الفتوحات النورمانية في عالم النساء والأدب و السينما

الفتوحات النورمانية في عالم النساء والأدب و السينما

ترجمة: عادل العامل
تُرى، أية آخرة مفعمة بالحيوية و النشاط هذه التي انتهى إليها نورمان ميلر!
لقد ترَكََنا خلفه و مع هذا تدور هنا مادة من القيل و القال غير العادي من وراء القبر، كما يقول جيمس وُلكوت في مقاله هذا. فالكاتب الذي لم يتوقف أبداً عن صنع الأخبار.


ــ من سن الخامسة و العشرين، حين أمسكت روايته الأفضل مبيعاً (العاري و الميت) برأس جسر الأدب القصصي الأميركي لما بعد الحرب، حتى موته و هو في سن الرابعة و الثمانين في عام 2007، وقت الإثارة النقدية بشأن روايته الأخيرة (القلعة في الغابة The Castle in the Forest)،
و هي سبرٌ شرجي ميتافيزيقي للشر الأولي لدى أدولف هتلر ــ كان ذا عقلية محارب لا تسمح له بأن يدع كلماته تقوم بكل الكلام. فقد كان لقبضتيه و قضيبه دوراهما الرئيسين هنا. و ربما كان مؤلف العهد الحديث الشهير، و وارث ذكورية همنغوَي الثقيلة الوزن و عبادة التجربة (تذوَّقْ ذلك الهواء البحري الملحي، تنشّقْ ذلك العبير اللاذع!)، قد شق طريقه عبر جدران الطبع الورقية ليختبر نفسه على خشبة المسرح و الشاشة (كاتبَ سيناريو، و ممثلاً، و مخرجاً)، في ستوديوهات التلفزيون (متصرفاً مثل سحابة رعدية غاضبة في مواجهته السيئة الصيت مع غور فايدال في عرض دِك كافيت)، و ميدان حركة مساواة الرجل بالمرأة، و مضمار العمل السياسي (و كان يعدو وراء منصب عمدة نيو يورك في عام 1969)، و حلبة الملاكمة (و هو يتظاهر بملاكمة خوزيه توريس في العرض التلفزيوني الآنف الذكر). و قد لازم العنف حياته المندفعة قدماً على حافة سكين أعصابه. فقد صنع العناوين المثيرة لطعنه زوجته الثانية، أديل موراليس، في حفلة بعد أن دعته بـ"حزمة عصي faggot"، و لمشاركته في تكفّل إطلاق سراح السجين جاك هنري أبوت، الذي قام بعد وقت قصير من ذلك بطعن نادل حتى الموت في الإيست فيليج. و مع الوقت، قاربت حياة ميلر نهايتها، على كل حال، و اختفت الإثارات التي كان قد أحدثها على الأرجح، متبددةً في السماء الشتائية، و قد راح شعره و سمعته يلمعان بلون الفضة و كأنه رجل دولة. و بخلاف بعض الروائيين حين يدخاون طور التدهور، لم يقلل ميلر من حجم طموحاته في سنوات كِبره، هادفاً بدلاُ من هذا إلى ما هو واسع و رفيع الشأن مع أعمال كبيرة مثل (شبح هارلوت)، و (حكاية أوزوالد)، و الجزء الأول من ملحمة هتلر النثرية، (القلعة في الغابة). و كان يعتزم أن يمضي بالطريقة التي جاء بها: كبيراً.
و بعد الموت يأتي الانكماش، نقصان الاهتمام الذي يمكن أن يتضاءل إلى لامبالاةٍ كلية تقريباً. و قد منعت من حصول ذلك أمور معينة مثل قيام جمعية ميلر المؤسسة في عام 2003 برعاية مؤتمرات و نشر إصدار سنوي سميك لكل ما هو ميلري، و تحويل بيت ميلر في بروفنستاون إلى مستوطنة للكتّاب ذات منح دراسية، و إعادة إصدار بعض أعمال الكاتب، و نشر مقتطفات من مراسلاته الضخمة في عدد من الصحف و المجلات. كما أن هناك الآن سيرة حياة جديدة يكتبها ستيفن شيف، و هو محرر مشارك سابق لمجلة فانيتي فير. و كل ذلك مناسب جداً و له قيمته. لكن هناك الآن بعض الصدمات القديمة في الليل قد عادت لتلسع، مثيرةً عدداً من الأسئلة غير المرغوب فيها.
و قد نُشرت ثلاث مذكرات في هذا العام وحده حول كون المرء في صحبة ميلر و كارزماه، هي: (صباحات مع ميلر) التي تتّسم بالعاطفية و الجو المنزلي، لدواين ريموند، طباخة ميلر و مساعدته في البيت في بروفنستاون، و (بطاقة للسيرك) المتألقة لكن الموجعة، لنوريس تشَرش، أرملة ميلر الشاحبة كالقمر، و (ميلر المحب) لكارول مالوري، و هي إحدى المُحبات اللواتي لا يُعرف لهن عدد. و بالرغم من كونهما متعارضين دراماتيكياً في النبرة و الجوهر، فإن الكتابين الأخيرين يحملان علامات الخرق المتخلفة من قرون ميلر الساتيرية satyr (هو أحد آلهة الغابات لدى الأغريق).
و كما هي الحال مع الكثير من الأبطال الفاتحين من جيله الأدبي، كانت لدى نورمان ميلر"مشكلة مرأة"أربكت سمعته و هو في الوجود و يمكن أن تكون قد كلّفته الكثير و ستجلب القليل من المحبة لدى القراء و المحسوبين على الأدب في المستقبل. فكون المرء متعصباً ذكورياً ليس بالشيء الذي يجرّده أوتوماتيكياً من الأهلية في قسم الأدب القصصي، و هناك روائيون موصومون بكره النساء قدّموا صوراً تعاطفية، نافذة البصيرة، و كاملة الأبعادعن شخصيات أنثوية قصصية، مثل كينغسلي أميس و جون أبدايك. و الشيء الذي يتّسم بالعجز هنا أن ميلر في كتاباته كان ضعيف التمييز سايكولوجياً، و إبداعياً، و تقمّصياً حين يتعلق الأمر بالنساء، و شخصياته الأنثوية خليط باهت اللون من عاهرات ــ ملائكة ذات أحمر شفاه جاهز للتلطيخ. و أحد الأمور الغائمة بشأن صنعة ميلر أنه حتى و هو ينط و يغوص في محيطٍ من النساء ــ ست زوجات، و عشيقات و علاقات عرَضية لا تعد و لا تحصى، و خمس بنات ــ فإنه لم يتعلم فعلياً كما يبدو من أي شيء منهن، لأنه لم يكن في الواقع يصغي لأحدٍ على الإطلاق. فالمرء لا يحتاج لأن يصغي إذا كان يصر على أي شيء و يحصل عليه بطريقته هو. و للعبقرية امتيازاتها، و الامتياز الذكوري يوفر قوة دافعة إضافية.
و كما هي الحال مع الكثير من الأبطال الفاتحين من جيله الأدبي، كما ذكرنا آنفاً، فإن ميلر كانت له"مشكلة أمرأة". و من الصعب أن نغفر لميلر العصَّارة التي وضع نوريس تشَرش فيها، حتى لو كان الغفران ليس منّا كي نحجبه أو نعطيه. ففي (بطاقة للسيرك)، تصف الموديل و المعلمة السابقة حبها الرومانسي و زواجها من ميلر في مذكرات يمكن اعتبارها سخية، و حلوة، و ملاحَظة جيداً، و تصالحية في حديثها عن الاغتصاب و إخفاق العدالة، و متّسمة بالغضب، لكن ليست قاسية أبداً. و مع أن ميلر كان يغرد لها برسائل حب لم يسبق لها مثيل، فإن متفرجين بارزين، عقلاء بالنسبة لأساليب ميلر، راحوا يلوّحون بأعلام التحذير لتنبيهها إلى حسرة القلب التي أمامها. فكانت إليزابث هردويك، الروائية و كاتبة المقالات، تحذرها"بتلك القهقهة الصغيرة التي تتصف بها"بأن لا تدعه يجعلها حاملاً، و أعطتها عضو مجلس الشيوخ الأميركي، بيلا أبزوغ، رقم تلفونها كخط طوارئ شخصي لأربع و عشرين ساعة. فلم تهتم نوريس لذلك كله و انتهت قصتها الرومانسية بالزواج الذي أصبحت أقساطه مشبكاً لأعمدة القيل و القال و صفحات المشاهير. و بخلاف زيجات ميلر السابقة، بدت هذه الزيجة و كأنها ستكون التفافة مصارع الثيران المثيرة في ميدان الزواج. و حين كانت نوريس تُسأل عن وضعها كزوجة لميلر، كانت ترد بشكل لاذع"الزوجة الأخيرة"، و قد برهنت على أنها ذلك فعلاً.
لكنه كان فصلاً طويلاً من البلاء و الغدر عاشته معه و لم يستطع حتى الموت أن يخفف من مذكراتها الكالحة هذه. و قد بدأ ذلك كله بشكٍ في رحلةٍ قام بها ميلر إلى كاليفورنيا، إلى جنب وصولات بطاقات ائتمانية من شيكاغو، لم تكن على خط الرحلة. و قد ادّعى أنه قام بتوقف غير مجدول لمقابلة سول بيلو بشأن مشروع مشترك، و هي كذبة غير معقولة انفضحت في حينه، و اعترف ميلر الكسير بالتقائه صديقة قديمة، لكنها لم تكن مرة واحدة فقط. و راحت نوريس تشد الوتر المحلول في سلسلة الأدلة و وجدت نفسها ينزل عليها منطاد من المومسات، انفجار من النوع الكلنتوني (نسبةً إلى بيل كلنتون الرئيس الأميركي السابق و فضيحته مع مونيكا). و من الجدير بالذكر أن نوريس تكشف في كتابها هذا عن أنها كان لها موعد قصير مع رئيس المستقبل هذا. و قد امتلأت أدراج مكتب ميلر بالرسائل، و الكمبيالات، و الهدايا، و الصور الفوتوغرافية من صديقاته، بما في ذلك كومة من الصور العارية، من النوع التذكاري الذي يصعب على كثير من الرجال الافتراق عنه. و كان تفسير ميلر لهياجه الشبقي الخفي أنه كان قد بدأ يعيش حياةً مزدوجة و أنه كان يقوم بعمليات سرية بينما هو يعمل بملحمته عن C.I.A.، (شبح هارلوت)، و ذلك ما تعتبره نوريس عذراً خيالياً. و إذا ما أخذنا ذلك في الاعتبار، فإنه يعني أنه خلال نصف مدة زواجهما"كان مخادعاً كلّيةً بشكلٍ مذهل"، كما تقول في مذكراتها. و كانت تجد نفسها في مواجهةٍ مع حريم زوجها السابقات في الرحلات المفتوحة و الحفلات، و مرغمةً عل كبح نفسها عن الاصطدام بالفاجرات، خوفاً من تحول ذلك إلى يومٍ ميداني بالنسبة للصحافيين و المصورين الراكضين وراء أخبار المشاهير.
فما الذي يتوجب أن يفعله هذا بتراث ميلر الأدبي؟
إن عدم الاستماع إلى النساء عموماً أعاق عمل ميلر القصصي و عدم الاستماع إلى نوريس بوجهٍ خاص كان جناية أدبية، مثل رفض المرء السؤال عن الاتجاهات و يظل يسوق مئات الأميال داخل فوهة يأسٍ متزايد. فقد توسلت إليه أن يهمل التحويلات السردية الجانبية اللامتناهية في (شبح هارلوت) التي أخذت الرواية بعيداً عن مسارها، كما أنها كانت تضغط عليه كثيراً لإصلاح الأغلاط الشنيعة في السيناريو الذي كتبه لإحدى رواياته و يتضمن تعابير و كلمات شائنة. و جاء في كتاب (صباحات مع ميلر) لريموند أن نوريس لم تكن متحمسة جداً لمشهد سلسلة أوبرا هتلر و لتحويل الأرضية العليا لمنزلهما إلى شيءٍ ما يشبه"قنطرة دعاية نازية"و كان شعورها أن أي موضوع يطوف هنا و هناك في المنزل و يتّسم بالشر أمرٌ لا يمكن أن يكون صالحاً". فكم يا تُرى كانت تحذيراتها المسبقة تلك صائبةً، استناداً إلى التلف الشديد الذي انتهت إليه (القلعة في الغابة)، و يا ليته كان قد التفت إليها!
عن / VANITY FAIR