هذا هو هو الفنان فرج عبو

هذا هو هو الفنان فرج عبو

مريم نجمه
كلما صليت لأمواتنا الأعزاء على قلوبنا , ذكرتُ فقيدنا الغالي أبو فارس – لأنه واحد من الذين أحببناهم ورحلوا عنا مُبكراً , تاركين ذكرى أليمة , وفراغاً فكرياً وإنسانياً لا يعوّض . إنه الأخ , والعم , والصديق , والمرّبي , إنه الإنسان الرائد والفنان الأصيل فرج عبو ---
كان ذلك في إحدى أمسيات شتاء 1982 حيث كنا ما نزال نقيم في فندق بغداد – حين دُعينا لتناول العشاء في منزلهم في حي الكرّادة .

كان الفضل الأول لهذا التعارف لإبنته الفنانة شذى عبّو , صديقة إبنتنا سمر الهامس , في أكاديمية الفنون جامعة بغداد , حيث كان فقيدنا رائداً ومدرّساً قديراً فيها .
إنها الزيارة الأولى لمنزل عراقي , والصداقة الأولى مع عائلة عراقية .
كنت مع عائلتي وزوجي المحامي جريس الهامس في غاية السرور لهذه الزيارة والجلسة اللطيفة مع الأخ الأستاذ (فرج) وزوجته الطيبة الكريمة أم فارس , وأبنائه المثاليين شذا واّمال وفارس , بين أشجار النارنج والنخيل والورود , وبين لوحاته الفنية وأحاديثه الشيقة التي لا تنسى , والتي لم يبخل بها أن ينقل لنا دوماً عصارة تجاربه الفنية والإجتماعية والتاريخية والأكاديمية , التي استمدها من ثقته بنفسه وبشعبه أولاً , ومن دراسته المعمّقة وجولاته الفنية والمهنية والدراسية , في مختلف الجامعات والعواصم العربية والأوربية .
لقد كان بحق موسوعة علمية وفنية صادقة , وشخصية محترمة , متواضعة وكريمة , ,
أعتز وأعترف , بأنني تعلمت منه الكثير من الرؤية الشمولية للأشياء والألوان والحضارات وأبعادها الكونية .
كم شكرت إبنتي سمر على هذه المعرفة والصداقة التي امتدت حتى اّخر يوم في حياته , حيث كان حتى ساعاته الأخيرة واثقاً بالحياة , وبالإنتصار على الموت , وبانتصار العراق الحبيب في معركة الدفاع عن الحدود والأرض والكرامة العربية !؟
رغم تغريبنا عن وطننا نتيجة القهر السياسي في سوريا , كان فقيدنا الغالي وعائلته الكريمة , خير أهل خففوا عنا اّلام الغربة القاسية .
تباً لك أيها الموت الغادر , كم كنت لئيمًا عندما خطفته من بيننا , واللوحة واللون بحاجة لأنامله النظيفة الماهرة , وبيدره ما زال مليئاً بالحصاد , ومحطاته الفنية خالدة تدفع قطار التقدم الفني إلى الأمام دوماً .. , لكن هذه هي الحياة تعارف ووداع , موت وحياة !
تُرى , هل كان يعلم أنه سيغادرنا ليقدم لنا في جلساته الممتعة , أثناء زياراتنا المتبادلة – بعد ان استقرينا في المنزل , عصارة تجربته الغنية في جامعات ومتاحف العالم ومدنه التي نقلها إلى العراق , بريشته المميزة الجريئة , لوناً وأفقاً وابتسامة للغدالمشرق , ومدرسة فنية عراقية , قضى في بنائها أجيال , و العمر كله , نتاج عبقرية إبن الرافدين ( الموصل ) وسليل الحضارة الكلدانية الاّشورية .. والسومرية والبابلية والعربية , ممزوجة بمياه دجلة شامخة كقمم الشمال التي عشقها وترعرع بين ربوعها .
في كل مرة , حين كنا نلتقي به نكتشف فيه ناحية جديدة من نواحي عبقرية الفنان , والمؤرخ , والأديب , بكل تواضع وشعبية لحب الناس ( للعامل والفلاح والمرأة ) والبسطاء والأرض والطبيعة , التي خلدها في لوحاته ومعارضه .
تجسدت فيه الأصالة والكرم العراقي وحب الضيافة , محافظاً على التراث والجذور , مؤمن بالتجديد والتطور , بأسلوب ومنطق عصري حضاري . يؤمن بالحوار الديمقراطي ويعيشه بدمه ,,,
أقدّروأحترم الإنسان بقدر ما يعطي للوطن والشعب , ويساهم في بناء الوطن , وتربية وتهذيب الجيل , لا بمقدار ما في جيبه وماله .
إنه الإنسان الكبير والأستاذ الجليل فرج عبّو - الذي نعتز بصداقته الخالدة , وصداقة عائلته بكل ما تحمل من ذوق رفيع وأصالة , ومستوى حضاري وإنساني ,, كما لا ننسى دوره الكبير في تشجيع إبنتنا سمر وطموحاتها الفنية سواء في أكاديمية الفنون بجامعة بغداد , أو في المعرضين الذين نظمتهما وأقامتهما سمر في الأكاديمية أو في بعض النوادي ,, وكان الأستاذ والأب والمربي يومها قد قدّر لوحاتها وجهدها , وأطلق عليها لقب " عفريتة الفن " .
بعدما أصبح صديق زوجي المفضل , وصديق العائلة وكثرت اللقاءات والحوارات بيننا , قمنا بزيارتهم في يوم صيفي حار , كان منهمكاً ومتعباً فعلاً , لأنه كان يصمّم ويرسم في مرسمه منذ الصباح لإنهاء جدارية كبيرة ( وضعت فيما بعد في مطار صدام الدولي) . كان قد أشرف على إنهاء هيكليتها وبدأ بتنفيذ المرحلة الأولى منها , فقادنا للمرسم بفرح لنشاهدها , وقام بشرحها لنا فنياً ولونياً ومعنىً – وبالفعل كان هذا العمل قمة العطاء (التراثي - العصري ) .
فكيف لا ننحني أمام هذه العطاءات الإنسانية والحضارية , التي كثيراً منا , ومن المسؤولين في دولنا العربية , لا يقدر هذه الأعمال والإنجازات في حياة الفنان , بل ربما بعد رحيله مع الأسف !
وأحياناً بعد أن يزور المرء ويشاهد روائع ومتاحف الشعوب والعالم , فيشعر بالتقصير والإجحاف والإستخفاف تجاه مبدعينا وفنانينا بكل ألوان الفنون والثقافة ,
عندها ينحني أمام عطاءاتهم ويتباهى بهم , وواجب إحترامهم وتقديرهم وتشجيعهم معنوياً ومادياً , لتنمية وتطوير إنتاجهم وأعمالهم التي تنقل و تحكي باللون أفكارهم وتجاربهم وتطلعاتهم , ليؤكدعملياً أن تشجيع الفنون عامة , هو واحد من عوامل النهضة الفكرية والثقافية والإجتماعية والسياسية , لاي بلد وأي شعب من الشعوب .
وما الفنان فان كوخ , ولوركا , و بابلو نيرودا , وناظم حكمت , ومحمود درويش , وجبران خليل جبران , ونزار قباني وووو غيرهم الكثير الكثير .., سوى علامة من علامات العبقرية الشعبية وتراثها الأصيل !
فبالرغم من أن الفترة التي تعرفنا بها وعشناها معاً قصيرة بالنسبة لعمر الإنسان , لكنها خصبة ومكثفة في التفاعل الفكري والثقافي والإجتماعي والنفسي لكلا العائلتين .
فللحقيقة والتاريخ أقول , بأنني مثلما عرفته فناناً مبدعاً وأصيلاً , عرفته متحدثاً بارعاً وإنساناً رقيقاً وعميقا في التفكير , كنا نشعر أننا أمام ينبوع ثرّ دفاق – أمام موسوعة من المعارف والعلوم – أمام بحر من العطاء والخبرة , والتجربة والتضحية , لا يعرف مكاناً للأنانية والتأفف والإستراحة , يفرح بالعطاء والخدمة , فتشعر نفسك أمام حكيم متواضع جليل , سواء في مجال المهنة , أوالعلاقات الإجتماعية .
في أحد الأيام , زارنا الأستاذ فرج في بيت ( العطيفية ) ووجهه يغمره الفرح , وقدم لزوجي نسختين من كتابه الجديد : علم عناصر الفن – بجزئيه الأول والثاني ( المؤلفين الضخمين ) باّلاف الصفحات ,,
لقد انكّبيتُ بشغف لقراءتهما , يومياً كنت أجلس عصراً على الحصيرة في حديقة المنزل , وأنهل وأنهل من معين المعرفة دون ملل , فقد غذيت فكري في مجال ألف باء الفن , وكنت أول من قرأهما , أتساءل كيف أن هذه الأشياء نجهلها بالرغم من عِلمنا ومطالعاتنا وثقافتنا !؟ فألف رحمة على جهوده التي بذلها لترى هذه الكتب النور , لتهدي الطريق الفني لشباب الوطن والأجيال الجديدة .
كم كنا نتألم مع هذا الفنان , عندما كان يلاقي الصعوبات بالنسبة لمعاناة المهنة, ومتاعبها , وطبع الكتب وإشكالاتها, ولئن عرفتُ فيه المثابرة والتصميم والهدوء , والعمل الدؤوب مهما كلفه من وقت ومال وجهد صبور ..!؟
كُتبَه التي أعطاها نور عينيه , وعصارة دماغه وفكره , قد شهدت النور , وشاهدها قبل وفاته بسنة واحدة وهذا ما يواسيه ويعوض تعبه ,, وأهميتها تعود إلى مرجعهما الهام في الفن – وتاريخ الفن . صحيح أنهما دخلوا المكتبة العربية وأغنوها كثيراً بالتراث الفني العراقي , كذلك كان ثمنهم غالياً , ألا وهو أربعون عاماً من حياته المعطاءة , وهو ينسج أجمل وأدق وأكبر مترجم وكتاب عربي وأجنبي , بالإضافة إلى المعايشة والممارسة والإبداع , ليأتي هذا العمل الناضج الضخم الكبير , وقد تكلل بالنجاح في هذه الموسوعة الفنية بجزئيها الأول والثاني .

***
قمت أنا وعائلتي وبعض صديقاتنا أم معن من ( النبك ) , لمشاهدة معرض الفنان التشكيلي فرج عبو – الذي أقيم في متحف قاعة الفن الكبيرة في ساحة الطيران – بغداد , وبقي حوالي شهرًا مفتوحاً للزوار . ضمّ معظم أعماله منذ الطفولة حتى أحدث لوحة , كان كثيفا بمحتوياته , وفي انتهاء الزيارة , هنأنا وثمّنا عمل الفنان الذي كان حاضراً رغم مرضه وتعبه .
لقد استمتعنا بهذه الأوقات , تغذية بصرية فنية , ثقافية وروحية , من خلال أعماله وإبداعاته الخالدة , من بداية مسيرته الفنية حتى اّخر لوحة رسمها الحرب الإيرانية - العراقية – التي كان استمرارها العبثي يعتمل في قلبه ..
من خلال المعرض هذا , استطعت أن أدرس وأطّلع أكثرعلى نفسيته ومبادئه ومدرسته جيداً , من خلال اللون المفضّل والطاغي لمجمل اللوحات (الأزرق , والاخضر ) , والتطور التقني والفكري لديه , والتأثيرات البيئية , المحلية العراقية , والعربية .
كانت كل لوحة تمور بالحركة والحياة , لا تخالها إنها عمل اليدّ , بل تنطق بلغة رشيقة وفرشاة سحرية . سررنا يومها بذاك المعرض , وكتبنا انطباعاتنا في دفتر الزوار .
كان الفنان يقف بكل تواضع مع الزوّار - رغم تعبه الواضح - مع الصغير والكبير , وهو يتأهل بهم ويشرح ,,,
ا للوحات كثيفة , كثيرة العدد , كبيرة الحجم وصغيرة , طبيعية وسياسية , تراثية وعصرية , ريفية ومدينية , عراقية , عربية وعالمية .
ينسى إرهاقه وسهره وعرقه , عندما كان يقرأ ما يخط ّالمشاهدون والجمهور انطباعاتهم حول المعرض الجميل ..
رَسَم النهر والجبل , الماشية والطيور , الإنسان وفكره , الطبيعة وما وراء الطبيعة , الفلاح والعامل , الوجوه لكل الفئات العمرية , المقاتل العراقي المنتصر , عمال ميناء الإسكندرية , عمال البحارة في إيطاليا , أعطى المرأة إهتماماً ومساحة كبيرة , والفتاة والشيخ والطفل , الفدائي وفلسطين , الكنيسة والجامع والمعبد , الإستعمار والإمبريالية , قبّح الشر والجريمة – وأحب الخير والجمال والحرية .
هذا هو لعمري الفكر الإنساني المُبدع , الفنان العبقري الأصيل , النابع من أرض العراق , عراق أولى الحضارات , من وسط البيئة والمعاناة والجروح , من وسط الفرح الإنساني بأحلام الغد المشرق ..
الأمل .. التصميم .. الإرادة -
كيف لا أشعر أنه واحد منا , فهو يترجم أفكاره بالريشة واللون , ونحن بالكلمة والموقف !!؟
.... أعطانا فكرة عن أربع بانورامات عالمية زارها , كما شرح لنا مضمون بانوراما القادسية الرائعة في المدائن .
أعطانا فكرة عن أصل تاريخ بغداد (كموقع وتاريخ وبناء) ,
عن تقاليد وعادات ومستوى كثير من الشعوب ابتداء من مسقط الرأس نينوى والقرى , والجامعات والمدارس العربية والأجنبية التي زارها ودرس فيها هذا العبقري – إبن الموصل " أم الربيعين " ... وإبن دجلة , بحسّه المرهف وعقله النيّر وعينه الثاقبة .
اّخر زيارة قمنا بها لمنزلهم , في البيت الجديد في منطقة ( بغداد الجديدة) , كان يوم نهار عيد الميلاد , علامات الأسى والوجع والحزن مرسومة على وجهه مهما تصنّع لإخفائه , من إستمرار الحرب الإيرانية العدوانية , وعلى شهداء العراق , الذين يدافعون عن الأرض والإنسان واستقلال العراق ووحدته , وعن المفقودين من أبناء العراق نتيجة استمرار هذه الحرب القذرة , وفقدان الشاب إبن أخيه فيها , حيث كان أخوه متواجداً أنذاك أيضاً عندهم , ولوعة أخيه على ولده - وبالمناسبة كانت متواجدة أيضا أخته ( المعلمة ) زهية – الحزينة دوما على أخيها , عامل البناء وقائد نقابي ومناضل يساري , المفقود والمغتال أيضاً في أقبية وسجون النظام منذ عشرات السنين !!
لقد تراكمت عليه كل الأحزان دفعة واحدة إلى جانب مرضه ..
هناك أمنيات عامة وخاصة , تحزّ بالنفس وتعتصرنا , أنه غادرنا دون تحقيق هذه الأمنيات ,
ألا وهي : إنهاء الحرب , والعيش بسلام الشعبين العراقي والإيراني - وتمتع الشعب العراقي بنفطه وموارده وسلامه وحريته لتعود البسمة والفرح لشعبه الذي أحبّه .
والأمنية الثانية التي تمناها : هي إنهاء نظام القتلة والخيانة والديكتاتورية في سوريا , وبعودة الوطنيين والأحرار والإفراج عن المعتقلين هناك في سجون النظام الأسدي , لكي يزورنا في بلدتنا الحبيبة صيدنايا , لأنه كان يحبها ويقرأ عنها , ولكن أحبها أكثر من خلالنا , حيث قال لنا بالحرف الواحد :
" إنني سأذهب أنا وعائلتي بسيارتي وسأكون أول المهنئين لكم , في دمشق وصيدنايا , وسنشرب نخب الإنتصار , إنتصار الحق والحرية والعدالة على الظلم والعدوان والحرب والفاشية , خمر صيدنايا المعتق من كرومكم " .
يا لها من أمنيات وطموحات عراقية وعربية وإنسانية نبيلة !
لكنها بقيت غصّة لنا .
رحم الله .. الصديق الوفي والأخ المحترم أبا فارس فرج عبو .
ولا يسعني إلا أن أردد ما قاله الحكماء : " ُربَّ أخ لم تلده أمك " .
كلنا سنموت في هذه الحياة , ولكن بعضنا يترك مجرّد أقدام , والبعض الاّخر يترك اّثاراً لا تُمحى ..
" ليكن ذكره مؤبّدا " .. وخالداً .
****
طلبت منا عائلة المرحوم الفنان فرج , كتابة كلمة حول إنطباعاتنا عنه - كما من بقية أصدقائه –
فكانت هذه الكلمة التي كتبتها وقدمتها لها .... ., ووضعت في ( ألبوم ) خاص عن الفنان العراقي الأستاذ : فرج عبو- للطباعة –
حيث كانت زوجته الأخت شاكي , ترغب بإقامة متحف خاص له في غرفة مستقلة من بيتها تحت إسم : ( متحف الفنان فرج عبو) , وتعرض فيه لوحاته وكل أدوات الرسم وأشيائه الخاصة من لباس وهوايات المحببة لديه وغيرها , وما كُتِب عنه , كما في الدول المتقدمة المتحضّرة , التي تحترم وتقدّس الفنون والإنسان والعطاء الإنساني ,, وقد شاهدنا الكثير منها عبر العالم – وهذا يتطلب رخصة وموافقة من الدولة ومثابرة وتعب وووو غير ذلك ! ؟
بالإضافة إلى جانب زاوية أو غرفة أيضاً في ( متحف الرواد ) بغداد , خاصة بالفنانين التشكيليين العراقيين الأوائل والنهضة المبكرة مثل : جواد سليم , خالد الرحال , نزيهة سليم , عطى صبري , حافظ دروبي , اسماعيل الشيخلي , حكمت اسماعيل , عيسى حنا , مديحة عمر ... الترك , فائق حسن الخ ..... وقد قمنا بزيارة هذا المتحف الرائع مرّات عدة الواقع في نهاية شارع الرشيد على ضفة النهر .
سيبقى ذكراه في قلوبنا خالداً , وإسمه محفوراً في سجل تاريخ الفنانين العراقيين الروّاد ..

عن موقع الحوار المتمدن