بدر السياب

بدر السياب

نجيب المانع
اديب راحل
انطلق بدر شاكر السياب نحو الشعر الحديث من افضل المنطلقات فهو حين افتتح بصحبة نفر آخرين عهد التعبير الجديد كان ينطلق بولاء للتراث العربي كله ولحرصه على ان يمتد التراث حيا نابضا عبر الحاضر فقد وهبه اسلوبا معبراً عن الحاسية المعاصرة واستلهم طريقة في الاداء انصهرت فيها كل المؤثرات التي تعرضت لها روحه المتطلعة القلقة،

وغالبا ما كان انصهارها مثمراً الا في احيان قليلة اذ تتحجر لديه الرؤيا فتتوقف عند رموز موحية ايحاء كاملا لانها كانت مرادة ارادة مباشرة. ولكنه في الجانب الاكبر من انتاجه يشبه الرسام الذي يوغل في المغامرة الفنية الحديثة بسبب من قوة سيطرته على ادواته التقليدية لا بسبب التهاون وقلة المتانة وضعف الباصرة.
كان بدر فاتحا طموحا في التعبير واللغة والرؤيا والشكل موسيقى الشعر وابعاد الوجدان وقد ترك اعلام ظفره في كل ميدان من هذه الميادين وبنى في كل منها صرحا يشهد له بالسبق على الكثيرين الذين تناولوها من بعده.
وشان الرواد، فان بدرا يمتاز، فضلا عن جودة فنه بانه خلق شكلا يستطيع الاخرون ان يتوارثوه عنه ليمضوا في المغامرة التعبيرية قدما، على العكس من الشعراء الكلاسيكيين المجودين في العصر الحديث الذين قلما ازدادوا ابداعا كانت اجادتهم مدعاة لايصاد الباب بوجه من يليهم كالجواهري مثلا. ان الجواهري قمة الشعر الكلاسيكي فلا يستطيع شاعر، على ما اعتقد، ان يتناول منه رسالة شعرية على ان القارئ يتناول منه اروع رسالة شعورية. ان الشاعر الذي يريد ان يكتب على غرار الجواهري لا يطمح الا ان يكون قرية على سفح جبل قمته الجواهري ليس الجواهري رائدا ولكنه واصل عظيم وكان بدر واحدا من الرواد في النهضة الشعرية العربية الحديثة.
انشودة لمطر والموهس العمياء والاسلحة والاطفال والنهر والموت والى جملية بوحيرد وغيرها من القصائد انما تشكل المغامرة ذات الامتداد الى امام. انها ليست نهاية رحلة ولكنها ابتداع خط جديد لرحلات جديدة وهذا فضل بدر السياب الذي اسبقه على جيل الخمسينات من هذا القرن ومن يستطيع ان يؤثر في جبل ما بعمق تأثير بدر فقد القى بظل متطاول يمتد الى اجيال كثيرة لاحقة. ولقد قيل غير قليل عن عناية السياب بالاسطورة واظنني لن اشتط عن الحق بعيدا ان قلت ان الاسطورة التي كلف بها بدر السياب لم تجد افضل تحقق لها في غير تجسيد المكان تجسيدا اسطوريا والمكان هو قريته التي نشأ جيكور ونهرها بويب فهو هناك حيوية وعفوية وعذوبة والتياع وحنين.
وقد قيل عن اثر ت. اس. اليوت فيه الشيء الكثير من الاطناب ومعرفتي الشخصية ببدر تجعلني اميل الى انه كان ينفعل بادب ت. س. اليوت الشعري اكثر مما كان يتعقله وهذا امر حسن ولكن ما يريده جمهرة من النقاد هو ان يقال ان السياب ابتغى من ت.س. اليوت اكثر من الايماءة الموحية واللمسة المثيرة. كانت اروع لمسات ت.س. اليوت عليه قصيدة الارض الخراب التي وصف فيها الشاعر الغربي موات الحياة الحديث وربطها بالاساطير القديمة وتحدث عن الموت في الحياة وعن موضوع عالجه السياب مرارا واجاده في الغالب الا وهو موضوع الحياة عن طريق الموت والفداء، وان الموت ميلاد وعالج السياب هذا الموضوع ايضا بالتماس مع الفكرة المسيحية القائلة بان صلب المسيح كان حياة ويقظة للبشرية وكان ت.س. اليت قد عالج هذا الموضوع على نحو درامي في مسرحيته الشعرية الرائعة "جريمة قتل في الكاندرائية، حيث كان الناس المحيطون برئيس الاساقفة ببكيت لا يرغبون في موته لانه يوقظهم بل كانوا يريدون حياة كيفما اتفق لا تضحية فيها ولا فداء فالفداء ايقظ ووعي وارتطام بالمسئولية ارتطاما يبعد عن الانسان كل راحة وكل ارتخاء.
واعظم رسالة يحق لنا ان نتناولها من السياب في ايامنا هذه ان الفداء حياة لا للفادي وحده وانما للذين يريد الفادي ان يوقظهم من نومة اهل الكهف ولقد مات السياب قبل ان يرى اروع تحقيق لهذه الفكرة المبنية في شعره حيث يقوم الفائيون كل يوم بتحرير العرب كلهم بكل موت يزرعونه في صحراء رضانا عن انفسنا لتنمو الخضرة لا حد لامتدادها ويكون الانسان في هذه القطعة من الارض بشرا سويا.