لينين  بقلم جورج لوكاش

لينين بقلم جورج لوكاش

ترجمة جورج طرابيلشي
إن المادية التاريخية هي نظرية الثورة البروليتارية. وإنها لكذلك لأن ماهيتها هي الخلاصة المفهومية لتلك الكينونة الاجتماعية التي تنتج البروليتاريا وتحدد كل وجود البروليتاريا. إنها لكذلك لأن البروليتاريا المناضلة في سبيل تحررها تجد فيها وعيا صافيا لذاتها. ومن هنا فإن عظمة المفكر البروليتاري، عظمة ممثل المادية التاريخية تُقاس بعمق رؤيته لهذه المشكلات واتساع أفقها وهي تُقاس أيضا بالحدة والصحة اللتين يكون قادرا بهما على أن يستشف خلف ظاهرات المجتمع البورجوازي ميول الثورة البروليتارية التي ترتفع في تلك الظاهرات وبواسطتها إلى الوجود الفعلي والوعي الواضح.

ولينين، تبعا لهذه المقاييس، أعظم مفكر أنتجته الحركة العاملة الثورية منذ ماركس. وبديهي أن الانتهازيين، الذين ما عاد في وسعهم أن ينكروا على الملأ من الناس أهميته أو أن يكتفوا بالثرثرة الفارغة حوله، يقولون أن لينين كان رجلا سياسيا روسيا كبيرا، ولكنه كان يفتقد، حتى يكون زعيم البروليتاريا العالمية، إلى حسّ التمييز الذي كان سيتيح له أن يدرك الفارق بين روسيا والبلدان الرأسمالية المتقدمة، ويضيفون بأنه عمّم ـ وهنا تكمن على حد زعمهم حدوده على الصعيد التاريخي ـ مشكلات الواقع الروسي وحلوله دون أي نقد لتطبيقها على العالم قاطبة.
إنهم ينسون أن المأخذ نفسه قد أُخذ على ماركس في حينه. فقد قيل آنذاك أن ماركس استخلص دونما نقد من ملاحظاته على الحياة الاقتصادية الإنكليزية والمعامل الإنكليزية قوانين عامة لتطور المجتمع، وأن تلك الملاحظات الصحيحة كل الصحة في حد ذاتها تصبح بالضرورة خاطئة عندما تُشوّه وتنزل منزلة القوانين العامة. وقد انتفت اليوم الحاجة إلى دحض هذا الخطأ في تفاصيله والى تبيان حقيقة أن ماركس لم «يعمم» بأي صورة من الصور تجارب منعزلة ومحدودة زمانا ومكانا. فماركس قد استشف على العكس، تبعا لمنهج عمل عباقرة التاريخ والسياسة الحقيقيين، ومن وجهة نظر تاريخية ونظرية على حد سواء، عالم الرأسمالية العامة الأكبر من خلال العالم الأصغر الذي هو المصنع الإنكليزي ومسلماته وشروطه ونتائجه الاجتماعية، وكذلك من خلال الميول التاريخية التي أفضت إلى ولادته وتلك التي تجعل وجوده أمرا غير مؤكد على الدوام.
وهذا بالضبط ما يميز العبقري على المتفقه في العلوم والسياسة. فهذا الأخير لا يستطيع أن يفهم ويميز مراحل الصيرورة الاجتماعية إلا من خلال معطياتها المباشرة وانعزالها. وعندما يريد الارتفاع إلى استنتاجات عامة، لا يفعل من شيء في الواقع إلا أن يفسر بصورة مجردة حقا بعض الجوانب من ظاهرة محدودة في الزمان والمكان وينزلها منزلة «القوانين العامة» ويطبقها على هذا الأساس. وبالمقابل فإن العبقري الذي يعي بكل وضوح وصفاء الميل العام الحقيقي لعصر من العصور، الميل الذي ما يزال تأثيره حيا ينبض، يرى حركة هذا الميل وراء جملة أحداث عصره. ومن هنا فإنه يعالج أيضا المشكلات الأساسية الحاسمة الممتدة على المرحلة كلها، حتى وإن كان هو نفسه لا ينوي الكلام إلا عن المسائل الآنية.
إننا نعلم اليوم أن عظمة ماركس إنما تكمن ههنا. فهو قد استوعب، انطلاقا من بنية المصنع الإنكليزي، جميع الميول الحاسمة للرأسمالية الحديثة وفسّرها. ولقد كانت كلية التطور الرأسمالي ماثلة على الدوام أمام ناظريه. ولهذا كان قادرا على أن يستشف في كل ظاهرة من ظاهرات هذا التطور كليته، وأن يرى في بنيته اتجاه تقدمه.
ولكن قليلين من الناس يعلمون اليوم أن لينين أنجز في عصرنا ما أنجزه ماركس بالنسبة إلى تطور الرأسمالية اليوم. فهو قد رأى على الدوام مشكلات العصر بأكمله في مشكلات تطور روسيا الحديثة، بدءا من مشكلة ولادة الرأسمالية في إطار الحكم المطلق ونصف الإقطاعي إلى مشكلات بناء الاشتراكية، في بلد زراعي متخلف: الدخول في المرحلة الأخيرة من الرأسمالية وإمكانيات توجيه التصادم الحاسم الذي بات محتما بين البورجوازية والبروليتاريا لصالح البروليتاريا ولخلاص الإنسانية.
إن لينين، شأنه شأن ماركس، لم يعمم قط تجارب محلية خاصة بروسيا، ومحدودة في الزمان والمكان. ولكنه أدرك وميّز، بنفاذ بصيرة وعبقرية، مشكلة عصرنا الأساسية في المكان والزمان اللذين برزت فيهما نتائجها الأولى، وأعني بتلك المشكلة اقتراب الثورة. وإنما من خلال هذا المنظور، منظور آنية الثورة، فهم جميع المشكلات الروسية والأممية على حد سواء وجعلها مفهومة.
آنية الثورة، تلك هي فكرة لينين الأساسية والنقطة الحاسمة التي تربطه بماركس. ذلك أن المادية التاريخية بوصفها تعبيرا نظريا عن النضال في سبيل تحرر البروليتاريا ما كان من الممكن تصورها وصياغتها نظريا إلا في اللحظة التاريخية التي أصبحت فيها مطروحة على جدول أعمال التاريخ من خلال آنيته العملية، أي في اللحظة التي ما عاد يظهر فيها في بؤس البروليتاريا البؤس وحده كما قال ماركس، بل على العكس الجانب الثوري «الذي سيطيح بالمجتمع القديم». وبديهي أن إدراك آنية الثورة البروليتارية كان بحاجة آنذاك إلى رؤية العبقري الجريئة. ذلك أن الثورة البروليتارية لا تصبح منظورة بالنسبة إلى عامة الناس إلا بعد أن تكون الجماهير العمالية قد شرعت تناضل حول المتاريس. ومما يزيد في عمى أولئك الأفراد المتوسطين أنهم تلقوا تحصيلا ماركسيا مبتذلا. ذلك أن أسس المجتمع البورجوازي ثابتة راسخة في نظر «الماركسي» المبتذل إلى درجة لا يتمنى معها، حتى عندما تسمع أذناه قضقضة ذلك المجتمع المبشرة بانهياره، إلا عودته إلى حالته «السوية». فهو لا يرى في أزماته إلا أعراضا عارضة، ويعتبر النضال حتى في أوقات الأزمات تمردا لا معقولا من قِبل أناس غير جديين ضد الرأسمالية التي لا سبيل إلى قهرها بالرغم من كل شيء. وعلى هذا فإن مقاتلي المتاريس يبدون له أناسا تائهين ضالين، والثورة المسحوقة تبدو له «غلطة». وفضلا عن ذلك يعتبر «الماركسيون» المبتذلون بناة الاشتراكية في ثورة مظفرة مجرمين أو كالمجرمين، لأن النصر لا يمكن في نظرهم إلا أن يكون مؤقتا عارضا.
إن المقدمة العامة لنظرية المادية التاريخية هي إذن كما نرى الآنية العالمية للثورة البروليتارية. وبهذا المعنى فإن العمل في سبيل أن تكون الثورة البروليتارية وشيكة راهنة يشكل نواة المذهب الماركسي، ويقدم أساسا موضوعيا لكل المرحلة ومفتاحا لفهمها في الوقت نفسه. ولكن بالرغم من هذا التقييد الذي تجلى في الرفض الصريح القاطع لكل الأوهام غير المبنية وفي الإدانة الصارمة لجميع المحاولات الانقلابية التآمرية، لم يحجم التأويل الانتهازي عن التشبث بتفاصيل الأخطاء المزعومة التي انطوت عليها توقعات ماركس الخاصة مستهدفا من وراء ذلك، وبمثل هذه الحيلة المكشوفة، فصل الثورة عن كل البناء الماركسي فصلا مطلقا جذريا. وهنا على وجه التحديد يلتقي، في منتصف الطريق، المدافعون «الأرثوذكسيون» عن ماركس مع نقاده. أفلم يقل كاوتسكي لبرنشتاين أنه من الممكن التخلي في المستقبل بكل هدوء واطمئنان عن قرار دكتاتورية البروليتاريا؟
وبصدد هذه النقطة على وجه التحديد أعاد لينين للنظرية الماركسية نقاءها. وحول هذه النقطة على وجه التحديد جاءت صياغته لها أكثر وضوحا وعينية. وليس ذلك لأنه سعى بطريقة أو أخرى إلى تصحيح ماركس. وكل ما هنالك أنه أدخل في تلك النظرية المسيرة المستمرة للتاريخ منذ وفاة ماركس. وهذا يعني أن آنية الثورة البروليتارية لم تعد بعد الآن مجرد أفق من آفاق التاريخ العالمي المحلق فوق الطبقة العاملة التي في سبيلها إلى التحرر، وإنما يعني أن الثورة أصبحت من الآن مسألة مطروحة على جدول أعمال الحركة العاملة. ولقد كان في وسع لينين أن يتحمل بلا مشقة تهمة البلانكية التي ألصقت به بسبب موقفه المبدئي الأساسي ذاك، ولا سيما أن مثل تلك التهمة كانت تتيح له أن يتمتع بعِشرة ماركس الذي اتُهم هو الآخر بالبلانكية من بعض الجوانب. فمن جهة أولى لم يتصور لا ماركس ولا لينين آنية الثورة البروليتارية وآنية أهدافها النهائية على أنها قابلة من الآن للتحقيق بأي كيفية كانت وفي أي زمان كان. ولكن آنية الثورة من الجهة الثانية كانت تمثل بالنسبة إلى الاثنين معا المعيار الموثوق للقرارات في جميع الأعمال اليومية. فآنية الثورة تشير إلى اللحن السائد في عصر بأكمله. والأعمال المنفردة تكون ثورية أو مناهضة للثورة تبعا لعلاقتها بتلك النواة المركزية، وهي علاقة لا يمكن تحديدها إلا عن طريق التحليل الدقيق لمجموع الوقائع التاريخية-الاجتماعية. إذن فآنية الثورة تعني ما يلي: معالجة كل مشكلة يومية خاصة من خلال ارتباطها العيني بالكلية التاريخية-الاجتماعية، واعتبار تلك المشكلات مراحل من تحرر البروليتاريا. والاغتناء الذين تدين به الماركسية للينين يكمن بكل بساطة ـ بكل بساطة ـ في الصلة الأوثق والأوضح والأحفل بالنتائج بين الأعمال المنفردة وبين المصير العام، المصير الثوري للطبقة العاملة بأسرها. وهذا يعني بكل بساطة أيضا أن كل مسألة آنية وراهنة قد أصبحت في الوقت نفسه ـ بوصفها مسألة يومية ـ مشكلة أساسية من مشكلات الثورة.
لقد طرح تطور الرأسمالية الثورة البروليتارية على جدول الأعمال. وليس لينين هو الوحيد الذي رأى اقتراب هذه الثورة. ولكنه يتميز بجرأته وإخلاصه ونكرانه للذات لا عن أولئك الذين يتوارون عن الأنظار بجبن في اللحظة التي تدخل فيها الثورة البروليتارية ـ التي كانوا يعلنونها وشيكة راهنة نظريا ـ في مرحلتها العملية فحسب، بل يتميز أيضا بوضوحه النظري عن خيرة الثوريين المعاصرين وأصحاهم فكرا وأكثرهم إخلاصا. ذلك أن هؤلاء الأخيرين لم يتعرفوا الثورة البروليتارية إلا على النحو الذي عقلها به ماركس بنفسه في عصره، أي لم يتعرفوها إلا كمشكلة أساسية تنسحب على المرحلة كلها. ولكنهم لبثوا عاجزين في الوقت نفسه عن أن يجعلوا من تلك المعرفة الصحيحة ـ الصحيحة من منظور التاريخ العالمي ومنه وحده ـ الخيط الهادي الموثوق لتسوية جميع المسائل اليومية، أسواء منها المسائل السياسية أم الاقتصادية، النظرية أم التكتيكية، التحريضية أم التنظيمية. ولينين هو الوحيد الذي خطا الخطوة نحو الممارسة العينية للماركسية التي أصبحت مذ ذاك عملية تماما. ولهذا فإنه على الصعيد التاريخي العالمي النظري الوحيد الذي أنتجه النضال في سبيل تحرر البروليتاريا ووضعه في مستوى ماركس.

عن كتاب لينين، تأليف جورج لوكاش
ترجمة جورج طرابيشي