فرج عبو  وجمعية اصدقاء الفن

فرج عبو وجمعية اصدقاء الفن

شاكر حسن ال سعيد
فنان وباحث تشكيلي
كان للعراقيين سابقة قريبة الامد بالفن في مجال تأسيس الجمعيات السياسية في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، وخاصة ثورة العشرين. فقد حاولوا ذلك ضد الاتراك العثمانيين، بعد ان لجأ هؤلاء الى سياسة التتريك، كما حاولوه ايضاً في فترة احتلال البرطانيين للعراق، فأصبح انتقال ذلك الى الصعيد الثقافي والفني امراً طبيعاً، منذ مطلع الاربعينات، لاسيما وان تأسيس معهد فنون الجميلة في عام 1936، كمعهد للموسيقى، ثم تطويره في عام 1940،

ليكون شاملاً لمعظم الفنون الجميلة اصبح السبب المؤثر في ذلك. أي في مجال تأسيس الجماعات الفنية، لأنه يقضي على عزلة الفنان في عمله الفني.
وكان اكرم شكري، بعد عودته من لندن في عام 1931 قد تشبع كما يظهر بفكرة العمل لتكوين جماعة فنية، اسوة بالفنانين الاوربين الذين اهتموا منذ بداية القرن العشرين بذلك، وربما كانت حياة الرسامين البولنديين الذين تأثر بهم اثناء تواجدهم في العراق خلال ظروف الحرب العالمية الثانية مثلاً واضحا لهم. وكان فائق حسن عام 37/1938 قد عمل مباشرة بعد عودته من باريس على الرسم في ضواحي بغداد برفقة عيسى حنا، ثم التفت حوله تلك المجموعة من الشباب المثقفين المعجبين بفنه:ـ
جماعة البدائيين فيما بعد. وهكذا مهدت هذه المحاولات الصغيرة لتبلور فكرة جمعية اصدقاء الفن في عام 1941. أي ان هذه الجمعية لم تظهر دفعة واحدة دونما سابقا أنذار بل سبقتها محاولات اولية لتجمع الفني. على انها ظهرت بلا شك كرغبة عامة للفنانين العراقيين بضرورة توحيد كلمتهم. وهذا ماحقق لها النجاح فيما بعد .
على ان الجمعية اصدقاء الفن مع ذلك تعتبر تحقيقاً لآراء اكرم شكري، اقدم مبعوث عراقي للدراسة في احد معاهد اوربا بعد ظهور الحكم الملكي في العراق. وكانت بعض المنافسة قد نشبت بينه وبين فائق حسن وحافظ الدروبي لاقتسام مسؤولية تزعم الحركة الفنية كما يبدو. ونحن نلمس ذلك في انفراد فائق حسن في التدريس في معهد الفنون الجميلة والتفاف شباب الفنانين وطلاب الفن حوله، كما نلمسه في مغامرة حافظ الدروبي لافتتاح المرسم الحر، لكنه سرعان ماتخلى عن مرسمه للجمعية نفسها، والمرسم الحر كان بدوره مدرسة اهلية لتدريس الرسم والنحت فتشبع به طموح الدروبي في تبني الحركة الفنية الناشئة.* وهنا جاء دور اكرم شكري في ان يدلو بدلوه فحرص على تكوين جمعية فنية تضم الفنانين ومحبي الفن في آن واحد. يذكر فرج عبو في معرض ذكرياته عن جمعية اصدقاء الفن انه انتمى الى الجمعية في عام 1944 وكان يشهد باستمرار نقاشاً بين حافظ الدروبي واكرم شكري من جهة وجواد سليم وعطا صبري من جهة اخرى، من أجل السيطرة عليها. ويؤيد ذلك ما جاء برسالة بعثها جميل حمودي الى الهيئة الادارية ينوه فيها "بالتمزق والتباعد بين اعضاء الجمعية الذي تخلقه النزعات الشخصية التافهة.." . أي ان جمعية اصدقاء الفن بعد اربع سنوات. من نشأتها كانت تشهد صراعاً محتدماً بين اعضائها. وفي رأيي ان المنافشة بين الفنانين لم تكن لتتطور لولا بدايتها منذ أول تأسيسها. وهي في جميع الاحوال ظاهرة طبيعية وايجابية لتطور الفن العراقي وحافز على الابداع في مضماره.
وعلى كل فان أصدقاء الفن نشأت اول مرة الامر (كفكرة) كانت تراود اذهان لفيف من الفنانين وبعض المعجبين بهم من المثقفين، كانوا يلتقون للنقاش والحوار في دار اكرم شكري حيناً وفي مرسم الدروبي الحر حيناً آخر. مثلما اقترنت باجتماعات أخرى عقدت في نادي المعلمين في محلة السيد سلطان علي كان يحضرها عدا الرسامين حقي الشبلي رائد المسرح العراقي. وكان الحوار حينئذ يدور حول امكانية تأسيس كيان للفنانين العراقيين عامة، ومعترف به ثقافياً، وذلك أسوة بوجود(الاكاديمي جوليان) في باريس .
ثم تبلورت فكرة اصدقاء الفن أخيراً بشكل جمعية للفنون التشكيلية ومحبي الفنون. وهكذا تقدم كل من أكرم شكري وعيسى حنا وكريم مجيد وفرج عبو الى وزارة الداخلية بطلب لتأسيس الجمعية . وفي تاريخ 7 /1/ 1941 تمت الموافقة رسميا على ذلك، كما تم اجتماع الهيئة العامة وانتخاب الهيئة الادارية بموجب المادة الرابعة من نظام الجمعية الاساس يوم الاربعاء الموافق 26/2/1941، في الساعة الثامنة والنصف دار السيد أكرم شكري ، أي بعد مرور الوقت الكافي للتحضير. وقد فاز نتيجة الانتخاب بعضوية الهيئة الادارية عطا صبري وجواد سليم في حين اصبح رئيساً للهيئة الادارية أكرم شكري كما أصبح سكرتيرا الحاج سعاد سليم، كما اصبح عيسى أمينا للصندوق. والواقع ان ظهور جمعية اصدقاء الفن بجهود بضعة انفار من الفنانين، وربما، بتشجيع من قبل بعض المثقفين يدل على الحاجة اللمحة التي اقتضتها ظروف المثقف العراقي في بداية الحرب العالمية الثانية. المتحفزة للازدهار، والمهيئة للتبادل. فعند دراستنا لاحدى محاضر جلسات الهيئة الادارية عند اول تأسيس الجمعية يتضح لنا عظم المجهود الذي كان يبذل من قبل الفنان العراقي من أجل ايصال الفن التشكيلي الى مستواه الطبيعي وما هو في الواقع الا صورة لمستوى العراقي نفسه.
يقوم اكرم شكري في احدى محاضر جلسات الهيئة الادارية للجمعية "في العراق اليوم حركة فنية نشيطة جدا ولكني لااعتقد ان هناك مدرسة عراقية اوطابع عرقي، فالطابع الفني او الشخصي للحركة الفنية لايتكامل الا اذا تكاملت شخصية ذلك المجتمع الذي ينمو فيه الفن. ولو صح هذا التعبير فيمكنني ان اضع سنّة هي ان شخصية الفن لابد ان تتبع تكامل شخصية المجتمع، وبديهي ان شخصية المجتمع العراقي في بداية التبلور كالفن العراقي" .
كانت جمعية اصدقاء الفن في الواقع ثمرة نهضة سريعة لم تستغرق أكثر من عشر سنوات على مستوى التعليم الفني بمعناه المدرس. فما بعد المعرض الصناعي الزراعي عام 1932 داب جيل الثلاثينيات من مدرسي الرسم في المدارس الابتدائية والثانوية وعلى رأسهم شوكة الخفاف في الدعوة للرسم المدرسي بالتخلص من مبدأ (الامشق). والتحول الى الرسم عن الواقع المرئي. وفي عام 1932 أكمل أول مبعوث عراقي دراسته المدرسية في أحد المعاهد الاوربية في لندن، وهذا المبعوث وهو أكرم شكري. وفي عام 1938 أكمل فائق دراسته في باريس (معهد البوزار) ومارس تدريس الرسم بكل موضوعية في دار المعلمين الابتدائية ثم في مدرستين من مستوى الدارسة الثانوية. وفي عام 1940 اسس معهد الفنون الجميلة كاعتراف صريح بأهمية تدريس الرسم والنحت دراسة اختصاص وعلى مستوى الدراسة الثانوية. وفي عام1945 تخرجت اول دورة من طلاب معهد الفنون الجميلة. فنحن نفهم من هذا كله أن تأسيس جمعية اصدقاء الفن منسجما مع اتساع موجة العمل الفني بصورة تدريجية وسريعة نسبيا.
من هنا فظهورها يعزى أيضا الى مدى شعور الفنانين العراقيين بمصلحتهم كمجموعة من المتخصصين او على الاقل العاملين في الحقل الفني، وبهذا المعنى أيضا يمكن تفسير حماس البعض، قبل ظهور معهد الفنون الجميلة نفسه، الى تأسيسه حينما يقول:" لما لم يكن لدينا معهد لتدريس الفن فكرت أن تكون عندنا جمعية فنية" أي جمعية تضمن تخريج الفنانين المتخصصين وليس كما كان الامر سائدا، وهو الاعتماد على المجهود الذي يبذله مدرسو الرسم في المدارس الابتدائية والثانوية على اكتشاف قابليات طلابهم.
ومن ناحية أخرى يعزى ظهورها الى كونه انعكاسا طبيعيا وموازيا لتبلور الوعي الاجتماعي والسياسي في البلاد . فقد اسست عام 1941 أي في الوقت الذي أخذ فيه الشعور القومي بالوضوح ولم تعد القناعة بالرضوخ لاهواء الدولة الحليفة بريطانيا ليعبر عن معنى الاستقلال الحقيقي. فهذه الاعوام ما بين تأسيس المعهد الموسيقي عام 1936، كأول مؤسسة فنية تعنى بتعليم الفن على اصول مدرسية وتأسيس جمعية اصدقاء الفن، شهد العراق بوضوح تفاقم الوعي السياسي، أي (منذ انقلاب بكرصدقي وحكومة حكمت سليمان عام 1936 وحتى حركة مايس وحكومة رشيد عالي الكيلاني عام 1941). ويبدو ان تطابق التطور الفني كان بهذا الشكل الدقيق وبصورة لا واعية ينم عن مدى صدق نوايا القوم، وتطلعهم بحماس نحو الحلول الفضلى. وقد حدثني عيسى حنا عن صدفة نادرة جمعته عام 1936 وبكر صدقي المذكور قبل ان يدبرانقلابه، وقد كشفت تلك الصدفة عن أن بكر صدقي نفسه كان رساما هاويا، وقد وعد وقتئذ عيسى حنا بمنحه فرصة السفر الى احد المعاهد الاوربية للتخصص بالرسم، وهذه الرواية رغم كل شيء تدل على مدى وضوح أهمية العمل الفني في اذهان القادة والزعماء وقتئذ.
ويجيء أخير دور الفنانين البولنديين في تحفيز الجمعية على العمل الفني، وهو دور ثانوي وغير مباشر، ذلك ان اقطاب الجمعية أنفسهم بعد احتكاكهم بالبولنديين أصبحوا من المستفيدين بتجاربهم. ويوضح ذلك فائق حسن في حوار له مسجل صوتيا بتاريخ 24/2/1973(مجموعة دائرة الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة والاعلام)، فهو يعترف ان البولنديين حفزوه على تجاوز بعض الصعوبات في التحول من المبدأ المدرس في الرسم الى المبدأ الحديث. مع ان بذور هذا التحول كانت كافية لديه منذ ايام الدراسة في (البوزار) بباريس. (فالحركة .. كانت مقتصرة على الاساليب الاكاديمية، وحينما وصل هؤلاء غيروا المفاهيم وأبعدونا عن الطرق الاكاديمية، وكان ذلك ضرورة لان بقاءنا على تلك الاساليب مدة أطول هو بمثابة مضيعة للوقت) ،وهكذا ظهرت موجة الفن الحديث بصورة قاطعة واكيدة في شتى معروضات جمعية أصدقاء الفن تقريباً بعد عام 1943 وكانت تأثيرات الاسلوب التنقطي التي اهتم بها الرسامون البولنديون وهم من تلاميذ بيير بونار الفرنسي قد ظهرت في اعمال فائق حسن واكرم شكري وجواد سليم وبعض تلاميذهم والهواة الملتفين بهم. ولم تظهر في اعمال عطا صبري وحافظ الدروبي.

ظهرت جمعية اصدقاء الفن. اذن في فترة بلغ فيها نضوج الوعي الفني فيها مبلغا جعل من الانطباعية وما بعد الانطباعية الاسلوب الرائد في التعبير الفني وقتئذ. ولم يحدث ذلك بفضل ثقافة المبعوثين الاوائل من الرسامين العراقين الذين تشبعوا بثقافة الفنان الحقيقية بعد ان لمسوها بحق وحقيق اثناء تواجدهم في اوربا (ايطاليا، فرنسا، انكلترا) ولا الدروس القليلة للرسامين البولندين المارين بالعراق بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية. فحسب بل وبسبب ظروف الحرب العالمية تلك، والتي انضجت الوعي الانساني للمواطن العراقي فأحكمت صلته بالعالم اجمع وحررته من زيفه الاجتماعي والثقافي المتخلفين بايقاظ شعوره بفساد واقعه وشحذ احساسه بتناقضته، وكان ذلك مواتيا لطبيعة الفكر الانساني حتى في مستواه (اللا شعوري والتجريدي)، أي بامكانية تجاوزه للمعطيات الاكاديمية في الرؤية الانسانية والتي هي من صلب الفكر الاوربي، تلك التي تجسدت في عصر النهضة الاوربية حتى نهاية الانطباعية.
وكانت بوادر هذه اليقظة وهذا التحسس قد ظهرت منذ دعوة المربى ساطع الحصري الى اهتمام الفنان العراقي بالثقافة الغربية بارسال المبعوثين أولاً والى اهتمامه بالتراث الحضاري ولفت نظر شباب الفنانين العاملين معه في المتحف العراقي الى أهمية الآثار العراقية الفنية وأهمية رسوم الواسطي ثانياً. فان هذا التحول الفكري المضاد لما كان التأثير الاوربي يعرض به شخصية الفنان العراقي الحضارية الى التصدع دونما وعي منه حينما يتعود على وجهة النظر الاوربية، بمثابة التيار الداخلي الآخر الذي سيضمن تكامل مسيرة الفنان العراقي وقتئذ، وهو مالخصه جواد سليم في بعض رسائله بقوله كانوا((قلائل(ويعني بهم الفنانين العراقيين)تحدق بهم المصاعب.. كان عملهم ينحصر في بعث حلم الاعرابي الملون غير المتناهي.. والتأليف بين انسان عاش بين احضان النهرين منذ آلاف السنين وصنع من الطين هذه التربة تماثيل صغيرة وجميلة وبين تعبير استمده من لندن و روما..).
وعلى كل حال فان جمعية اصدقاء الفن التي نشأت وعاشت خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها اوصلت الفنان العراقي في مسيرته الحديثة آنئذن الى اعتاب الفن العالمي الحديث. واضحى عليه ان يتابع تجاوزه لموافقه من منطلقات اكثر حداثة، وهو ماتحقق بالفعل في بداية الخمسينات بظهور جماعة بغداد للفن الحديث. لقد كان التحول الجديد في الافكار والاسلوب لدى الجماعة منسجماً ومستوى ثقافة الجمهور في تذوقه للرسوم والنحوت المعبرة عن الطبيعة والاشخاص وما يغلى من داخلها من عوامل وقيم ونوايا. ولم يكن غير الاسلوب الانطباعي وما بعد الانطباعي ولحد ما ايضاً الاسلوب التعبير ليعبر عن كل ذلك. وهو ما حاول فنانوالاربعينيات تعاطيه. فضلاً عن اساليب اخرى مدرسية او شبه مدرسية.
على ان لبعض النقاد والمؤرخين في الفن العراقي آراء اخرى. فشوكة الربيعي مثلاً يرى اعمال الفنانين العراقيين في فترة ظهور الجمعية كانت تتنوع مابين الاحتراف والهوية كما كانت تحتشد((باتجاهات اسلوبية مختلفة، بعضها ناشئ من التوتر الذاتي والمجتمعي في آن واحد وبعضها يمثل الاتجاه التقليدي الساذج الذي تركته الاساليب العديدة التي تحاكي الواقع..حتى ليصعب احياناً التفكيراوالتمييز بين الاختلاطات الاسلوبية العديدة..)). وهذا وصف على قدرعظيم من الصحة بل يكاد ان ينطبق تماماً على واقع الحال. الاانه يعود محللاً ذلك فيذكر ((ان الاستجابات الفردية جاءت بطيئة وغير مسؤولة في اضعف مكانة. كانوا قلائل لاتأثير لهم في الحياة اليومية، وليس هناك ماينبغي التحدث عنه على مستوى الشارع والمجتمع عموماً في تلك المرحلة الظاهرة والصعبة من تاريخ العراق. وبمقدار ماللرفض او عدم فهم من الخارج من تأثير كان هناك قوة دفع ذاتية لدى هؤلاء الرسامين فقد استهدفوا اكتشاف انفسهم، ساعين الى مطابقة الطبيعة واجراء تجارب بالالوان عليها كما فعل الانطباعيون الفرنسيون، وكانت هذه الاهتمامات الفسيولوجية هي القضية الملحة في ظل ظروفهم الفردية المتشكلة مع بطولتهم الروحية...وقد يحمل هذا الاستقرار نوعاً من صدق التجارب الفردية بسبب نوعية التطلعات تلك، وبقدر ماهناك من فرص موضوعية ملائمة )).
وفي رأيي ان التمييز بين العمل الفردي والجماعي في الفن من حيث الرؤية وليس الطرح يخضع الى التقيم الجمالي عند رصد وحدة الاساليب الفنية بشكل مدرسة او اتجاه وهو مالم يتحقق بالشكل النهائي حتى اليوم في الفن العراقي. كما ان حديث الفنان عن المجتمع والحياة اليومية لرجل الشارع هو الآخر يظل مسألة موقف لا مسألة اسلوب. من هنا فليس في الواقع من مجال للحديث عن فن فردي وآخر غير فردي في مجال الفن العراقي لهذه المرحلة*. ولعله كان يريد ان يقول ان الفنان في فترة الاربعينيات كان لايزال مفتقراً الى الالتزام الاجتماعي في التعبير الفني او بصورة ما الى العمل الجماعي الذي تنجزه الجماعة الفنية وهو ماتحقق فيما بعد **.
وفي حين يذكر نوري الراوي حينما يؤرخ لحركة الفن العراقي في أيامها الاولى(فترة حرب العالمية الثانية)" ان ابرز مايميز هذه الفترة هو تواصل الفنانين العراقيين الى اكتشاف (الشكل الجديد للعالم) وهو اكتشاف جوهري كان يقف في وضع مواجهة للرسم الطبيعي)الذي يشبه عقيدة مقدسة تحتل قلوب المتعلمين آنذاك ..". يعود فينعى على هذا التحول الذي أحكم رتاجه تاثير الفنانين البولنديين المتواجدين في العراق على بعض الفنانين العراقيين غياب الشخصية القومية ووضوح بل حضور"التقاليد: السمة الاكثر رواجاً في تلك الايام .. فاذا كانت هناك من محاولات للتأليف بين ظواهر الاشياء ودواخل الانسان فانما كانت محاولات يتسم نصفها بالسذاجة ونصفها الآخر بالتقاليد" وفي رأيي ان اعمال هذه الفترة لم تفقد أصالتها لدى بعض الفنانين كفائق حسن وجواد سليم وحافظ الدروبي. وقليلاً من التأمل لاعمالهم يستطيع ان يكشف لنا من بذور رؤاهم الفنية التي تطورت فيما بعد الى رؤى واضحة المعالم تنعكس خلال اساليبهم الحديثة المتطورة. فاستبدال أسلوب بآخر في العمل الفني لايعنى التقليد بل التأثير. وان تأثر الفنانين العراقيين بالانطباعية والانطباعية الجديدة في تلك الفترة كان الحل الصحيح للتطور الفني.على ان الابداع من خلال التأثر كان هو الآخر مسألة هامة لابد من ملاحظتها. لأن اكتشافه لدى هذا الفنان أو ذاك يظل الدليل على اصالته وحفاظه على معالم شخصيته الفنية ويذكر جبرا ابراهيم بهذا الصدد ان جواد سليم في رسومه لعام 1941 وما بعدها، بل وفي "أكثرها (كان) يبدي.. ميلاً الى الحركة العنيفة التي ستتحول فيما بعد الى نحته اكثر من رسومه" وكان جميل حمودي في نقده لاعمال جواد سليم عام 1946 قد اشارة الى هذا ايضاً حينما كتب عنه انه كان "في الصورة الزيتية نحاتاً بالنسبة الى عناياته الشديدة بالفورم والخطوط الملونة المجسمة للموضوع" ، بل ان تجربته في اكتشاف أهمية الالوان عبر رسومه الانطباعية لم تكن لتثنيه عن ألوان البيئة التي تحيط به. ومن هنا مغزى اشارته الواضحة الى مدى اهتمام يحيى الواسطي نفسه بالتمييز بين الالوان، والواسطي كما هو معروف سلف جواد سليم القريب، جواد الذي اعتاد ان يردد في يومياته او رسائله:" ياأخي الدنيا كلها الوان، حتى في الوحل الذي أمام شاعرنا ملايين من الالوان.. خذ يحيى الواسطي أعظم من ظهر من المصورين في العراق التي تدعى انها عديمة الالوان..بلاد النخيل .انه خلدها بصورة وألوانه (أو بالاحرى خلد نفسه لأن صوره كانت تختلف عما يرى امامه، لانه كان يخلق صورة) لا أظنك تذكر الصورة التي كبرها عن لواسطي عطا صبري من مجموعة لمقامات الحريري. انها صورة تمثل مجموعة جمال وجمال العراق تعرفها جيداً، لايتعدى لونها لون التراب. لقد صورها هذا العبقري العظيم كل جمل بلون يتناسب مع اللون الذي بجانبه".
وثمة رأى آخر ثبت عام 1948، ونستطيع ان نجده مؤشراً واضحاً في حينه يعين لنا مدى تبلور نشاط جمعية اصدقاء الفن التي اضطلعت منذ البداية في "نشر الذوق الفني الى حدٍ لابأس به.. ولقيت في سبيل ذلك كثيراً من المصاعب وقامت عندها كثير من المشاكل". وهذا الرأى هو الذي ظهر كمقدمة لدليل المعرض الفني العراقي في مؤتمر اليونسكو في بيروت عام 1948، والذي ساهمت جمعية اصدقاء الفن ولابد في التهيؤ له باعمال منتسبيها. يقول متى عقراوي كاتب المقدمة بما معناه ان الفنان العراقي لم يعد ليقنع بأن يستمد موضوعاته من الحياة الفسيحة في وطنه العربي، وان عليه ان يستلهم الفنون الحضارية "فيجمع بين الفنين الشرقي والغربي، ويخرج بفن عبقري جديد يمثل حياتنا نحن ولايكون مجرد تقليد للفن الغربي". ومن الواضح ان عقراوي هنا يلخص لنا رؤية جواد سليم التي كان يسعى الى تحقيقه في فنه. وكانت بدورها مدار نقاش عويص بين اعضاء جمعية اصدقاء الفن انفسهم، مما نستطيع ان نلمسه من أحد محاضرارادية جلسات الهيئة الادارية للجمعية. فقد كتب أكرم شكري يقول"في هذه الفترة القصيرة مرت علينا تجارب خاطفة وكثيرة بتخيلها البعض أدارية. وقد يجزم البعض انها تطور نحو تكوين الطابع العراقي، ولكني أعتقدت ان الوقت لم يحن بعد، وان كل ماحققناه هو رفع مستوى الفن المدرسي الى فن حديث فيه شيء من الابداع ".
وهكذا يتضح لنا الدور المهم الذي أضطلعت به جمعية اصدقاء الفن في ظروف غير مستقرة هي ظروف الحرب العالمية الثانية، وساهمت في تعبير موقف الفنان العراقي من كونه موقفاً مدرسياً او شبه تخيل او محاكماة هذه المطابقة عن طريق الاقتباس الى كونه موقفاً جديداً يؤمن بحرية التعبير الفني من خلال الصيغ الحديثة وبضرورة الحفاظ على موضوعية الوعي الداخلي للواقع. لقد هشمت في نفسه، هذه الفترة التي رسم فيها، متحمساً، للتعرف على صميم الفكر العالمي من خلال الاحداث السياسة والحرية، معانياً من نتائجها الاقتصادية والاجتماعية، ضرورة التعرف التدريجي على الحقيقة الانسانية، واطلعته على اهمية المغامرة والتزام الحرية والعمل الدؤوب في اكتشاف هذه الحقيقة. وكان الامر يدفعه لمتابعة بحثه فيما بعد لاكتشاف جانب آخر من هذه الحقيقة وهو أصالتها او بمعنى آخر تجسيد هذه الاصالة عبر تواصله مع التراث والحضارة.
على اننا نستطيع ات تتابع، ايضاً خط بيان تطور نشاط الجمعية (او منحناها) بشيء من الموضوعية ومن خلال المعارض التي انجزتها.
ففي المعارض الاول السنوي. كانت الاعمال الفنية تتألق من بعض المنحوتات تدور معظمها حول موضوع الصورة الشخصية اوصور الاشخاص، ومن الرسوم الزيتية وبالالوان المائية والتخطيطات. فلا يستعد ان تكون بعضها منقولة عن صور مطبوعة او عن الواقع المرئي. ولكنها جميعاً كانت مرسومة برؤية مدرسية بحتة، ماعدا بعض اللوحات التي تنم عليها اسماؤها مثل رحلة السندباد الثامنة او بالام والطفل. فهي مرسومة بشىء من الرمزية او المحاولة للتعبير عن الافكار. في حين كانت الرسوم الكاريكاتورية التي ساهم بها الحاج سعاد سليم تنفرد بمحتواها الانتقادي والاجتماعي معاً. ومثل هذه الظاهرة في التعبير الفني كانت معروفة لجيل تلك الحقبة. ومن جملة متطلباتها في الشعر قصائد للملا عبود الكوخي، وفي الصحافة مقالات وقفشات نشرت في جريدة حبزبوز، وحتى في محتوى المسرحيات كالتي ألفها مصطفى اويوسف العاني من بعده.
عن كتاب تاريخ الحركة التشكيلية في العراق