الشاعر الذي غنى للحب 50 سنة كاملة

الشاعر الذي غنى للحب 50 سنة كاملة

التقيت بشاعر الشباب الذي حصل على اعلى جائزة في الدولة مرتين.. في اليوم السابق لحصوله على الجائزة، وفي اليوم التالي لها.. وفي المرة الاولى كان حبيس الغرفة التي سميتها (صومعة رامي).. وفي المرة الثانية كان يتحرك في نشاط في غرفة الصالون!..


وصومعة رامي غرفة صغيرة تزدحم بالكتب وبالصور الخاصة به وبزوجته واولاده، وبسرير صغير ومكتب. ووسط مجموعة الصور التي تغطي جدران الصومعة تلمح صورة لفتاة ريفية تأخذ اهتمامك لتتطلع اليها طويلا لانها صورة فريدة لام كلثوم!.
وفي الصومعة.. جلس شاعر الشباب يحدثني وهو يرتجف من شدة البرد رغم احكام النوافذ. ورغم الدفاية الكهربائية التي يجلس في مواجهتها. ورغم كثرة الملابس التي يرتديها، والعباءة الصوفية التي وضع نفسه داخلها، والتي لم يكن يظهر منها سوى وجهه الذي بدا اكثر ضالة وشحوبا، وهو يرتدي طاقية غطت جبهته واذنيه!
وعندما التقيت بشاعر الشباب.. في اليوم التالي بحصوله على الجائزة، كان شخصا آخر. كان في حالة اخرى، بعيدا عن الصومعة، وعن الدفاية، ويغير العباءة والطاقية. كان اكثر حيوية، واكثر نشاطا. كان رامي بحماسه وانفصاله وصوته العالي الذي وقف يلقي كلمة الفائزين في عيد العلم امام الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس العراقي عبد الرحمن عارف.
كان صوت رامي في هذه المرة، في حرارة المعاني التي تضمنتها قصيدته وهو يردد:
عاش من كرم الفنون
وعاشت مصر تدعو له بنيل الاماني
وقال رامي:
- لقد انستني الفرحة كل متاعبي والامي. ان الاحساس بالتكريم والتقدير يعطي الانسان طاقة لا نهاية لها. وانا سعيد بهذا التكريم والتقدير، لانني خدمت باخلاص طول حياتي..
وقال رامي:
- ان التكريم الذي حصلت عليه اليوم له عندي معان كثيرة، لانه يعطيني الفرحة، وينزع عن نفسي احساسا بالاسى لا يعرفه احد غيري، وقد طويته في نفسي. وهو انني قضيت 19 سنة موظفا في الدرجة الخامسة، ولم اتبرم. رغم انني كنت حاملا على ثلاثة دبلومات عالية. الاولى دبلوم مدرسة المعلمين العليا. والثاني دبلوم مدرسة اللغات الشرقية في باريس. والثالث دبلوم مدرسة الوثائق في باريس ايضا..
غنيت للحب!
وقال الشاعر الرقيق العذب الذي يتحدث بصوت العشاق والحالمين انه غنى للحب وتغنى به طوال خمسين عاما ولا يزال. وانه لم ينظم الزجل قبل ان يعرف ام كلثوم، وانه دخل ميدان الزجل شاعرا، وانه استطاع حسب تعبيره ان يفصل الاسموكن من الكستور!
وقال انه ادخل في الزجل جميع ابحر الشعر، وانه هو الذي خلق المونولوج. وانه عندما بدأ ينظم الشعر، كان الشعر وقتها اما مديحا او هجاء، ولكنه اتخذ طريقا آخر.
وتاريخ رامي يقترن بتاريخ الاغنية المصرية التي خلصها وظهرها من المعاني المبتذلة الرخيصة، وسعا بها الى ارق المعاني واجملها..
وقال رامي ان الاغنية المصرية وصلت الى مكانة طبية، وانها تقدمت كثيراً وان اغراضها قد اتسعت، فهناك الاغنية العاطفية والاغنية الوطنية والاغنية الجماعية، ولكن مشكلتها هي في الطابور الطويل من المؤلفين الذين يتصدون لكتابتها عن جهل.
وقال رامي ان الكثيرين جدا من الذين يكتبون الاغنية الان يبحثون عن الكسب، عن الفلوس فقط، وانها صارت صنعة وعملا لمن لا عمل له.
وان الاغنية التي تنجح، يحاول الطابور تقليدها.
ويضحك رامي طويلا وهو يقول:
- المهم (دقة المعلم).. ودقة المعلم لا يأتي بها الا الفنان الحقيقي، والفنان الحقيقي ليس هو الذي ياخذ كل ثقافته من قراءة المجلات!
والذين يكتبون الاغاني الان لم يقراوا في حياتهم سوى المجلات، واخبار المطربين والملحنين.!.
مليون اسطوانة بجنيه!
وفي حماس يقول رامي:
- انا لم اترك شاعرا الا وقرأت له، وانا ما زلت اذكر انني كنت اقف على ابواب المطابع انتظر الكتاب الجديد، وكنت اجلس في محل لبيع الكتب لاقوم ببيعها مقابل القراءة ببلاش، وكنت اذهب في الصباح المبكر واقف امام دار الكتب بالجلابية والجاكتة لكي احصل على الكتاب الذي اريده قبل ان ياخذه غيري!.
وقال رامي انه لم يفكر ابدا في الكسب المادي، وانه اخذ جنيها واحدا ثمنا لاسطوانة بيعت منها مليون اسطوانة!. وان هذه الاسطوانة كان مسجلا عليها اول اغنية غنتها له ام كلثوم وهي اغنية (خايف يكون حبك ليه شفقة عليه)!.
ويسخر رامي من الطابور الجديد لمؤلفي الاغاني وهو يقول:
- تصور.. فيه مؤلفين بيجيبولي اغاني علشان اشوفها.. والاقي الغنوة مكسرة، واشير عليهم باصلاحها وبالاهتمام بالقراءة.. وقبل ما يمشي يقوللي ايه رأيك.. عاوز اقدمها لام كلثوم..واتظاهر بانني لم اسمعه واسكت.. واذا به يضيف.. انا بافكر الاول اروح اسجلها في الشهر العقاري احسن واحد يسرقها مني!.
وقال رامي انه كان يترجم شكسبير، وكانت رواياته تعرض في الاوبرا، وكان اجره عن الرواية 15 جنيها..
وراء الشاعر الفارسي!
وقال رامي انه كتب (رباعيات الخيام) والحزن يملأ قلبه، فقد توفى شقيقه في نفس السنة..
وقال ان اهتمامه بالشاعر الفارسي عمر الخيام، بدا عندما قرا رباعيات الخيام لاول مرة وهو طالب، وكانت مترجمة عن الانجليزية، وكان المرجم اسمه وديع بستاني وهو لبناني.. وكان قد ترجمها في (سباعيات) وليس رباعيات..
وعندما دخل مدرسة المعلمين العليا ودرس الانجليزية، كان اول شيء فكر فيه هو البحث عن الاصل الانجليزي الذي ترجم عنه وديع بستاني. وكان الاصل لشاعر انجليزي معروف هو فيتز جيرالد. وقرا النص الانجليزي جيدا. وقرأ كل ما كتب عنه من نقد. واستوقفته كلمة تقول ان الشاعر الانجليزي فيتز جيرالد قد اتى بشعر انجليزي ولم يأت بالخيام ولا شعر الخيام!
وقال رامي انه راح يفكر طويلا في هذه العبارة، ويسترجع كل ما قرأه. وبدأ يدرك تماما ان عمر الخيام الشاعر الشرقي المسلم لابد وان تكون له تعبيرات ليست هي التي قرأها.. ومن هنا داخلته الرغبة في دراسة اللغة الفارسية للوصول الى عمر الخيام.
ان الجائزة التي اعطيت لرامي هي تتويج لكل اعمال الشاعر الذي غنى للحب طوال 50 سنة!.
سعيد ابو العينين
اخر ساعة/ شباط/ 1967