عباس بيضون:العراق امتحان لإنسانيتنا

عباس بيضون:العراق امتحان لإنسانيتنا

أحمد عبد الحسين
ما ان قررت السفر إلى بيروت حتى أخذت أرتّب في ذهني، قبل ترتيب حقيبتي، أسئلة لعباس بيضون، قرار لقائي معه بدا أمراً بدهيّاً، أمر يُتخذ دون تمحيص، لأنه من التلقائية بحيث لم أحتج معه إلى إعمال نظر، ذهابي إلى بيروت يعني ذهابي إلى عباس بيضون، فهو بمعنى ما وجه لبنان العراقيّ

عراقيته تسبق لدينا لبنانيته، لأنه من القلّة التي كانت معنا، ولأنه شاعر ترك أثراً على شعرنا، ولأن كثيراً من آرائه الشعرية أو السياسية كانت على الدوام مادة لجدل عبر الحدود واستقرّ في بغداد. ذهبتُ إلى مقرّ عمله في جريدة السفير، وهناك اتفقنا على اللقاء في اليوم التالي، لإجراء حوار كنت أعرف أنه سيكون عميقاً وممتعاً، لكنْ لم يدر بخلدي انه سيستغرق أكثـر من خمس ساعات، ليكون سياحة في شؤون الفكر والشعر والسياسة. * آخر عمل لك هو الباءات الثلاثة لكني سأبدأ معك من البائين، البائين اللذين يتضمنهما أسمك، عباس بيضون، واسمح لي باعتباري من العراق ان أفهمهما كالتالي الباء الأولى بغداد والثانية بيروت. علاقتك خاصة بالعراق ويوم أمس أشرت في حديثي معك إلى انك كنت متوازنا ً حين تتحدث عن العراق، مع ان المشكلة العراقية بها من الالتباس والاضطراب بحيث تجعل حتى العراقي غير متوازن وهو يتحدث عن الأزمة العراقية، اسئلك أولاً عن هذه العلاقة، وكيف حققت هذا التوازن؟
عباس بيضون: قد لايعني شيئاً ان في دمي جزءاً عراقياً، فجدتي عراقية ووالدتي كانت الى حد بعيد عراقية، كانت عراقية بلهجتها لأنها غادرت العراق صبية، وبقي من العراق في لهجتها الشيء الكثير ثم انها كانت تحمل من العراق أثراً في "خشمها" أنفها عراقيّ، ولأن أخوال أمي كانوا عراقيين ولأن جدي كان رجل دين تلقى علمه في العراق فقد وعيت منذ طفولتي على عراقيين باستمرار في دارنا وفي دار جدي كان اقرباؤنا يأتون من النجف كل صيف ونحظى بزيارتهم، اللهجة العراقية كانت مألوفة بالنسبة لي، الوجوه العراقية كانت أيضاً ًمألوفة، لم أزر العراق في حياتي لكنني سمعت باستمرار أسماء عراقية وعائلات عراقية، وفي طبيعة الحال كنت من الذين بكروا الى معرفة الشعر العراقي ولا أتكلم هنا عن السياب ولا أتكلم حتى عن الجواهري بل اتكلم ايضا ًعن الشبيبيّ وعن بحر العلوم وعن علي الشرقي، عن شعراء عاصروا أو سبقوا الجواهري وعندما اتكلم عن الشبيبيّ والشرقي والجواهري وبحر العلوم فأنا لااتكلم عن صلة خاصة، في الواقع كانوا هؤلاء جزءً من بحرنا الشعري ومن فضائنا الشعري، ثم ان العراق كان دائماً في ذاكرتنا التاريخية حاضراً كبيراً وكانت اسماء بغداد والكوفة والبصرة وكربلاء معالم حقيقية في ذاكرتنا التاريخية وفي ثقافتنا، وربما في وجداننا ايضاً، مع ذلك لايمكنني عن أتحدث عن صلة خاصة، فصلتي بالعراق لم انشأها أنا، كانت صلة عامة، العراق كان بالنسبة لشاب حين كنت شاباً جزء من فضائي التاريخي وفضائي السياسي، لا أتكلم فقط عن عراق ما بعد ثورة 14 تموز، بل عن العراق الملكي، عن عراق الانقلابات العسكرية في العهد الملكي، كان العراق، شئنا أم أبينا، واحداً من الحواضر الكبرى وخاصة في تلك الايام، واحداً من الحواضر الكبرى من أربع حواضر تقريبا ً تشـكل على نحو ما عالمنا.
* بغداد وبيروت ودمشق والقاهرة؟
عباس بيضون: نعم، تستطيع ان تتكلم عن القاهرة وعن سوريا عن العراق ولبنان، هناك اربع حواضر شكلت عالمنا السياسي والثقافي ذلك الحين وعندما اتكلم عن السياسي والثقافي أشدد على الاثنين، فالعراق في الشعر كان منبعاً للتجديد الشعري، وكان بطبيعة الحال حاضرة أساسية من حواضر القصيدة الحديثة، ثم ان العراق السياسي في تلك الآونة التي بدأ العقل السياسي يصبح عربيا ومحيطياً، أتكلم عن حقبة مابعد سقوط فلسطين وما بعد الناصرية، حقبة ثورة تموز العراقية وحقبة وحدة مصر وسورية، هذه الحقبة بدأ العقل السياسي يصبح عربيا واصبح هذا العقل يفكر على مدى الرقعة العربية، وأيضاً كانت هذه الحواضر الأربع هي الأساس في مخيلتنا السياسية، كان انقلاب تموز العام 1958 على الملكية، حدثاً عربياً واذكر انني كنت في الثالثة عشرة من عمري لكن هذا الحدث هزنا، كنت يومذاك على ما اذكر في قرية أمي في الجنوب قرية (جبع) وهي معروفة من العراقيين لانها قرية ضمت دائما ًعائلات علمية وهي التي ضمت آل الحر الذين هم اجدادي لأمي وانت تذكر الحر العاملي وكانت هذه البلدة أكبر من اسمها وأكبر من حجمها نظراً لتاريخها وتراثها العلمي، وبطبيعة الحال كانت صلتها بالعراق أقوى وهي صلة المصطافين العراقيين والعائلات العراقية والقرابات العراقية والمصاهرات والمشايخ العراقيين، أذكر ان انقلاب 14 تموز كان حدثاً هائلاًً وكأنما حصل الانفلاب في جبع نفسها او في لبنان واذكر يومذاك ان الناس هرعوا الى (مايكرفون) المسجد وكان المايكروفون الوحيد في البلدة ليعبروا من هذا المايكروفون عن فرحتهم وانفعالهم بانقلاب 14 تموز وكان أبي أحدهم واحسب انني كنت ايضاً أحدهم ورغم صغر سني، كنت فصيحاً وأذكر انني كنت احدهم وصعدت المنبر وقلت ماقلت، اذن انقلاب تموز كان فاتحة اهتمام متصل ومتتابع في العراق، بالنسبة لي ولآخرين أيضاً، وربما كان للبيئة الطائفية أيضاً دخل بهذا، كان العراق قريباً جداً وكانت أحداث العراق تشتبك بأحداث لبنان وأحداث سوريا، كانت هناك رقعة سياسية عربية يومذاك وكان هناك مخيال سياسي عربي وكان هناك مد ناصري ومابعد الناصري وكان الصراع أيضاً يتخذ طابعاً عربياً، فالصراع بين عبد الناصر والشيوعيين مثلاً شغل العالم العربي يومذاك، ولم يبدُ صراعاً جزئياً ولا جانبياً.
*القضية الفلسطينية كانت في أوجها بالتاكيد؟
عباس بيضون: طبعاً كانت القضية الفلسطينية في مركز هذه الرقعة السياسية العربية وهذا المخيال السياسي العربي، هذا المخيال الذي تراجع فيما بعد وبدا العالم العربي أكثر تجزئة وأكثر بعثرة مما كانه يومذاك، يومذاك كان هناك حلم عربي، واظن انني من هذا الجيل الذي اعتاد على ان يتتبع مايجري وخاصة في الحواضر القريبة مايجري في القاهرة والعراق وسوريا وفلسطين كما يتابع مايجري في لبنان ويجد نفسه منحازاً وليس فقط منفعلاً ويجد ان له موقفاً ويجد ان الجدل حول العراق او سوريا هو جزء من جدله السياسي الحميم وبالتالي لا اريد ان اتابع، وانما أقول باختصار ان العصر الصداميّ حوّل العراق بالنسبة لنا الى كابوس، أنا مثلا ً لم أكن لأجرؤ على أن ازور العراق لأسباب من بينها ان صدام من مكانه البعيد ببغداد كان يثير رعباً لدينا وكان وجوده على الرغم من البعد وجوداً ثقيلاً ورازحاً، وبالتالي كان فرار المثقفين العراقيين يومذاك وخاصة ان بعضاً منهم حلوا في لبنان ويمكن ان نقول ان البعض الأكبر حل في لبنان، فرصة لاتصالنا بالعراق عن طريقهم، ولا أعرف ماالذي جعل العراقيين الذين حلوا في لبنان يعتبرونني على نحو خاص صديقاً ، صديقاً ًلهم كأشخاص وصديقاً للعراق كثقافة وكبلد.
* هذا الشعور ليس فقط لدى المثقفين الذين مروا بلبنان بل هو أيضاً شعور المثقفين الذين لم يأتوا الى لبنان، أنت في كل هذا الكلام تحدثت عن علاقة عامة لك بالعراق، علاقة يمكن أن تكون لأي مثقف لبنانيّ بالعراق، ولكنني أشدد على ان لك علاقة خاصة، يعني من يقرأ مثلاً مقالك (ويلي على بغداد).
عباس بيضون: اوه، هذا قديم جداً.
* قديم جداً، ولكنني محتفظ به حتى الان، ومن يقرأ أيضاً العمود الذي تحدثت به عن أغنية عراقية (ضاع من ادية ولد وخايف على الثاني) يرى فيه عمق المأساة العراقية بعينيك أنت، وكأنما كنا بحاجة لشخص من خارج هذه الرقعة التي نحن بها ليظهر مدى عمق هذا الجرح، وأنا أشدد انك في عدم زيارتك لبغداد كما في مقالاتك الكثيرة في الشأن السياسي والثقافي، كنت في علاقة خاصة مع العراق.
عباس بيضون: أنا لا أعطي لنفسي هذا الامتياز، الانفعال لما يجري في العراق هو ايضاً وجداني، بمعنى ان هناك بين مثقف مثلي وبين العراق أكثر من رابطة، هناك رابطة اللغة، بمعنى كان للعراق دائما لغته الخاصة، عندما افكر بالشعر العراقي افكر به على هذا النحو، ان الشعراء العراقيين الجدد بخاصة منذ السياب الى يومنا هذا قدموا لنا العراق، لانعرف شعراً جديداًٍ اتصل بترابه كما هو الشعر العراقي، عندما اقرأ السياب مثلاً وأقرأ غيره وسأتكلم عن السياب بوجه خاص، أشعر بأن السياب على نحو ما يتمثل الطبيعة العراقية وان المشهد العراقي حاضر في هذا الشعر، مع ان القصيدة الجديدة العربية، إلا في العراق بدتْ وكأنها تتنصل من علاقتها الترابية هذه، لا نجد تراباً ولا رملاً ولا مطراً تقريباً إلا في الشعر العراقي، وبالتالي كان الشعر العراقي ينقل الينا شيئاً من التراب العراقي ومن الصحراء العراقية وبالتالي أشعر أحياناً بأن العراق ممكن ان يكون بالنسبة لأي عربي موطناً ثانياً، هذا المكان لا أظن ان بلداً آخر يتمتع بهذه الميزة، قد نستثني فلسطين، لكن فلسطين الوطن الغائب، هي الوطن الذي لا يحتاج الى وجود، هي، اذا جاز التعبير، وطن حاضر في غيابه وبالتالي نتساوى جميعا ً في امتلاكه، العراق ليس غائباً، العراق ليس الحضارة العباسية وليس المتنبي وابا نؤاس، شخصياً لا أقيم صلتي بالاماكن فقط على هذه القاعدة، الماضي هو الماضي ولا بد لنا من الحاضر لنقيم صلة مع مكان ومع شخص، أظن ان العراق ولا أعرف لماذا، كان موجوداً في حاضرنا وموجوداً على نحو مأساوي، بالنسبة لي فالعراق مأساة، ولا أفكر بالعراق الا على انه مأساة، عندما كنا في العصر الملكي كان عمري لايتجاوز الثانية عشرة، كان العراق بالنسبة لي حتى يومذاك مأساة، لا اعرف لماذا نتجه نحن الى ان نتعامل مع العراق على هذا النحو الماساوي، كأن العراق حاجتنا الشخصية لمأساة ما، كأن العراق مأساتنا الخاصة، كنا في ذلك الحين نشعر بان العراق مكان فظيع، ثم انني لم اسمع في بلد عربي من الفواجع والخسائر التي طالت أناساً كما حدث للعراقيين، كلما التقيت بعراقي انتظر ان يكون مثلاً فقد عشرين وثلاثين من عائلته او ان يكون نصف العائلة تحت التراب، ثم ان العراق كان بالنسبة لي مكاناً ملغزاً لأننا لايمكن ان نتخيل ان ثمة حجماً من الرعب وحجماً من المأساة والصبر على الرعب وعلى المأساة وحجماً من ابتلاع واحتواء الرعب والمأساة كما يمكن ان يكون الأمر في العراق، هناك بلدان بالنسبة لنا تبدو وكأنها جحيم، عندما نتكلم عن العراق نتكلم مثلاً عن تشيلي في فترة من الفترات وعن الأرجنتين. بالنسبة لي كلما تحدثت عن العراق بدا العراق وكأنه جزء من اللاوعي، هذا اللاوعي الخائف والمرتعب، جزء من لاوعيي الخاص، بدا العراق بهذا المعنى يحتل جانباً من داخلي هو جانب من هذا اللاوعي الجحيمي المسكون بالخوف والهواجس، عندما ذهبت الى أربيل ولأول مرة أكون في أرض عراقية ولكنها ليست بغداد والبصرة، ليست المدن التاريخية، المدن التي تؤثث ذاكرتي وثقافتي، في أربيل أسمع بان خزعل الماجدي فقد أبنه، ولا املك الا أن أبكي، انا أعرف خزعل الماجدي، أعرفه شاعرا ًطلقاً وسيماً ملحمياً وفجأة اعلم انه فقد ابنه، في هذه اللحظة شعرت باني فقدت ابني ورحت أبكي، بكيت لخزعل. الخلاصة ان العراق أعطانا هذا البعد المأساوي، هناك في لبنان مأساة، أعرف كثيراً فقدوا أعزاء، وانا من الذين فقدوا أصدقاء حقيقيين، لم افقد ابناً فانا لم أكن متزوجاً، فقدت اصدقاء حقيقيين، فقدت بعض أقرب اصدقائي ومع ذلك بقيت الماساة العراقية تحتل في لاوعيي هذا المكان الجحيمي الذي لم تحتله حتى المأساة اللبنانية، والان عندما اتابع ما يجري في العراق وأعد أرقاماً وهمية، كم عراقياً فقد في هذه الأحداث الأخيرة بعد كل الذي جرى ايام صدام، هناك مليون عراقي، لا نعرف العدد ولكن هناك دائماً عدد أسطوري، والعراق وحده هو المكان الذي تتكون فيه هذه الأسطورة او هذه الأساطير المأساوية، هو المكان الذي تحوله الماساة الى نوع من الأسطورة، العراق بهذا المعنى اسطورتنا التراجيدية، وبالتالي فوقوفنا الى جانب العراق يبدو استثنائياً. الى ذلك اننا عندما نقف الى جانب العراق، نقف في الواقع الى جانب انفسنا ونسعى من وراء ذلك ان نقدم شهادة عن عدالتنا، هنالك أماكن لا نستطيع أن نمر بها مرور الكرام، هناك قضايا لا نستطيع إلا ان نقف منها موقفاً، وذلك الموقف بالدرجة الأولى هو امتحان لنزاهتنا الخاصة و(لإنسانيتنا)، اظن ان الأمر كان دائما ً كذلك عندما تتعلق بالعراق، بالنسبة لي كان واضحاً وبدون لبس ان علينا ان نتخلص من صدام، قبيل الاحتلال قلت هذا بوضوح، ليذهب صدام وبعد ذلك فلنفكر باي شيء آخر، لكننا لا نستطيع ولدينا فرصة للتخلص من صدام ان نتفاداها ولأي سبب كان.
* أحببت أن أنتقل من ماضي العراق المأساوي الى حاضره الذي ربما لا يقلّ مأساوية، كيف استقبلت التغيير في العراق؟
عباس بيضون: بالنسبة لي كتبت ذلك بوضوح، في فترة من الفترات تابعت العراق كأي عراقي وكتبت أسبوعياً مقالاً عراقياً وأصدرت عدداً لا بأس به من الملاحق والملفات حول العراق ولم أكن الوحيد في ذلك، اهتمت الصحافة اللبنانية اجمالا ً بالحدث العراقي وخصصت له ملفات متلاحقة، بالتالي علقت اذا جاز التعبير على كل مستجدات الوضع العراقي، كان واضحاً بالنسبة لي عندما كانت الدعوة التي استقطبت عدداً كبيراً من رفقائي واصدقائي ومن أبناء بيئتي السياسية، انه لا هنا ولا هناك، لا مع صدام ولا مع الاحتلال، بالنسبة لي، لم تكن هذه قضيتي، لم أكن أنا الذي جرّ الاحتلال ولم يستشرني أحد، كانت هذه مسألة خارج اختياري، انما لم يكن في مقدوري الا أن أنتظر بفارغ صبر نهاية صدام، وأحد المقالات التي كتبتها كان عنوانها واضحا ً (دعوه يسقط)؟
* دعوه يسقط لوحده؟
عباس بيضون: نعم، دعوه يسقط لوحده. بالنسبة لي كان هناك من يطالب الدفاع عن صدام ضد الاحتلال وكنت أجد هذا الرأي مغلوطاً، لكنه كان عملياً، كان هناك اناس يقولون اننا بين صدام وبين الاحتلال، نختار صدام، هناك من اختار صدام، انا لم اختر الاحتلال ولكنني اخترت سقوط صدام ولم اكن مسؤولاً بالطبع، عن الطريقة التي سقط بها صدام، كنت أتمنى لو سقط صدام بايدي العراقيين، هذا صحيح، لكن سقط صدام وكانت هذه فرصة، لايمكن ان أقف ضدها، هذا ببساطة، بعد ذلك أظن ان الوضع العراقي بدا بالنسبة لي ولايزال، مختبراً واضحاً للتردي العربي، فسوء الفهم المقصود للوضع العراقي، انا لا اعتبر ان سوء الفهم هذا عفوياً ولا أعتبره مجرد غشاوة ايديولوجية، اعتبره مقصوداً وأعتبره واعياً، لأن سوء الفهم المقصود للوضع العراقي، يدل على ان منطق التحرير كان باستمرار هو منطق الديكتاتورية، وان منطق (التحرير) كان باستمرار منطق الحرب الأهلية، الان نلقي اللوم على الاميركيين وليس هذا خاطئاً ولامغلوطاً، الحرب الاهلية في العراق لابد ان للاميركيين يداً فيها، بتعاليهم وغطرستهم وجهلهم المطبق للمنطقة وادعائهم الوصاية والوكالة عن العراقيين، العقل الاميركي لا يحمل لما هو خارج عنه الا سذاجة ايديولوجية وعماوة ايديولوجية وتصديق ساذج بان الاميركيين هم رسل الحرية والديمقراطية للعالم، لانستطيع ان نبرئ الاميركيين بدون شك، ولكن لا نستطيع ان نتهم الاميركيين بالحرب الأهلية، الحرب الاهلية هي جزء اساسي في منطق تحرير العربي، هناك حيث توجد حركة تحرير يوجد مشروع حرب أهلية، هذا الأمر موجود في فلسطين وفي لبنان وأيضا ً في العراق، عندما نتكلم عن مقاومة وبغض النظر عن أي محمول ايديولوجي أو أي بيئة يمكن ان تتلون بها أو أي سلوك انتحاري او انحاري يمكن ان تلبس، هذه المقاومة هي بدون شك، غير معنية بمقارعة الاستبداد وغير معنية بمعالجة الانقسام الاهلي وهي لاتملك، لا هنا ولا هناك، لا مشروع حرية ولا مشروع وحدة، كنت افكر في هذا، خاصة الان، عندما بدا ان العراق رغم كارثته الهائلة وقدرته الهائلة على انتاج الكارثة، لان الكوارث العراقية دائما ً تتم باحجام اسطورية والماساة العراقية دائما بحجم اسطوري، رغم هذا الرعب الجديد الذي زرعه الوضع العراقي فينا، بعد رعب صدام، هناك رعب التداعي والاقتتال الأهلي والرعب الأهلي ورغم كل ذلك، بدا بما يشبه المعجزة، ان العراق يخرج من مأساته، وبدا هذا الخروج بدون تباشير، وبدأنا نعلم من الصحف الاجنبية ان وتيرة العنف بدأت تخف، ثم علمنا انها وصلت الى نسب ضئيلة، ثم علمنا ان مدينة الصدر او الثورة باتت هادئة وتحت الدولة ثم علمنا ان الدولة وجدت على نحو ما، وان صداماً جرى ضد طرف ثم ضد الطرف النقيض طائفياً ثم علمنا بفرح بالغ بخسارة ميليشيات في انتخابات بلدية، كل هذا يعني بان ضوءاً ما في نهاية النفق، وان هناك سبيلاً ما الى الخروج، بدا بكلمة واحدة، ان العراق الذي غرق على نحو مخيف في الكارثة، استطاع ان يتجاوز الحرب الأهلية، دعك من الظروف ولكن بالتحديد تجاوز الحرب الاهلية في الوضع العربي هو معجزة، نحن لا نعرف كيف يمكن ان نخرج من الحرب الاهلية، لايعرف الفلسطينيون ولا اللبنانيون ذلك، بل بالعكس لا شيء سوى مطحنة الحرب الأهلية سوى الوتيرة اليومية للحرب الاهلية، سوى الحرب الاهلية بالالفاظ واحيانا باكثر من الالفاظ ،سوى الانقسام الاهلي بتمويهات ايديولوجية كبيرة او صغيرة، لكن يبدو ان الحرب الأهلية هي مأزق الحاضر العربي وهي مأزق الركود العربي ومأزق الانسداد العربي، مأزق لانعرف كيف نخرج منه.
* ربما لأننا لانمتلك ثقافة الحوار؟
عباس بيضون: شيء أكثر من ذلك، هو جزء من الانسداد التاريخي العربي، عندما نصف التاريخ العربي الراهن، نصفه بالانسداد، هناك مأزق لا مخرج منه، هناك ركود واستنقاع متفاقمان، هناك درجة من التهرؤ المتزايد بالمعنى الكمي والمعنى الكيفي وعندما يستطيع بلد ما ان يعطينا اشارات أولى بانه حقق أمرين عجيبين، الأمر الأول هو الخروج من الحرب الأهلية أو على الأقل بداية ردم الحرب الأهلية ثم بداية انشاء الدولة، هاتان معجزتان حقيقيتان لانعرف كيف نصل اليهما لأننا لانعرف أصلاً سر هذا الركود، سر هذا الاهتراء، لانستطيع ان نفسره لا ثقافياً ولا تاريخياً، لا نعرف كيف وصلنا الى هذا الدرك وصرنا فجأة في حالة من الاستنقاع وفي حالة من الخروج المتزايد والمتفاقم من العصر ومن العالم وفي نوع من اليأس المطبق.
* أليس هذا اتهاماً ًللثقافة والمثقف، انه لا يعرف الآلية التي تتحرك بها الكارثة ولايعرف لماذا هذا الانسداد واننا نفتقد القدرة على فضّ هذا النزاع مثلاً او لا نملك القدرة على خرق هذا الانسداد، اذا كان المثقف لايعرف فهل نعوّل على السياسي؟
عباس بيضون: انا لا استطيع ان اعول على المثقفين في أمر كهذا وهذا لايعني انني اعول على السياسيين، لكن دائماً هناك ناحية لدى المثقفين نستطيع ان ندعوها سذاجة، المثقفون هم اول المخدوعين، المثقفون هم المروجون الايديولوجيون، هم الدعاة. المثقف داعية.
* كان يقال، انه بائع أوهام، فهو مخادع؟
عباس بيضون: يمكننا ان نتكلم عن افيون المثقفين في كل مكان وفي كل حين، هناك افيون للمثقفين في كل مرحلة، هناك مثقفون يعيشون بدرجة ما على هذا الافيون وبالتالي، المثقفون هم بناة أوهام بدرجة ما، هذا لايعني اننا نشمل الثقافة كلها، هناك ايضاً ثقافة تذهب الى الجهة النقيض، يعني ثقافة تتجه الى نزع الأوهام ربما لزرع أوهام مضادة لكن هناك ثقافة تسعى لنزع الأوهام وهناك ثقافة تسعة للخروج من الشبكة الايديولوجية واعادة امتحان الواقع واعادة سؤال الواقع بالتأكيد ولكن حتى هذه الثقافة، منيت واظن انها لاتزال تمنى بنوع من الحيرة المخيفة بنوع من الارتباك المخيف، هناك كتاب لمثقف شهيد هو سمير قصير، هذا الكتاب الذي قرأته منذ سنوات بالواقع اني قرأته بعد استشهاد سمير قصير الذي كان صديقاً وشاباً وانا لاأحب استخدام كلمة استشهاد كثيرا لكن في حالة سمير قصير، الكلمة تعنيني خاصةً، سمير قصير شهيدي شخصياً كمثقف، سمير كتب نوعاً من تأملات الشقاء العربي ونستطيع ان نستنتج من هذا الكتاب ان كل ماهو ايجابي وكل ماهو دافع وكل ماهو واحد وكل ماهو مقوم من مقومات البناء والتقدم يتحول في العالم العربي الى عنصر سلبي والى عنصر ركود والى عنصر اهتراء، المال، الموقع السياسي، البترول، وحدة الثقافة، وحدة اللغة، التاريخ المشترك، كل هذه العناصر التي هي عناصر ايجاب ودوافع تقدم لدى الاخرين، تحولت لدينا الى عناصر سلبية والى عناصر ركود، موقف سمير قصير أفهمه تماماً لأني اعيشه فهو موقف الحياة، نحن لانعرف حتى الان وعلى وجه الدقة لماذا نحن هكذا؟ وبالتالي عندما نجد نموذجاً واتمنى ان يكون حقيقياً كما ان هناك ايضاً علائم تجعلنا نشكك بهذا النموذج العراقي، فمثلاً عندما اقرأ في مجلة فرنسية بأن الاميركيين عندما يسلمون ثكنة عسكرية الى العراقيين يسطو الأمن العراقي عليه في ساعتين وينقل أثاث هذا المركز واجهزته الى البيوت، عندما اقرأ أصاب باحباط، لكن مع ذلك اتمنى لمصلحتي الخاصة ان افكر على نحو آخر، ان هناك هذه الانتخابات أمر عظيم ان يربح المالكيّ، لست مع المالكي، لست في معرض انحياز سياسي، لا أعرف من هو المالكي ولا أعرف الوجه العراقي على وجه الدقة، لكن فقط أعرف ان هناك شخصاً او جماعة فازت بالانتخابات ضد المسلحين، هذا بحد ذاته أمر عظيم، بغض النظر عن أسماء السياسيين، فالرجال يذهبون وينتهون ويمرون لكن الظاهرة يبقى لها معناها، ورغم ذلك وهذا هو المضحك ان العرب محبطون من هذا الخروج العراقي، هذا النموذج يحرجهم ويتنافى مع عقلهم السياسي، نحن فعلا ً لا نفكر بالدولة ولا نفكر بالخروج من الحرب الاهلية، الحرب الاهلية هي حاضرنا على كل المستويات والدولة هي باستمرار أكذوبتنا، واظن اننا نتفق فيما بيننا على هذا، وان تقدميينا ويساريينا ومجاهدينا ومناضلينا يتفقون على هذا، الثورة بالنسبة لهم هي الفوضى، هي الاقتتال الاهلي، هي العنف الدائم، الخروج من العنف، الخروج من الحرب الاهلية يحرجهم ويحرج ايضاً المثقفين من بينهم.
* هذا ما أردت قوله، اليست هذه الصورة العراقية بكلّ مأساتها، مسؤول عنها ايضاً المثقف العربي؟
عباس بيضون: من هو المثقف العربي؟، علينا أن لا ننحو نحواً اتهامياً، بدون ان نستمتع بالانتقاص من المثقفين العرب. بالنسبة لي انا واحد من المثقفين العرب ولا استطيع ان أفرز نفسي من بينهم، وسواء ذهبت الى هذا المنحى او ذاك فانني في نهاية الأمر والتحليل واحد من هؤلاء، مع ذلك يمكننا ان نتحدث عن الثقافة العربية والمثقفين العرب على نحو واقعي، عندما نتكلم عن المثقفين العرب، نحن نخلط الحابل بالنابل ونضع المثقفين مع الدعاة، الثقافة العربية إلا في القليل النادر ليست ثقافة، الثقافة العربية هي دعوات ودعاوى ومن نسميهم مثقفين عرباً هم في واقع الأمر دعاة، هم محرضون ومنشدون وزجالون، ومنمقون. ، بمعنى ان هؤلاء يرثون أفكارهم ولا يصنعونها وهذه الافكار هي بدرجة ما شعبية او شعبوية، نستطيع القول انه منذ اواسط القرن الماضي بعد 1948 وحتى قبلها، تكوّن نوع من الرطانة الثقافية الشعبية او الشعبوية، ككره الغرب، والبحث عن بطولة وبطل، والذي يؤدي عادة الى الاستبداد، الحلم بحرب، والعقل الحربي، وتصور الشعب على انه جيش، وتصور الدولة على انها رئاسة أركان، وتصور القائد أو الرئيس على انه قائد عسكري (جنرال) والحلم بحرب مقبلة تنتهي دائماً بهزيمة ولكن دائماً هناك حرب، وهناك دائما أناشيد حرب، وهناك دائما أساطير الحرب. ثم هناك ترحيب بالعنف على انه مقدمة حربية بما فيه العنف الداخلي والعنف الأهلي..

حوار موسع اجراه الشاعر احمد عبد الحسين مع عباس بيضون في بيروت ننشر جزء منه خاص بالحديث عن العراق