بيت الصقر لا تخفت أضواؤه

بيت الصقر لا تخفت أضواؤه

نجم عبدالله كاظم
للتوقف عند تجربة مهدي عيسى الصقر عادةً خصوصية تتمثل من جهة في طبيعة هذه الشخصية الأدبية المهمة، ومن جهة ثانية في طبيعة الكثير من أعماله التي تقوم على استثمار الواقع من حوله بشكل غير عادي يتمثل في الغرف منه لا استلهاماً فقط بل تناولاً له بوصفه وقائع تاريخية حقيقية،

ولكن، وهنا تحضر الخصوصية، مع دخول الروائي فيها بوعي وبمستوى خاص من الحرية الإبداعية يتيح له التصرف بتلك الوقائع بهذا الشكل غير المخلّ بالواقعة أو ذاك. وإذا كان هذا قد تمثل في أعمال معينة، مثل الشاهدة والجندي، وأشواق طائر الليل، فإنه لا تخلو من مثله أعمال أخرى للصقر، ومنها عمله الذي بين يدينا، رواية بيت على نهر دجلة التي صدرت قبل رحيل الكاتب بمدة وجيزة، عن دار المدى في سورية ــ 2006.
(1)
تبدأ الرواية، في فصل (العذراء) الذي هو الوحيد المعنون بين فصول الرواية، بتداعيات وذكريات وحوارات داخلية بضمير المتكلم، أو المتكلمة (ساهرة)، وبضمير الغائب ولكن تحديداً ضمير (أنا) الغائب، وانطلاقاً من وجهة نظر الشخصية ذاتها وعنها. ولعل هذا البدء، وفي ظل أجواء غير عادية، ينّم عن نوعية وطبيعة السارد والمسرود وأبطاله، وبتعبير آخر وبالضرورة عن بعض هوية الرواية وطبيعة موضوعها وعوالمها التي نُقحم بعنف فيها ومن الفقرات الأولي:

صوت مخلوق
عدت أسمع، وأنا أكابد الأرق في السرير، تلك الأصوات المتباينة والمتداخلة، التي كنت أسمعها عادةً، في ساعات الليل؛ لا دوي سيارة تخطف مسرعة، في الشوارع القريبة، أو فوق الجسر القريب الحديدي المجاور، لا وقع خطى في صمت الدروب، ولا غناء يرتفع، في هدأة الليل، لرجل يعود ثملاً إلى بيته، في ساعة متأخرة؛ لا صوت مخلوق، ولا لغط آلة.. الكلاب الضالة هي وحدها، التي تهيمن على ليل المدينة، نباحها اللجوج يملأ الهواء بين وقت وآخر... صوت الرصاص يتفجر، أحياناً، صاخباً ومباغتاً، في أماكن مجهولة من المدينة الحائرة والمنكمشة علي نفسها» ــ ص7.
ولأن السرد يأتي عبر التداعي، فقد كان من الطبيعي أن يتمثل فيه وعي الشخصية بهيمنة لا حدود لها، ومجيء بعض هذا التداعي خالياً من علامات ترقيم يعني أنه تداعٍ حر ينطلق من دواخل لا تكاد تكون لصاحبيه الرئيسين، (ساهرة) و(سعيد)، سيطرة عليه. ولعل هذا يبرر بإقناع للواعي فنياً ما يبدو لأول وهلة اضطراباً حين تأتي، في بعض تداعيات (ساهرة)، إشارة إلي الشخصية الثانية في الرواية، المريض (سعيد)، علي أنه ابنها مرة وأخوها مرة اخرى. فبعيداً عن تدخل الكاتب أو أي راوٍ خارجي يتضح لنا تدريجياً أنه أخوها، ولأنها قد ربته وهو صغير فقد اعتادت على التعامل معه كما لو كان ابنها. ويعزز ذلك، وانطلاقاً من العقل الباطن لـ(سعيد) نفسه، وعيه غير السوي بأخته كما لو كانت أمه. وبظننا أن هذه الإشارة إليه على أنه أخو (ساهرة) مرة وابنها مرة ثانية التي تبدو لأول وهلة وكأنها خطأ ولوهلة ثانية كأنها متعمدة ومكررة عن وعي وقصد، تضعنا في ما أرادته الرواية أن يكون وضعاً أو وجوداً غير سوي أو غير طبيعي سنكتشف سريعاً أنه موضوع الرواية، الأمر الذي فرض بالتالي أن يكون أناس هذا الوجود والوضع غير طبيعيين، وهو ما ينطبق على (ساهرة) و(سعيد) يشكل أساس لينجرّ على غيرهما من الشخصيات، وربما على المجتمع الذي تنتمي إليه. ونظن أن تبرير ذلك وتعليله يأتي مقنعاً حين ندرك سريعاً أنه كان واحداً من إفرازات حرب كانت ثمراتها لعائلة هاتين الشخصيتين متعددة المستويات، أوّلها، في مسار الأحداث، مواجهة (سعيد) للواقع الوحشي والسوداوي في الوطن، وقبل ذلك تجربة الأسر المُذِلّة وما رافقه من تعذيب، وأخيراً تطليق زوجته (فاتن) منه، التي تكون قد تزوجت أصلاً من شخص آخر، هو ضابط كانت قد التقت به في مراجعاتها هي و(ساهرة) لدائرة عسكرية لمعرفة مصيره. ويبدو، وإنْ لم يكن صريحاً وواضحاً، أن هذا الضابط الذي أثارته أنوثة (فاتن) قد أوهمهما باستشهاده في سبيل الزواج منها. في ظل هذا كله يكون فقدان العقل أمراً متساوقاً مع العالم الذي يجد (سعيد) نفسه فيه: يريدها [زوج أخته] تأخذني إلي الطبيب كأنني مجنون لكنني لست مجنوناً أنا فقط قطعت الحبل مع القافلة مع ذلك سوف أجاريهما وأذهب من أجل أمي هي تظن أنني مخبول لأنني أحب إشعال النيران سوف أذهب... وأنظر إلى وجهه وبعد ذلك أقول له أعذرني دكتور فأنا لا أستطيع أن أبوح لك بشيء فلو أن جنابك سألتني وأنا لا أزال علي قيد الحياة كنت حكيت لك الحكاية من أولها إلى آخرها لكنني الآن ميت ومثل أي ميت تركت ذاكرتي ورائي وما عادت خناجرها تمزقني فلا تتعب نفسك معي يا طبيب النفوس المريضة» ــ ص12.
وهكذا فإن الرواية في معظمها مروية من خلال وعي شخصيتيها الرئيستين غير السويتين تماماً، ومن خلال تداعيات حرة، ولا سيما عند (سعيد)، وشبه حرة، ولا سيما عند (ساهرة)، وهو الأمر الذي يبرر أنْ أتت أقسام منها بدون علامات ترقيم. ومن الواضح أن الرواية تستوحي هنا ما فعله جويس في «يوليسيس»، وفوكنر في فصل المعتوه (بنجي) في «الصخب والعنف»، انطلاقاً من المبررات الموضوعية نفسها، مع أن بعض هذا التجاوز لعلامات الترقيم قد لا يكون مقنعاً، ذلك أنه قد روى بضمير الغائب أي براو غير الأخ المريض، وعليه يسقط تبرير هذا الإهمال أو التجاوز لعلامات الترقيم، المتمثل في عدم وعي صاحب التداعيات، لو كان هو الراوي، بوسائل ضبط أو إعراب وما إلى ذلك. وعموماً نحس هنا نفَس فؤاد التكرلي وأسلوبه، مع التأثير الواضح لفوكنر في «الصخب والعنف»، وخاصة في فصلي (بنجي) و(كوينتن). فما أقربنا، في مراقبة (سعيد)، وإلى حد مقارب (ساهرة)، للأشخاص والأشياء وأجزاء الجسم المتحركة أمامه، من مراقبة (بنجي) في «الصخب والعنف»، حين يُعني بمتابعة الأشياء والحركات الصغيرة للإنسان، جسمه وعينيه ويديه:
«ابتسمت وهزت رأسها وحدقت في ظاهر كفيها تتأمل العروق المتشابكة التي ظهرت قبل الأوان وجعلت البشرة تفقد نضارتها. لمحت ظل زوجها يتأرجح على البساط... شاهدت ظليهما يتوحدان على البساط وأسفل الجدار فضوء الفانوس يسقط على ظهريهما بشكل منحرف ويدغم ظلها بظله»، ص33 ــ 34.
وتأتي هيمنة وعي الشخصيتين الغارقتين في فوضي الواقع، من خلال تنقّل وجهة النظر بينهما. فلا تنتقل وجهة النظر إلى غير ذلك، إلا في النصف الثاني من الرواية الذي تحتل فيه (فاتن) مساحة كان من حقها وفقاً لذلك أن تقدم وجهة نظرها، أي النظر إلى الأمور من زاوية نظر أخري غير تلكما اللتين تنظر منهما (ساهرة) و(سعيد). كما يكون مبرراً أن يقدم لنا (ماجد) صوته أو وجهة نظره ويضعنا في الزاوية التي ينظر منها، لأنه يمتلك النظر الأكثر موضوعية كونه أبعد الشخصيات عن العلاقة بالأحداث. بقي أن هذا يعزز فنياً ما تفرضه تعددية وجهات النظر من حيث رؤيتنا نحن للشخصيات، ذلك هو أن معرفة كل شخصية وفهمها وتقويمها والحكم عليها غير ممكن أن يتحقق من خلال رؤيتنا نحن لها مباشرة فقط، بل الأهم، قبل هذا، من خلال منظور كل الشخصيات الأخرى من حولها ورؤيتها لها.

العالم الآخر
إذا كانت الفقرات الأولي من الرواية قد كشفت عن طبيعتها وطبيعة موضوعها وعالمها وشخصياتها، فإن تعبيرات معينة، ترد مبكّراً، تعزز تلك الطبيعة، لعل أهمها وأكثرها عمقاً تعبير (العالم الآخر) من خلال دلالتين يمتلكهما سيعبران عن الرواية كلها، هما (الموت) باعتبار أن (ساهرة) وهي المعنية أكثر من غيرها بأخيها، كانت تعتقد أنه قد استشهد في الحرب وفقاً للتبليغ الرسمي لها بذلك، و(الأسر) باعتبار ما ظهر بعد ذلك من عودة (سعيد) منه، وكلا التعبيرين إنما ينطبقان على العالم الذي تتحرك فيه الرواية وعلى أناس هذا العالم. ونعتقد أن الرواية تنجح تماماً في أن تهيئنا للعالم غير الطبيعي الذي يبدو لنا أنها قد أرادت أن يصل إلينا، وفي أن تقنعنا ــ وهذا هو الأهم هنا ــ بأن هذا العالم غير طبيعي، بل وحشي، والأهم والأعم والأكثر انغرازاً فينا أنه من حولنا، كما هو من حول الشخصيات. وهكذا تكون نتيجة مهمة تعزز تواصلنا مع الرواية تلك هي التي قد يعبر عنها (سعيد) في ولعه غير الطبيعي أو المجنون بإشعال النيران الذي يتلبسه بعد عودته من «العالم الآخر، بعد غياب طويل» ــ ص6، على حد تعبير الرواية. ولأن الفعل ــ أو ربما الرغبة في هذا الفعل ــ مجنون وغير سوى بكل المقاييس الإنسانية التي من الطبيعي أن تتواصل مع مسار الأحداث ونحن نحملها معنا، فقد كان على الرواية، لكي نصل معها إلى قناعة في أن تسير بنا في مسارٍ هو مسار أزمة أو أزمات إنسانية تعبّر عن معاناة مختلفة الأوجه والشخصيات أكثر منها مسار أحداث عادية أو تقليدية، سواءٌ أكانت متخيلة كما نفترضها في أي عمل سردي، أو حقيقية كما نحسّها فعلاً. وهنا يكمن الإنجاز الفني الذي بظننا أن الرواية قد حققته مقروناً بتعبير متعدد الأوجه: فكري، وسياسي، واجتماعي، وإنساني. ويعزز ذلك ويوصله أن للنار والحريق الذي يمتلئ (سعيد) شغفاً في تحقيقه دلالة أو دلالات أبعد من معانيها قد نختلف في تحديد هويتها، خصوصاً وهي تأتي بشكل رغبة غير طبيعية من الأخ غير الطبيعي أو المريض. هذه الدلالات وعمقها ومبررها تتحقق بدرجة ما من خلال وعيه هو حين يتصور نفسه ابتداءً في طابور من الأسري أمام المراحيض، وما تستتبعه تلك الصورة من صور الأسر والحرب الأخرى التي تأتي تباعاً، وكلها موجعة ليس لصاحبها فقط، بل لنا أيضاً، وهي غالباً ما تتداخل، في وعي (سعيد) مع أحداث الحاضر، وكأنها تقول له أنت لا تزال وستبقي تعيشها.
وإذا كانت مأسوية الأسر من الوضوح، بحيث نستطيع أن نتصوره بدون أدني حاجة للتفصيل فيه وفي استرجاع أحداثه إلا بحدود ما يجسد خصوصيته، فمن الواضح أن مأسوية الحياة عموماً، وكما تعبر أوضاع عائلة (ساهرة) ومأساتها التي مركزها ابنها الأسير السابق، تتعدي ذلك، بل أعمق من ذلك حين تتجسد بعد العودة من الأسر (العالم الآخر)، إلى الوطن (عالم العائلة) وعبر مفردات وأحداث ومفارقات غير عادية. وكأن الرواية قد أرادت أن ينعكس ذلك كله لا من خلال تلك المفردات والأحداث والمفارقات ذاتها فحسب، بل من خلال نوعية رؤي الشخصيات ونظراتها إلىالأشياء والكيفية التي تظهر بها أيضاً، ومن خلال توفير ما يُظهرها بهذه الكيفية. وهكذا، وضمن اهتمامات بما قد لا يبدو له أهمية ودلالات في مناسبات أخرى، كان لليل بشكل خاص هنا مكانة ودلالة غير عادية، وتعلقاً بذلك للضوء والظلمة، وما يسببانها من ظلال وخيالات وحركات تحوط بالشخصيات وبمواقع الأحداث، مع رصد ومتابعة لحدود الظلمة والضياء المتداخلة. فهذه الوحدات تخلق أجواءً خاصة تعمّق الأزمات، وتسهم في ترجمة أوضاع الشخصيات النفسية ودواخلها:
ضوء الفانوس يمسح بعضاً من سواد الليل عن الجدران، وخزانة الثياب، وطاولة الزينة، والملابس المتدلية من أصابع المشجب في ركن الغرفة، وعن ستارة النافذة، والظلال تتراكم، بدرجات مختلفة من القتامة علي السقف، وعلى البساط. ومرآة الزينة ــ المضاءة بشكل خافت ــ تعكس صورة الفانوس المنخفض الإنارة» ــ ص6.
تبدو الرواية في ظل هذا كله رواية مآس ومعاناة إنسانية. ولعل مأساة (سعيد) بالتحديد تعبر عن ذلك إذا تمثل تحطم شخصية الإنسان في القتال وفي الأسر، وفي ظل الحروب ليكون ليس كما كان. لكن ما يتعدى شخصية (سعيد) من ذلك على ساحة الأحداث وعالمها إنما يعزز أولاً مأساته، ويسهم ثانياً في تصوير العالم الذي يتحرك فيه، ولتقول الرواية من خلاله ثالثاً، وتعلقاً بذلك وإضافة إليه، إن هذه المأساة ليست في الواقع فردية، بل جماعية، وربما شاملة. وبها لا يعود هذا العالم هو العالم الذي نفترض أن الشخصيات قد ألِفتْه من قبل، وتألفه عادة في الظروف الاعتيادية، كما يتمثل في عيني (ساهرة) بشكل خاص، التي هي أحد الشهود عليه: كانت السيارات تكشف أحياناً عن الجوانب السفلي لأغصان تتدلي خارج أسيجة البيوت أغصان ساكنة يغطيها ما يشبه الرماد الأسود حملته الريح من حرائق هائلة بعيدة (وداخلني شعور بأنني أمشي مع ابني في دروب مدينة حل عليها غضب الله فتحول أهلها إلى أشباح وأشجارها إلى نصب من حجارة سوداء)» ــ ص54.

أزمات هذا العالم
انطلاقاً من طبيعة الرواية كما عرفناها فيما سبق، ومن طبيعة الشخصيات التي بعضها شبه غائب عن العالم من حوله، والبعض الآخر غارق إلى النخاع في أزمات هذا العالم، كان مما لجأت إليه الرواية تقنياً التداخل بين الأحداث المختلفة، خصوصاً وهي غالباً ما تأتي مبرّرة بتداعيات الشخصيات غير السوية أو التي هي في أوضاع نفسية غير سوية، ولا سيما (ساهرة) و(سعيد). فمن منظور (سعيد) بشكل خاص يأتي التداخل بين الأحداث التي تقع في الحاضر بعد عودته من الأسر، والتي كانت قد وقعت من قبل حين كان في الأسر، من ذلك مثلاً التداخل بين حدث الحاضر حين تقرر قوات أمنية أو عسكرية، بناءً علي كلام منه، هو أشبه بالهذيان بالطبع، الحفر تحت سرير (ساهرة) وحدث أو أحداث الماضي، إذ وقعت أيام الحرب والأسر في الماضي:

الشظايا الحارقة
اقتحموا غرفة أمي ساهرة يحملون أدوات الحفر ثم تطايرت الشظايا الحارقة ودوت الانفجارات وسقطت على الأرض في الصحراء وكانت أمي تقف في باب الحجرة تنظر إليهم يحفرون تحت سريرها وترمقني بغضب وأنا لا أنظر إليها وهم يحفرون وأحذية كبيرة معفرة بتراب صحراوي أبيض وناعم تتحرك حول جثتي وأحس بطرف حذاء ينحشر بين كتفي وتراب الأرض فيهتز جسد سعيد ثم ينقلب على ظهره يواجه عين الشمس... ويسألني رئيسهم حانقاً أين هو السلاح الذي قلت لنا عنه وأشعر بسخونة حديد السيارة تحرق ظهري ورائحة أجساد دامية أخري شحنوها معي فوق ظهر اللوري ويقول الرجل لأتباعه واصلوا الحفر والصحراء تركض من حولنا وتصيح آاااخ يابه... المحقق يخرج سيجارته من فمه وينفخ في الهواء فيبعد هو وجهه عن الدخان الذي ملأ الغرفة يسأله وماذا حدث بعد ذلك يقول له إنه ما عاد يتذكر حاول نعم تذكرت في إحدى سفراتي درّبونا على إصابة الهدف لكي نستعد دربوكم كيف جاؤوا برجال ونساء وأطفال مثل ولدي أنا كان عندي اثنان قبل أن يأتوا بجثتي إلى ساهرة ربطوهم كلهم إلى أعمدة وأمرونا أن نسدد فوهات بنادقنا إلى المواضع المؤشرة بالأحمر ورفعنا بنادقنا هكذا يغمض إحدى عينيه ويوجه فوهة سبابته نحو قلب المحقق طاق طاق يواصل إطلاق نيرانه علي الهدف الذي يتهدل مشدوداً إلى العمود ويختلج اختلاجات العذاب الأخيرة» ــ ص91 ــ 93.
وتتداخل أحداث الحاضر، وأماكنه المختلفة فيما بينهما، وإن كانت محدودة، من منظور (ساهرة)، خاصة حين تتصاعد أزمتها الداخلية، مثل ذلك الذي في ص44 ــ 45.
وإذ تأتي هذه التداخلات ترجمةً لطبيعة العالم وأحداثه وأزمات الشخصيات ليكون بذلك مبرراً ومقنعاً لنا موضوعاً، وحدثاً،ً وسلوكاً لهذه الشخصيات، فإنه يكون وسيلة تقنية رئيسة من التقنيات المستخدمة في الرواية، خصوصاً أن أحداثها ما كانت لتكتمل غالباً وتتألق، بدون لملمة ما يأتي متشظياً، وبما يتلاءم مع تشظّي العالم الذي تدور فيه، عبر الشخصية الواحدة أو مجموع الشخصيات. عدا ذلك كان بالإمكان أن تقدَّم الأحداث، وبتعبير آخر الرواية بشكل تقليدي وبنسق زمن حدوثها وبرواية شخصية سوية أو غير سوية من شخصيات الرواية، أو برواية شخص ثالث عليم أو غير عليم. ولكن ما كان لها لتكون بفوران العواطف وهياج الانفعالات وصدق التعبير عن الدواخل الإنسانية التي جاءت عليها من خلال وجهات النظر التي قُدمت من خلالها والتقنيات التي قُدّمت بها.
في العودة إلى الولع غير الطبيعي أو المجنون للأخ بإشعال النيران الذي عرفنا أنه يتلبسه مذ عودته من (العالم الآخر)، نعتقد أنه لا يمكن لتفكير أي منا إلا أن يتجه أولاً لا إلى الحارق أو الراغب بالحرق، نعني (سعيد)، بل إلى المحروق أو الذي يريد (سعيد) أن يحرقه، للإجابة على السؤال (لماذا؟) الذي لا بد أن يرتفع، خصوصاً أنه ليس للقارئ، ومهما كان تلقيه، إلا أن يحس في رغبة (سعيد) المجنونة هذه غضباً أو رفضاً أو على الأقل عدم رضا عن هذا الذي يريد أن يحرقه. وإذا ما عرفنا هوية هذا الذي يريد حرقه عرفنا كم هو حجم عنف هذه الرغبة وكم هو حجم الضغوط والعذابات التي تعرض لها، وكم هو حجم المعاناة التي وقعت عليه، ليكون فعله الناتج عن رغبته، حين يقع، مقنعاً أو على الأقل متفهَّماً. ولأن هذه الرغبة هي محور الرواية ومحرك مسارها فقد كان مبرَّراً فنياً أن تكون النهاية عبر نهاية هذه الرغبة وتنفيذها مسبوقة بمبررات صريحة ومرموز إليها، لتكون مجنونة ولكن معبرة بالتأكيد، بل مقنعة، لأنها تأتي مبررة لفعل (سعيد) ومخرجةً له من أن يكون تعبيراً عن رغبة أو أزمة أو مأساة فردية، لا سيما أنه يأتي ممن يُفترض أنه مداوي الأزمات والمآسي، نعني طبيب (سعيد) النفسي، الذي يُفاجئ الآخرين بالتعبير غضباً عنيفاً عما هم فيه غارقون، ويفاجئهم أكثر حين يكشف عن حقيقة أنه هو نفسه غارق فيه، وربما أكثر منهم:

تأزم وانهيار
عندما تنزل في بلاليع المجاري فإنك تتوسخ جسداً وروحاً!)
يتكلم الدكتور سالم بعد الصمت الطويل، ويتابع قائلاً:
(وأنا أدخلها كل يوم.. سنوات وسنوات وأنا أنزل فيها، كل يوم، باستثناء أيام الجمع، والعطل طبعاً.. كل يوم، فهم يقصدونني من كل مكان من البلد، يأتون من الجنوب، يأتون من الشمال، يأتون من الوسط، ويلقون يثقل عذاباتهم، وأحزانهم، علي صدري!...)» ــ ص187.
ومع كل ما يبدو عليه الطبيب، وهو يقول هذا، من تأزم وانهيار، فإن الكثير مما يسبق ذلك في الرواية يجعل من كلامه، ومن ثم فعله مفهوماً، وكل ذلك بمنح المعاناة العامة ومعاناة (سعيد) بشكل خاص، وما قادت إليه من خراب وغضب وضياع وخراب للعالم والناس والقيم، في ظل حرب وظلم وانحراف ذمم وفقدان إنسانية الإنسان ورُخْصه مما يتجسد في مشاهد صارت هي الحياة اليومية للناس والبلد، كما يتمثل في امرأة في حالة عراك مع زوجها في طابور أمام دائرة عسكرية يُستفسر فيها عن مصائر أو جثث أبناء عسكريين مفقودين أو شهداء:
يقترب منهما الضابط، ويتساءل في انزعاج (لماذا هذا الصياح!؟) تتضرع إليه المرأة: (الله يخليك ابني، ويطوّل في عمرك! أنا امرأة فقيرة، والمرحوم الذي جاؤوا بجثته إليكم كان ولدي الوحيد!) صاح الرجل (وأنا أبوه، سيدي! أنا أبوه!) قالت المرأة (أبوه بالاسم! سيدي هو هجرني قبل أكثر من عشرين سنة، وابني ما يزال رضيعاً...) قال الضابط يقاطعها مرة أخري (فهمت! جاء يطالب بالتعويض!... المسألة بسيطة. تقاسما بينكما التعويض عن استشهاد ابنكما! دعي أباه يأخذ السيارة، وأنت خذي قطعة الأرض! ويتحرك مبتعداً، ورآه يتردد صوت الأب المبتهج وصوت الأم المخذولة» ــ ص112.
هكذا صارت حياة الإنسان وهكذا صار موته، وقد فقد كل ما يختلف به عن الأشياء والحيوانات، وليكون في مأساويته وعبثيته مسار الرواية ومسار أحداثها. وكما كان مسار الأحداث تكون النهاية في مستوي هذا الواقع السوداوي. وزاد من مأساوية النهاية وسوداويتها، كما هي فنيتها وموضوعيتها أيضاً أنها جاءت من خلال (ماجد) زوج ساهرة شبه الصامت أو الحيادي وسط عالم الفوضي والصراع والمآسي، والمراقب الحيادي غير الضالع إلا بشكل هامشي في الأحداث وفي معمعة العائلة التي تبدو مصابة ومفجوعة ومأزومة مرة، ومريضة عصابياً ونفسياً مرة ثانية، وغير الطبيعية مرة ثالثة:
تشوف هذا الدولاب؟ ما عاد في أدراجه متسع لمريض جديد. المرضى يملؤون الأرض والسماء، ويحاصرونني. تصور أنهم ينامون بيني وبين زوجتي على السرير، يجلسون معنا، على مائدة الطعام، يذهبون معي إلى النادي، يمشون معي في الطريق، يزاحمونني داخل السيارة، ويسدون عليّ المنافذ، عيونهم تلاحقني، عيونهم تسائلني وتستنجد...).
ستل عضوه، ويبول على أحزان مرضاه، وهو يدور حول التل الصغير، كي يرشهم من كل جانب، ويضحك متشفياً...
(والآن سأضع فوقهم أوراقاً يابسة نظيفة، وبطاقات لم تتسخ بعد، وأشعل فيهم النار!)» ــ ص190 ــ 192.
هذا كله يأتي مبرِّراً للفعل الأخير الذي كانت الرواية من أولها تهيئنا له، لتكون النهاية وكأنها في هدوئها أكثر عمقاً وتعبيراً عن موقف نستطيع أن نحس أن الرواية عبرت عنه. فأنْ ينهار الطبيب ويحرق ملفات مرضاه، يعني ليس غريباً ولا مفاجئاً إذن أن يفعل المريض شيئاً مثل هذا، إذ أن فعل الطبيب يجسد من جهة عمق الخراب، وعمق الانهيار الذي لم يصب مريضه (سعيد) فحسب، بل العالم والناس جميعاً، لتأتي الأسطر الأخيرة بمواجهة (ماجد) و(ساهرة) للفعل الأخير المنتظر: ينزل عن فراشه ويذهب إلى النافذة. لكنها لا تنتظر. تقفز عن السرير، تفتح الباب وتركض إلى غرفة ابنها. ترى فراشه خالياً، وباب الدار مشرعاً، وأضواء الحرائق تنير سماء المدينة» ــ ص198.
فهل هذا الذي أرادت الرواية أن تعبر عنه، من خلال النهاية التي تأتي نتيجةً للرواية كلها، هو أن تكون صرخة بوجه هذا العالم الذي عالجته، وحكماً على عالم رأت أنه لم يعد إنسانياً، وإلفات نظرنا إلى المأساة أو الكارثة القادمة؟ وهل هي تنبؤ بمصير الإنسان في عراق الحرب والذي يتمثل في الأجواء وانهيار الإنسان وفقدان القيم والذمم، والصراع على كل شيء، كذلك الذي رأيناه بين الأب والأم على تعويضات استشهاد ابنهما. بعبارة أخرى، ولأننا نكاد نجد عالم الرواية في الواقع من حولنا، تبدو الرواية بنهايتها ــ كلام الطبيب وفعله، ورغبة (سعيد) المجنونة وتنفيذها ــ وكأنها صوت قوي يقول: ليس من مفر، فكلّنا على سفينة غرقى!..