مهدي عيسى الصقر في الانتظار

مهدي عيسى الصقر في الانتظار

علي حاكم
عن دار المدى صدر للروائي العراقي الراحل مهدي عيسى الصقر روايتان: الأولى في العام 2004 بعنوان “إمرأة الغائب”، والثانية بعنوان “بيت على نهر دجلة” صدرت في هذا العام 2006. الروايةُ الثانية المنشورة حديثاً تُذيّل بتاريخ كتابتها 1991ـ 1992،

فالمؤلف، الذي ظل يعيش ببغداد ، ما كان أبداً ليفكر في نشرها (فكل سطر فيها كفيل بتغييبه كشخصيات روايته)، ويبدو أنه ظل منتظراً ساعةَ فرجٍ من نوع ما، وحلَّ هذا ، ولكنّه رحلَ قبل أن يرى روايتَه مطبوعةً.
تتناول الروايتان الحربَ العراقية الكبرى الأولى: الحرب التي خصّصنا لها وعدوُّنا الجار من عمر الزمن ثمان سنوات ، وجهّزنا لها كلّ ما تشتهيه: أرواحا ، أجسادا ، أموالا ، سلاحا ، ولك أنت أن تضيف على القائمة ما تشاء. غير أن للحرب تفصيلات، وجزئيات، ويوميات لا تنتهي، ويبدو أن الحروب لا تنتهي أبداً، ليس لأنها تتكرر كما هو حال العراق، بل الحرب الواحدة نفسها أعني. قد تتوقف حمم المدافع والطائرات، وتظل لفترة أخرى من الزمن تبترُ الألغامُ البشرَ وتقتلهم، وقد تظل الأطرافُ المتحاربة تدفع ما عليها من مستحقات الديون، والبطالة وما إلى ذلك مما تعرفونه. ولكن هناك تفصيلات في حالتنا العراقية غطت عليها تفصيلات وهكذا.
لحروبنا أشياءٌ جدّ صغيرة تنوسيت بالتقادم، وصارت كما كانت أشياءً محض شخصية، قد نسمع عنها ونأسف غير أننا نواصل السير، بخطو واثق وجميل ، نحو نهايات لا نخطئها أبداً، فتلك عثرات، زلات هينة صغيرة، صغيرة جداً، فماذا يعني أن يتأخر أسير بالعودة لأهله، أو أن لا يعود غائب، لحربنا (لحروبنا) أسرى لم يعد إلا القليل منهم من بعد سنوات، ومفقودون لا نعرف إلى الآن تحت أي سماء يستلقون. غير أن للغائب من ينتظره، وعن هذا كتب مهدي عيسى الصقر روايتيه. وفي كلا الروايتين تكون المرأة هي من ينتظر: الأم، الزوجة، الأخت.
في رواية "إمرأة الغائب" إمرأةٌ تنتظر زوجَها الذي لا يُعرف له مصير، وتشاركها الإنتظارَ أمُّ زوجها، وطفلُها الذي لا يستطيع أن يصدق أن غائباً يمكن أن يعود، ربما لأن لا ذاكرة تجمعه به. إنتهت الحرب، وبدأ بعض الأسرى يعود. وتستمر انتظاراتها ولكن في عالم غير برىء أبداً. فهناك من لا ينتظر الغائب، أو بتعبير أوفى هناك من لا يريد عودته، كي يفوز بتركته: زوجته. في هذه الرواية حكايتان، حكاية هذا الغائب، وحكاية غائب آخر، ولكنه مغيّب في داخل البلد نفسه. تنمو الحكاية الثانية وتتفرع من حكايات أم الغائب لحفيدها وهم يقضون لياليهم انتظارات. بعد ذلك تستقل هذه الحكاية الثانية بنفسها، فتبدأ تُحكى بأصواتها المستقلة. وهي حكاية شخص إختطفته "السعلوة"، التي تخصي الرجال في مكان غير معلوم لا يخرج منه إلاّ من كان ذا حظ عظيم! والروائي ينهي هذه الحكاية الثانية بعودة هذا الغائب في داخل الوطن كي ينقل لنا تفصيلات ذاك العالم الغريب الذي لا يُعرف عنه الكثير. عالم السجون، والإخصاء! أما الحكاية الرئيسة، حكاية الغائب في الحرب، فيُسْلمها الرواي إلى نهايات ثلاث، تاركاً لك حرية الإختيار حسب مزاجك، ورغبتك، ونيتك، وواقعيتك، وفهمك، وحسب رؤيتك أنت كيف تتمنى لأمور هذه الحياة أن تسير: فقد يعود الغائب من أسْره وتستقبله زوجته وطفله ويعودون فرحين، أو قد لا يعود فتلقي بنفسها في أحضان الشخص الذي كان ينتظر عدم عودة الغائب، أو قد تختلط في ذهنها الأمور فتهرع هي وكل النساء الأخريات اللواتي ينتظرن الغائبين ليلقين بأنفسهن على شخص مجهول: كل واحدة تقول إنه زوجي. وجميع هذه النهايات ليست بدائل سردية، إنما هي صور حقيقية لا تلغي إحداها الأخرى (كما لا يخفى).
في "إمرأة الغائب" تحيلنا الإنتظارات على واقع إنساني من لحم ودم (أفضل من دم ولحم)، لا على إنتظارات فكرية مجردة، الإنتظارات هنا إنتظارات جسد إمرأة حيّ يحنّ لطيف رجل عاشرته سنيناً حلوة، وأنجبت منه طفلاً هو كل ما تملك بعد غيابه. وانتظارات أمّ (أم الغائب) التي تعتصم بذكرياتها مع إبنها الفقيد، وأبيه، فتحولها حكايات تسرد. لا إنتظارات هنا على طراز إنتظار غودو؛ فالغائب المنتظر كان هنا يوماً ما، وسيق رغم أنفه للغياب. له حكايات، وسنوات، وأوجاع عاشها، ورغبات طمّن بعضاً منها، وله في ذاكرة من ينتظره إبتسامات، وضحكات يمكن أن تسترجع.
تتكرر هذه الثيمة في الرواية الثانية "بيت على نهر دجلة"، إمرأة تنتظر أخاها الأسير، ولكنه لا يعود فلقد مات في أسره، يعود بدلاً عنه أخوها الثاني الذي استلمت جثته في أيام الحرب، وله قبر كانت تزوره. لا شيء منطقياً في هذه الرواية، لأن، وليس رغم أن، كلّ شيء واقعي، فالحياة (الرواية) تجري في العراق حيث لا شيء يحكمه المنطق. يعود الأخ القتيل فلا يجد طفليه ولا زوجته؛ فهذه تزوجت من السيد النقيب المساعد المسؤول عن لفّ القتلى بالعلم الوطني، وتوزيعهم على ذويهم في مركز استلام وتوزيع القتلى. فالسيد المساعد كانت قد أعجبته إمرأة ترددت هي وأخت زوجها بحثاً عن فقيد، قيل لهما أنه قُتل، فيلفّق لهما جثةً لا ملامح لها ويقول لهما: إنه زوجك، إنه أخوك. الزوجة مستعدة للتصديق، فيفوز بها، وستلد منه طفلاً لن نسمع صوته، ولا نتبين ملامحه: إنه ابن "نغل" لزمان "نغل"، وتظل الأخت تنتظر: فهي لا تستطيع أن تصدق، إذ لا تشعر في دواخلها بفقده: "لماذا لا أشعر بذلك الوجع الداخلي؟لماذا؟" (182).
يعود الأخ بعد الحرب، وهي تسميه إبني وهو يسميها أمي، فهي التي ربته منذ الصغر. الأخ القتيل في ملفات الدولة يعود ولكنه من دون زمان، لا ذاكرة، لا وعي، لا جنون، لا يمكن توصيفه: إنه عراقي فقط. في ليلة عودته يرى شخصٌ مدى ارتباكها، وحيرتها في التفاهم مع أخيها كي توصله البيت، فيتدخل لمساعدتها، وهي تقبل بذلك: إمرأة وحيدة في هذا الوطن. يتعرف عليها الرجل وهو محامي جنوبي، يساعدها على ردّ الحياة لأخيها في ملفات الدولة، تقول الأخت: "ما كنت أتصور أن محاولة اثبات أن انساناً من الناس ما يزال على قيد الحياة يستلزم كل هذا الرواح والمجئ في حين أن موته تؤكده ورقة واحدة تكتب في دقائق" (66). بعد ذاك تتزوج من هذا المحامي، شريطة أن لا تمارس معه ما يمارسه الأزواج عادة إلا بعد شفاء أخيها، ولكن أخاها لا يشفى. هذا المحامي هو نفسه كان قد فقد عائلته كلها في مدينته الجنوبية إثر القصف الثمانيني. في هذه العائلة الجديدة كلّ ما تريد: الكل مرضى، الأخ (أو الإبن) الغائب مريض، الأخت (أو الأم) مريضة، أفزعها ثقل الحياة، وزوجها فقد عائلته السابقة كلها، والطبيب النفساني الذي يعالجهم هو أيضاً مريض.
لا يسير زمن الرواية الداخلي بشكل مستقيم، يتراجع مرة ويتقدم أخرى، ومرة يسكن يهبط إلى العمق مثل رأس دوامة منحدرة بإصرار، وعلى وفق هذا التراجع والتقدم، والسكون الهابط تترتب فصول الرواية. والتبعثر هنا ليس سمة أسلوبية، إنما هو أسلوب الحياة نفسها. فلا الماضي انتهى، ولا الحاضر حاضر، ولا المستقبل سيصبح له معنى في هذه الحال. إنه غياب مطلق. ويتلاشى انتظام الزمان والمكان في صوت سعيد (الأخ، الإبن، القتيل العائد من الأسر): والمؤلف يعمد بوعي إلى عدم وضع النقاط، والفواصل، والعلامات في كتابة هذا الصوت: فتتداخل تخيّلاتُه، وإدراكاتُه الحسية، وأوهامُه حدّ أن الرواية تفرض على القارئ التمهل في متابعة صوته، تنتقل الصور فيه من لحظات في الأسر حين كانوا يقفون في طوابير تنتظر أمام دورة المياه (كانوا يأكلون قليلاً، ويشربون الماء قليلاً كي لا يتعرضوا إلى الإهانة في طوابير دورة المياه، وستظل هذه العادة تصاحبه حتى بعد عودته)، إلى تقمص "وعي جثة" مستلقية في الأرض الحرام بعد أن عرف أنهم كانوا يعتبرونه ميْتاً، (وهذه صورة جديدة تماماً على الأدب العراقي حسب علمي)، إلى السجن الذي دخله بعد عودته. ويبدأ يشخصن الأشياء: فالفراغُ الصامت الذي تبقيه أختُه فاصلاً بينها وبين زوجها على سريرالليل يراه هو في تلصصه عليهما من خلال ثقب المفتاح شخصاً يتمدد بينهما، وبابُ غرفتهما شخصاً آخر يراقبهما، ويسمع خشب سريرهما يتحدث إليه (ص30).
تأخذه أخته لمراجعة طبيب نفساني، ولكنّ هذا يفضّل بعد جلسة واحدة معه أن يعاين الأخت نفسها، فهي أيضاً مريضة وتحتاج إلى علاج، وبعد ذاك يعالج الزوجَ الجنوبي المريض، فهو أيضاً له حصة من قصص هذا الوطن. أما الطبيب النفساني هو ذاته فلا أحد يعالجه، فمن يعالج طبيباً: يحرق كل أشرطة التسجيل التي سجل عليها كلام مرضاه، بعد أن يبول عليها :"حكاياهم أسقمتني، وفي النهاية ضيعتني"، "في البداية أبول على أحزانهم، وبعد ذلك أشعل فيها النيران" (191).
إذا كان كل عرض لرواية مبتلىً بوأد جماليتها، فلا أظن أن هناك عرضاً يفعل هذا أكثر من سطوري الشاحبة هذه. فمتابعة صوت سعيد لا يقل جمالية عن صوت بنجامين. ولكن هل يمكن الحديث عن جمالية في مآس كهذه! في هذه الرواية يسترجع مهدي عيسى الصقر عالم "الصخب والعنف". فالفترة التي كتبت فيها روايته (1991-1992) ستكون حاضرة في عالم الرواية/العراق المشحون بالخوف، والفزع، وبالصبيان المدججين بالحقد والبطش الذين يداهمون البيوت بحثاً عن سلاح، وبليل حالك تخربش سوادَه طلقاتٌ، ونباحُ كلاب. هذه المرأة الأخت التي أمضت السنين تربي أخويها، وفقدتهما معاً: أحدهما مات أسيراً، وعاد لها الثاني ولكنه سيظل غائباً حتى في حضوره، هذه المرأة هي نفسها التي سيقول لها أحد الصبيان، في أثناء تفتيش البيوت بحثاً عن سلاح "أنت قحبة، ويبصق في وجهها"، وهي نفسها التي شاهدت كيف أن السيد النقيب المساعد زوّر جثة أخيها كي يفوز بزوجته، وهي نفسها (مكررة في الرواية الأولى: "إمرأة الغائب") يقف في طريقها الآخرون يريدون نهشها.
في كتابه "وجع الكتابة: يوميات ومذكرات" (الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة، 2001)، يأتي مهدي عيسى الصقر على ذكر هذه الرواية: كيفية كتابتها، تفصيلات أيامه التي كتبها فيها، ويلقي ضوءً تحليلياً على بعض شخصياتها. يؤرخ ملاحظاته ويومياته هذه بين "أيار 1991ـ مطلع حزيران 1992، ولكنه بكل تأكيد لم يتحدث عن المضمون الحقيقي للرواية، إنما ينوه ببعض التفصيلات التي سنجدها في الرواية فعلاً. لكن ما يفيدنا في هذا السياق تفسيره هو لتصرفات "سعيد" (العائد من الأسر) وهو يتلصص على أخته وزوجها وهما في فراشهما: " يغار الشاب الممسوس على أخته الكبيرة، التي قامت بتربيته، غير شاذة، كأنه زوجها، لا أخوها. لهذا السبب يشعر بالكراهية نحو زوج أخته. وفي الليل يقف وراء باب غرفة نومها، يتلصص على ما يفعلان، هي وزوجها، على السرير، ولا ينصرف إلى النوم، حتى يطمئن إلى أن لاشيء يحدث بينهما، وإنهما ناما أخيراً. وإثناء قراءتي لكتاب العالم النفساني سي. جي. يونغ : The Practice of Psychotherapy من أجل الاستعداد لكتابة الفصل ما قبل الأخير من الرواية قرأت ما ترجمته هذه الكلمات: "بسبب تردده، في مواجهة العالم، فإن الاعتماد، الطبيعي، في الأساس، للشاب العصابي، على والديه يتحول إلى علاقة سفاح بالقريى، منافية لناموس الحياة" (هنا ينتهي كلام يونغ). إن سلوك الشاب الممسوس مع أخته ـ في الرواية ـ لم يصل إلى حدّ الممارسة الفعلية، غير أن البواعث لديه لا تبتعد كثيراً عن هذا المجال (ص 99).
ولكننا هنا في الرواية قد لا نصادف الحالة نفسها تماماً التي يصفها يونغ في السطور السابقة التي اقتبسها مهدي الصقر ليعزز بناء هذه الشخصية. فسعيد كان قبل أسره متزوجاً، ولديه طفلان، صحيح أن أخته نهضت بأعباء تربيته هو وأخوه (الذي مات في الأسر) بعد وفاة الوالدين، لكن تكوين عائلة مستقلة يعني أنه لا يحمل مشاعر ما يسميه يونغ بالعصاب إلاّ إذا جعلنا من فترة الأسر، واعتماده على أخته بعد عودته في رعايته مجدداً نكوصاً إلى حالة الطفولة. ولكن حتى هذا لا ينسجم مع التكوين النفسي للشخصية، فالأسْرُ كان يُفترض أن يكثف في دواخله من شدة ارتباطه بزوجته وليس بأخته، شيء واحد فقط قد يسوغ بناء شخصية سعيد بهذا الشكل هو فقدانه لزوجته بالشكل الذي تم في غيابه، فأحدث في نفسه نوعاً من الارتكاس إلى فترة طفولته الأولى. ربما!
في كلا الروايتين سنجد صوراً جديدة تنضاف إلى رصيد صور الحرب، والمعاناة الإنسانية التي يكابدها البشر، سواء أولئك الذين اشتركوا فيها فعلاً، أم من كان بعيداً ينتظر. في الرواية الأولى "إمرأة الغائب" يضعنا مهدي عيسى الصقر في صورة مشهد عاشه أغلب العراقيين: تلك الليالي التي يمضيها الناس، مقتعدين الأرصفة والشوارع في "انتظار" الباصات التي تقل الأسرى إلى مدنهم. وهذا مشهد عاشته المدن والبلدات العراقية كافة. حياة أخرى تتشكل لساعات ثم تنفض. البائعون، وفرق الموسيقى، وتجمعات للنساء، وحلقات يعقدها الرجال: عيون تتطلع إلى أفق ما. فجأة يركض الجمع، يحيطون بالباصات: ليجد كل واحد ما قدّره له الوطن. وتعود الزوجة كالعادة خائبة، فالغائب لا يعود. وتظل أيامها ولياليها تجري على حسب هذا الإيقاع: إنتظارات وخيبات. ولكن من بين هذا الجمع الغفير هناك من يقف لا يريد للغائب أن يعود، عسى أن تملّ الزوجة انتظاراتها وتيأس.
وفي الرواية الثانية "بيت على نهر دجلة" مشاهد وصور مفزعة. صور الجثث، وهي توضع في توابيتها، وجثث أخرى مجهولة الهوية مركونة يأكل الدود حدقات العيون المنطفئة. تُقلّب، تزاح جانباً، وتُهمل. وصورة الضابط المسؤول الذي لا يرى في هذه الجثث غير رائحة كريهة، يتفاداها بالعطور، ويتأمل إقتناص امراة تبحث عن جثة زوجها.
تمرّ الحوادث في الحياة اليومية، بما في ذلك حالة الحرب مثلاً، دون أن نلمّ في أحايين كثيرة بتفصيلاتها الأخلاقية والإنسانية: فالمشهد واسع ورهيب، وأيامنا حبلى دائماً بالجديد الذي لايفعل غير تكرار ما مضى بصورة أبشع. فتُشلُّ الذاكرةُ بالراهن الدامي. لذلك تصبح القراءة في هذه الحالة نوعاً من مزج ما مضى بما هو قائم، ليغدو ذلك كله تاريخاً. ويأتي الأدب، هاتان الروايتان في هذه الحالة، لتضع هذه التفصيلات تذكرة وإدانة. تثبّت المشهد، وفعل التثبيت وحده هو إدانة.
لنستمع في نهاية هذه السطور إلى صوت سعيد (الحاضر الغائب)، لنر كيف أن جمالية الأدب الأصيل تعمّق المأساة:
"الأعداء .. رأيتهم يتجمعون حول جثتي يقلبونها على ظهرها هي كانت منكفئة على وجهها في الصحراء بين أشواك العاقول ساقاها منفرجتان والشمس تنظر اليها والذباب الجوعان يطن ويطن من حولها وكانت خوذتي المعدنية التي سقطت عن رأسي ترقد وحدها على التراب وتسخن في الشمس بين الأشواك اليابسة بالقرب من وجه جثتي وفي فمي طعم تراب حار ومالح وفي أنفي رائحة أشواك محروقة تتصاعد موجات في الهواء الملتهب والمدافع تثرثر من بعيد دو دو دو ترد عليها مدافع في مكان أبعد دم دم دم! والصحراء تختض وتحت بطني تراب منقوع وفي بطني نيران تركض لهبة وراء لهبة الا أنني ساعتها ما كنت موجوداً داخل جثتي كنت في بغداد أسبح في نهر دجلة صبياً بين الصبيان أسبح وأفكر بجثة سعيد الذي صار شاباً بسرعة وهي متروكة هناك في الصحراء تختض مع الجثث الأخرى المستسلمة للنوم أراقبها وأنا أطفو بجسدي الصغير العاري فوق ماء دجلة تحت الجسر الحديدي والظلال تذوب في الماء وأنا أترك جسدي يتنقل بين الماء الظليل والماء المشمس وجثتي وحدها هناك تنزف في صمت بين أزيز الحشرات وطنين الذباب اللجوج والقبرات تطير حولي وتدنو وتبتعد... تريد أن تلعب معي وأنا لا أستطيع أن أحرك يدي وفي بطني نيران تشتعل ... وجثتي تريد أن تهرب وأتعلق بالسماء حيث أرى طيوراً كبيرة سوداء تحوم وتنتظر أما روحي فلاتريد أن تحلق تظل مثل قبرة تتقافز على الأرض لا تريد أن تفارقني" (91 ـ 92)