتراث السابق على الصعيد الحضاري، والتقني في المحصلة.
بمعنى آخر حاول الفنان ان يعمق تجربته السابقة ويطورها من خلال الموروث العربي ذاته: الموروث الذي تحول عنده الى رؤية شاملة في خلق المناخ الجديد لاعماله.
فقد عبر بواسطة الزخرفة الاسلامية عن منحى جعله يستبطن الجوانب الروحية لها: بمعنى انه اكتشف طريقا استخلص منه جوهر الفن الاسلامي: الجوهر الخلاق المتصل بالبعد الرمزي والواقعي الفني على حد سواء. فعبر استعمالاته للزخرفة القديمة استطاع ان يكشف عن المعنى الروحي الكامن وراء الفن، المعنى المباشر والمعنى الداخلي.
واذا تمعنا عميقا في هذا الاتجاه باعماله، فسنكتشف انه من خلال الزخرفة الاسلامية ووحداتها المصغرة قد اكد على القوانين الفنية التي تناسب الرؤية المعاصرة المتصلة جذورها بالموروث الروحي الفني العربي. فلقد اخضع مثلا الزخرفة العربية الاسلامية لقوانين الفن التجريدي وفي ذات الوقت منح اعماله بعدا يرتبط بالمناخ الحضاري للفن العربي الاسلامي وبهذا يكون استلهامه للتراث عبارة عن محاولة للاجابة عن تأثيرات الفن "الغربي" على فنوننا التشكيلية المعاصرة، كذلك البدء باتجاه فني جديد قابلا للتطور والتقدم.

جماليات التجربة الفنية:
اذا كان الاساس التقني الذي اعتمده الفنان كأساس حاذق لتجربته فان هذا الاساس سيشكل القيمة الجمالية العامة لفنه.
فاذا كان ، في الخمسينيات من هذا القرن قد درس القواعد الفنية الاكاديمية. فانه انطلاقاً من هذا الجانب سيجرب الاتجاهات الفنية الاخرى، منها الواقعية المحررة والتعبيرية والرمزية كذلك فانه في بداية السبعيناتن سيخوض تجربة الفن التجريدي بابعادها الصريحة. والمعنى الدقيق لهذه الانتقالات يجعلنا ازاء مشكلة عبر عنها الفنان خلال حياته الفنية المديدة.. انها المشكلة الجمالية!
والتوسع في دراسة هذا الجانب يضعنا ازاء الاسس الاولى التي اعتمدها جيل فرج عبو (جيل الرواد) وابرزها خوض التجربة الفنية بكل الوسائل ولكن ضمن الرؤيا التي يحافظ فيها الفن على جذوره الحضارية ومنها البعد الجمالي.
والمشاكل التي مر بها الفنان. عبر اساليبه، تكشف عن قلق الفنان وبحثه الدائم عن البعد الجمالي كأساس من اسس التجربة الفنية . ففي اعماله الاولى، حاول المحافظة على الابعاد الواقعية والحفاظ على التقنيات الاكاديمية. وفي اعماله التعبيرية، جسد عذابات الانسان وكدحه كأساس للجانب التعبيري في هذه الاعمال. وفي الاعمال التي صور فيها الطبيعة حافظ على جمالياتها كذلك في اعماله التجريدية فقد جعل من (علم الفن) و(موسيقاه) القيمة الاولى للبعد الجمالي.
ولعل تجربته. بصورة عامة سعت لخلق البعد الجمالي كأساس للتعبير عن الجذور الحضارية المرتبطة بالتراث السابق ذلك البعد المترابط بخلق المناخ الروحي واذا كان الفنان في مراحله الاولى قد اكد على تجسيد البعد الاخير فمن خلال العلاقات التقنية (الاشكال، التكوين، الرمز الخ) نجح الفنان في استلهام النظام التجريدي الدال، والرموز القابلة للتأويل ، والتي تجعلنا ازاء علاقة عضوية بين المضمون الفني والبعد الجمالي.
وهذه النتيجة، وان كانت ظاهرة مميزة في تجارب الجيل التالي للرواد – الستينات – الا انها ظاهرة ترتبط بجيل الرواد حيث عبر هذا الجيل – والتالي – عن اهتمام صريح بمنح البعد الجمالي قيمة لا تنفصل عن التجربة الفنية،، يضاف الى هذا ان الفنان العراقي حاول او يربط تجربته بالموروث الفني العربي القديم، حيث كان هذا الموروث يجسد العلاقة بين المطلق والنسبي الواقعي والتجريدي، المادي والروحي، كذلك يلاحظ في التجربة المعاصرة للفنان العراقي هذا الاهتمام بهذه العلاقة. ولكن ثمة تركيز على البعد الجمالي يختلف عن الموروث العربي القديم باختلاف الزمن. وبالتطور الحاصر في الابعاد الحضارية وهذا ما نراه في اعمال فرج عبو: حيث كان يسعى لجعل الجمال معادلا للمضمون التعبيري.

من التعبير الى الموسيقى
في اعماله عن الموانئ (1950) وفي عمله عن التأميم (1971) تعبير صريح عن معاناة الانسان في كدحه ونضاله اليومي. وفي الوقت نفسه تجسيد لبطولته وانتصاره بفعل العمل. ان فرج عبو هنا، ليس مثاليا ولكنه، في نفس الوقت ليس تعبيريا تماما، وانما حاول ان يمنح معاناة الانسان قضية ترتبط بمعنى الانسان ذاته.
في عمال الموانئ هناك رصد دقيق لمشاعر هؤلاء الكادحين الذين يواجهون البحر وهم في حالة من المقاومة المستمرة: ان نماذجه، عامة اقوى من قدرهم. ثم ان الفنان في هذه الاعمال، لم يدخل الرمز، بل كان واقعياً في عمله عن التاميم ، ففي هذا العمل يكدح الانسان لينتصر: يقاوم وهو على وعي بانه منتصراً. ان وجوده يكمن في سر عمله.
ان ما شغل الفنان هو الانسان، جوهره وكفاحه وانتصاره في الاخير، ولكن هذا كله لم يمنعه من تنفيذ عشرات الاعمال التي تكشف عن باطن الانسان في محاولة لسير اعماقه، ومنها اعماله الرمزية التي حاول بها ان يدرس الانسان في حركته وصراعه الدائم، كذلك في اعماله ذات الهاجس التعبيري والتعبيري الواقعي، يظهر الانسان في المقدمة كأساس للعمل.
فالفنان الذي عاش في العقدين الرابع والخامس، نجح في رسم ملامح الانسان في ذلك الواقع، كما نجح في خلق المناخ التعبيري المتميز والكاشف عن صلته لا في رصد او تامل الواقع وانما في نقده له.
بيد ان انتقال الفنان من الاتجاه الواقعي الى التجريدي دفعه الى اكتشاف مجال او امكانية اخرى من امكانات الفن انها الموسيقى او التعبير الموسيقي الممتزج بالفن ففي السنوات التي تلت تجربته التجريدية قدم في اكثر من عمل، ذلك التناغم الموسيقي الاخاذ. وذلك المناخ السعيد ولا اقول ان الفنان فنية وانما اكتشفت مجالا اخر يضفي على التجربة الفنية بعدا جماليا ومع ذلك فانه حتى في هذه الاعمال لم يهمل الجانب التعبيري، او المضمون العميق للانسانن.
من هنا يلاحظ انه قد توصل الى خلاصة عامة قائمة على اساسين مترابطين وهما التعبير عن "المعاناة" وخلق المناخ "الموسيقي" الذي يعادل تلك المعاناة.
ففي عدد اعماله التجريدية. من حيث المناخ او اللون او التكوين، ثمة جرح رمزي عميق، انساني الابعاد، وثمة على المستوى الاخر، معالجة لهذا الجرح العميق ترتبط بمعنى الفن عنده. فاذا كان في حداثته امينا لمرحلته فانه بعد ربع قرن من العمل الفني، وقد اكتملت ادانة ونضجت رؤيته فقد توصل الى خلق معادل موضوعي بين "الالم البشري" والسعادة انها معادلة قائمة على اساس معنى الفن في الحياة فاذا استعرضا تجارب الفنان الاسلوبية المختلفة بدءاً بالواقعي منها او التعبيري، وانتهاءاً بالتجريدي، نكون ازاء محصلة تدلنا على رؤية الفنان التي توازي موهبته واجتهاده كذلك. وبمعنى اوسع نكون امام الانجاز الفني الحضاري ، فالموسيقى التي خلقها الفنان في اعماله ليست مجردة، ولا ترتبط باعماله التجريدية ولكنها في الدلالة ترتبط بالمضمون الفني العام عنده، فالموسيقى هي خلق المناخ الروحي الممتزج بالرسم وبقيمه الابداعية وهي لغة كان الفن جزء منها.
ان دلالة الموسيقى، على كل لا ترتبط بالحس الجمالي فحسب، او بالتعبير عن السعادة وانتصار الانسان، بل كذلك عن المعادل الموضوعي بين "الفرح" و"الشقاء" بين "العام" و"الخاص" ولكن ثمة قيمة للتعبير الموسيقي في اعماله تكمن في محاولته لخلق لغة فنية تمنح الفن قدرة على اعطاء معنى اصيل للحياة، وبعدا معاصراً للفن العربي. البيئة وجاليات التجريد..
ان القيمة الفعلية الفعلية للتجريد العربي المعاصر تكمن في محاولات الفنانين العرب باستلهامهم التراث العربي الاسلامي، وهذا ما فعله الفنان فرج عبو وغيره، عندما اعاد صياغة التراث التجريدي بمنظور معاصر بهوية عربية فهو قد استلهم في البدء: الاشكال ، الزخرفة، العلاقات الجمالية، كذلك استلهم جوهر التراث الروحي ولكن من منظار حاول فيه ان يعيد للماضي قوته وقدرته على البقاء، اي تلك القوة المنظور لها من الحاضر.
وهذه الخلاصة الفنية لرؤيته لم تات بيسر بل جاءت بعد دراسته المستمرة وتأمله العميق للبيئة بكل مفرداتها الجمالية والطبيعية، وانه لهذا كان قد رسم الكثير من المشاهد الطبيعية والواقعية، وتلك الدراسة بحد ذاتها قد مهدت له بخطوات عملية نحو اختزال الاشكال وتشذيبها ونحو التجريد بشكل خاص، ومن يدرس اعماله التجريدية العربية الاسلامية او الخالصة يكتشف الكثير من المصادر المكونة لها. ومنها بشكل خاص البيئة: ومحاولة الفنان في التعبير عن سر العلاقات الجمالية الكامنة فيها: جمال الالوان، وتناسق الاشكال، والتحوير في الكتل الذي استحال الى تعبير موسيقى ورمزي فكري في الوقت نفسه. ان العلاقة الوثيقة في فن فرج عبو بين التجريد والبيئة تبقى علاقة تكشف عن سر جماليات التجريد عنده: السر الاول بارتباطه بالطبيعة، ومحاولة الفنان ان يستلهم الواقع ويعبر عنه برؤية جمالية والسر الاخر بالرؤية التجريدية التي حاول فيها ان يحقق لوحة فنية ناجحة في حدودها التشكيلية وفي الوقت ذاته، غير منفصلة عن مصادرها وابعادها المضمونية وارى ان قيمة اعماله تكمن في هذه العلاقة العضوية بين البيئة والتجريد وهي العلاقة التي ادت بالفنان الى تأصيل المنظور الجمالي العربي المعاصر، على الاقل، في المستوى التطبيقي الفني، الذي ينبهنا للتركيز على خصائصه النظرية او الفكرية.

خلاصة:
لم يكن فرج عبو وحده الذي حاول ان يتمثل الواقع، او ان يستلهم مناخه الداخلي المنزلي، او ان يعبر عن حلقاته المتقدمة، بل كان من هؤلاء القلة الذين سحرهم الفن باعتباره مرآة الحضارة في التعبير عن ذواتهم وقلقها وتأسيساتهم لمغزى الجمال. والاثر الابداعي الخلاق. في الزمن الذي عاشه الفنان، مع جواد وفائق وشاكر وجميل حمودي والدروبي وغيرهم، كان الهم الفني يناسب ويوازي الهم الوطني والقومي على صعيد التحرير فالفن، ان لكن مرآة اصلية، فهو بالمعنى الذي نجح فيه ذلك الجيل، ضميرا وتاريخا وبعدا روحيا. ولكن الحقائق الواقعية تجعلنا الان لا نستطيع التفريق بين الهم الوطني والقومي او بين الفن. فكلاهما كانا يتوحدان في التعبير عن تفاصيل البيئة الروحية والغليان الشعبي.
من هنا، كان الفنان فرج عبو، يسهم في اكتشاف ذاته القلقة، ضمن الغليان العراقي، ومن هنا بالذات بدأ – ان لم يكن قد تكون – في مثل هذا المناخ. فقد عاش على تماس مع الواقع، وعبر عنه بواقعية ذات امتداد وفروع قد تبدو متباينة احيانا، لكنها ، تصب في الاخير في حقل الفن.
فاذا كان قد تخلص من هواجس الادب وربما الشعر ايضا، فانه بالرسم سيحاول ان يعبر عن ذاته بعمق يناسب تاريخه الفني العام والخاص على حد سواء.
ان فن فرج عبو، الواقعي او التجريدي او الرمزي كله، شكل تعبيرا عن عمل الفنان، عبر مراحله المتعددة، في التعبير عن حقيقة اولى: هي ان الفن لا بد وان يتقصى الابعاد الدقيقة للواقع.
ولكن ثمة بعد جعله الفنان اكثر قربا لذاته، وهو المنظور التجريدي، وعلينا بهذا الصدد، كما علينا ان نفسر او نحلل اعمال رفاقه امثال فائق حسن وجواد وجميل حمودي وراكان دبدوب، ان نتوصل الى خلاصة تقول ان الفنان فرج عبو، قد وجد في التراث العربي الاسلامي التشكيلي، عدة قيمة يمكن ان تشكل قيمة انبعاثية للرسم المعاصر. وهو بهذا الدافع استطاع ان يؤسس بدايته التجريدية.. يضاف اليها وعيه التقني المعاصر، ومحاولته لتطبيق العلم على الفن، او محاولته للخروج بمحصلة واضحة اساسها الفن متحداً بالنظريات التقنية الجديدة . بيد ان تجاربه المختلفة في دراسة الطبيعة والمدينة والانسان، لم تغب عن منهجه التجريدي الذي بدأه في اوائل العقد السابع من هذا القرن، وانما امتزجت في وحدة عضوية اساسها رؤية الفنان يجعل الفن، رمزا جماليا وروحيا معبراً عن خفايا الواقع او دواخله.
وهذا ما دفعه في الاصل، لخوض هذه التجارب، ولاستعمالات محببة عند الرسام: فهو مثل جيله، اعتمد مادة الزيت لتنفيذ اعماله. ولكن هذا لايعني انه لم يرسم بالمواد الاخرى، كالالوان المائية او الرسم المفحم او بمختلف انواع اقلام الرسم والحبر الصيني وغيرها، ولكن المحصلة تشير الى انه بالرغم من تأليفه لكتاب علمي عن عناصر الفن، وتكنولوجيته، فانه استعمل مادة الزيت، بالدرجة الاولى، وتفسير ذلك، ربما يعود الى كونها مادة كلاسية في الرسم اولا، وانها ، ضمن منهج الرسام تؤدي للتعبير عن الابعاد الجمالية للطبيعة، وللتجريد على حد سواء ، فالتعبير عن الطبيعة عنده، مثلا، ينقلنا الى المنظور البيئوي لها. وفي التجريد ينقلنا بالمادة الزيتية للتعبير عن كثافة الالوان وتعددها وعزارتها ثانيا.
ولكن استعمال مادة الزيت عنده، كما عند جيل الرواد برمته، يعبر عن تأسيسات ذات طابع اكاديمي بالدرجة الاولى، وباعتقادي فان مادة "الزيت" اكثر قدرة وقرباً واصالة للتعبير عن اية فكرة لدى الفنان. وبالرغم من ان التجارب المعاصرة تحاول الخروج على هذه المادة، الا ان مادة الرسم الزيتي تبقى هنا الاكثر كلاسية وواقعية، لانها طوع انامل الفنان البارع، والملتصق عميقا بالبيئة، وجذورها التراثية.
خلاصة، تبلور تجارب الفنان فرج عبو، منظوراً لاستلهام الفن العربي الاسلامي، وربما سيكون هذا البعد هو الاكثر تعبيرا عن كافة تجاربه. ففي هذا الجانب، يؤكد الفنان على قيم التراث الاسلامي المعبرة ليس عن جمالياتها بل عن مغزاها وصلتها العميقة بالحياة. وفي الوقت نفسه يجذر في رؤيته العلاقة بين التراث والمعاصرة. فهو، في تجريداته الزخرفية، او الرمزية، او الايحائية، حاول ان يمنح الحاضر كثافة خاصة بالتعبير عنه وتجسيد جوانبه الداخلية. وهو بهذا المنهج كشف عن موقفه الجمالي، فاذا كان الفنان قد رسم الطبيعة، باعتبارها المصدر الجمالي الاول، فانه، بتامله ودراسته للتراث ودراسته للتراث العربي الاسلامي. قد استطاع ان يحقق هذه المعادلة بالذات من خلال الرؤية او النتائج التجريدية. فالطبيعة بكل غناها اللوني، والسحري لابد ان تتحول الى رموز جمالية متألقة وخالقة لجوهر الجماليات في الفن. ان الطبيعة هي الاساس، لكن الفن هو المعمار الشامخ المضاف لها، والذي يخص ابداع الفنان.
وعلى هذا الصعيد فان الخلاصة التي توصل اليها الفنان فرج عبو، تكمن، في منح البعد الجمالي، قيمة اولى، ولكن هذه القيمة لم تنفصل عن جذورها المتباينة بين التراث او الواقع او الفن المعاصر. وبالتالي فالتجريد عنده، ليس الا محاولة لبلوغ الذروة الجمالية، والتي مهدت له، منذ البدء، ان يدرس مصادرها. فالتجريد عنده، خلاصة ، هو التعبير عن امتداد التراث العربي الاسلامي في تجلياته المعاصرة، وهذا الانجاز بذاته لا يشكل قيمة كبرى حسب، بل تمهيداً ورافدا لخلق مدرسة عربية تشكيلية عربية معاصرة.
وهذا البعد لا تكمن تفاصيله في ما انجزه فرج عبو وحده، ولكن ضمن مناخات ودوافع جيله برمته، لكن فرج عبو، في الاخير، او في الخلاصة التجريدية عنده، يذكرنا باعمال الفنان جميل جمودي وشاكر حسن وغيرهما، التي استلهمت كل ماهو عربي عميق الجذور بالماضي الجمالي..
الا ان فرج عبو، ضمن هذا التجريد، له تميزه الواضح، اي الاسلوبي ، فهو، خلق من مفردات التراث الجمالية بعدا اخر له شكله الجديد. فعبر التجريد استطاع الفنان ان يؤكد على لغة الفن، وخصوصياتها، ومن هنا كانت تجربته تقترن بعلم الفن.
والخلاصة الاخرى من تجربته، والمرتبطة بالمدرسة العربية المعاصرة تكمن في ان تجاربه تجعلنا ازاء الواقع بابعاده الزمانية والمكانية، وهي ذات الابعاد التي ناضل من اجلها جيل الرواد رؤية وانجازاً: هذا الجيل المؤسس لافاق التشكيل المعاصر في العراق.

عن كتاب (فرج عبو) الصادر عن دائرة الفنون التشكيلية سنة 1982