اسم بغداد.. معناه وتاريخه

اسم بغداد.. معناه وتاريخه

■ د. يوسف فوزي
في بحثنا هذا، سنحاول كشف النقاب عن معنى اسم بغداد لغويا، لأنه غير معروف لدى غالبية الناس والباحثين، فنبدأ أولا بذكر اسم بغداد في المصادر العربية، وثانيا بذكر أسمها في الألواح الأثرية قبل الميلاد، وثالثا وأخيرا نقوم بدراسة معنى أسمها في اللغات العراقية القديمة، ثم نختم بحثنا بكلمة نوجز فيها ما نكون قد توصلنا إليه من نتائج وعبر.

1ـ بغداد في المصادر العربية:
لقد قام العديد من المؤرخين العرب بذكر مدينة بغداد في صدر الإسلام: نكتفي هنا بذكر أهميتهم وإيجاز أقوالهم فيها.
لقد ذكر أحمد البلا ذري ( ؟ ـ 892م) بغداد قائلا: "وكانت بغداد قديمة فمصرحا أمير المؤمنين")، أي أنها كانت موقعا صغيرا فجعلها مدينة.
كما أن أحمد اليعقوبي (؟ ـ 897م) قال فيها: " ولم تكن بغداد مدينة في الأيام المتقدمة، أعني أيام الاكاسرة والأعاجم، وإنما كانت قرية من قرى طسوج بادويا") وهذا يعني أن تلك القرية كانت تسمى بغداد قبل أن يحتل الفرس العراق.
وقد تحدث الحسن الهمداني(؟ ـ 945م) عنها وعن مكانتها التجارية في العالم آنذاك قائلا: " وكانت بغداد قديمة، فمصرها أبو جعفر المنصور. وكانت بغداد سوقا يقصدها تجار الصين بتجارتهم فيربحوا الربح الواسع.").
كما أن أبا جرير الطبري (839 ـ 923م) يذكر بطولات القائد العربي خالد بن الوليد قائلا: " أغار على سوق بـغداد… وانه وجه المثنى فأغـار على سوق فيها جمع لقضاعة وبكر.")
وقد اتفق الطبري مع عبد الرحمن ابن الجوزي (1116 ـ 1200 م) وبدر الدين العيني (1360 ـ 1451م) إذ قالوا: " وكانت بغداد مزرعة للبغداديين يقال لها المباركة، كانت لستين نفسا من البغداديين. فعوضهم المنصور عنها عوضا أرضاهم".
كما أن أبا علي ابن رسته (؟ ـ 903) يذكر بغداد قائلا: " بغداد أسم موضع كانت في تلك البقعة.. في الدهر القديم، وهي أرض بابل .." .
والخطيب البغدادي يروي لنا عن طريق الشيخ أبي بكر الذي قال:
" والمحفوظ أن هذا الاسم ـ بغداد كما يعرف به الموضع قديما".
ومن المؤرخين العراقيين المعاصرين، الأستاذ الدكتور أحمد صالح العلي الذي كتب عن بغداد قائلا: اختار أبو جعفر بنفسه رقعة مرتفعة من الأرض على الجانب الغربي من دجلة، عند مصب نهر الرفيل فيه: وقرر أن يشيد عاصمته الجديدة على هذه الرقعة. وكانت في المنطقة.. بضع قرى صغيرة، ودير للنصارى، وجسر على دجلة، وسوق تقام في بعض أيام الأسبوع لأهل المنطقة فالأرض التي حولها سهلة فسيحة، فيها مزارع تسقيها مياه ترع تتفرع من نهر الرفيل الواسع الذي يأخذ من الفرات ومن نهر الدجيل الذي يأخذ من دجلة في تساليها… يقابلها في شرق دجلة أراض منبسطة أيضا تروي مزارعها عدة أنهار وترع، أكبرها نهر بوق".
" وقد أطلق أبو جعفر المنصور (754 ـ 774م) على المدينة التي شيدها (سنة 762م) اسم " مدينة السلام" تيمنا بالجنة لذكر الله" الوارد في القرآن الكريم بإسم "السلام" وكان هذا الاسم الرسمي لها يدون على المسكوكات والموازين والوثائق والكتب الرسمية. غير أن الناس كانوا يسمونها في الغالب " مدينة المنصور" نسبة للخليفة الذي شيدها. كما أنهم أطلقوا عليها وعلى ما شملته من أبنية أخرى عند توسعها اسم "بغداد" الذي كان يطلق على هذه المنطقة منذ أيام البابليين.." كما أن الأستاذ الدكتور حسن فاضل زعين كتب عن عراقية اسم بغداد وعروبته قائلا: " تؤكد المصادر والوثائق التاريخية وما كشفته التنقيبات الآثارية، أن بغداد أسم عراقي قديم. والأدلة على قدم عراقيته وعربيته، وارتباطه بالعراقيين دون سواهم كثيرة.. إن بغداد اسم عراقي أصيل عرفه سكان العراق القدماء منذ أقدم العصور وان اسمها بقي محافظا على مكانته حتى يومنا هذا، مع طول تلك الأزمنة التي مرت عليه..".
2ـ بغداد في الألواح الأثرية قبل الميلاد:
أول من قام بالتنقيب في العراق، كان المشرفين الأجانب. ومن بين هؤلاء جاك ريسلر الذي قال: " وكانت بغداد مدينة قديمة بابلية على الشاطئ الغربي من نهر دجلة" في حين يقول أوليري: "ان بغداد مدينة عريقة في القدم ، كانت تعرف زمن البابليين ببغداد".
كما أن المستشرق لسترانج يقول:" ويستدل من التنقيبات الاثرية التي قام بها السر رولنسون في سنة 1848، في أثناء انخفاض الماء في فصل جفاف اكثر من مستواه العادي، أن هذا المكان كان موقعا لمدينة موغلة في القدم، بدليل الواجهة الواسعة المشيدة من الأجر البابلي. والتي لا زالت تحاذي ضفة دجلة الغربية عند بغداد. وكل قطعة من الآجر مختومة باسم نبوخذ نصر وألقابه. وقد وجد منذ ذلك الوقت أيضا اسم قريب الشبه ببغداد في الكشوف الجغرافية الآشورية في عهد سردنابالس، ولعله يشير إلى المدينة التي كانت موجودة حينذاك في الموضع الذي أصبح فيما بعد عاصمة الخلفاء العباسيين").
لقد ورد ذكر اسم بغداد صريحا في الألواح المكتشفة حديثا، والتي يرقى تاريخها إلى أزمنة موغلة في القدم، ويعود بعضها إلى العصر البابلي. ومن أهميها وأبرزها النص الصريح الوارد في لوح سبار المكتشف في تل أبي حبة الذي يبعد عن شمال غربي بابل (50) خمسين كيلو مترا، حيث ورد اسم بغداد فيه صريحا هكذا " بجدادا " ويرجع تاريخ هذا اللوح إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، أي أنه من زمن الملك حمورابي).
وورد ذكر اسم بغداد أيضا في لوح آخر، يعود تاريخه الى الأعوام 1341 ـ 1316 قبل الميلاد، وهو مكتوب فيه هكذا: "بغدادي" وفي لوح آخر ورد اسم بغداد مكتوبا فيه هكذا: " بجدادو" ويعود تاريخ هذا اللوح الى القرن الثاني عشر قبل الميلاد. كما ورد اسمها أيضا مكتوبا هكذا: "بغدادو" في وثيقة تاريخية يرقى عهدها الى سنة 728 قبل الميلاد إبان حكم الملك الآشوري تجلات فلا سر الثالث (745 ـ 727 ق. م.).
3 ـ معنى اسم بغداد في اللغات العراقية القديمة:
اللغات العراقية القديمة، أو الجزرية: هكذا يحب بعض باحثينا العراقيين المعاصرين أن يسموا اللغات السامية المتعارف عليها دوليا، وذلك نسبة الى سام (شيم) ابن نوح.
أما نحن شخصيا فقد اقترحت أن تسمى "لغات شامية" نسبة الى الاسم العبري الأصيل والى بلاد الشام موطن أغلب لهجاتها الشقيقة القديمة)
وذلك تلافيا لإثارة المشاكل التي نحن الباحثين في غنى عنها.
إن أبا الفضل بديع الزمان الهمداني (968 ـ د1007م) ذكر اسم بغداد في اثنتين من مقاماته الخمس والعشرين: في المقامة الازاذية حيث قال :"اشتهيت الازاذ، وأنا في بغداذ" وفي المقامة الأزاذية حيث قال: " كنت ببغداذ، وقت الأزاذ" . والأزاذ هو أجود التمور العراقية حينها.
هذه المقامات شرحها الشيخ محمد عبده المصري (1849 ـ 1905م) ونشرها في بيروت سنة 1889. وقد عقب على اسم بغداد قائلا: "بغداذ هي مدينة بغداد المشهورة.
وفي لفظها لغات: بذالين معجمتين ودالين مهملتين ومختلفتين مع تقدم المعجمة أو تأخرها، وبغدان وبغدين ومغدان. وتلقب بمدينة السلام. ولفظها في الأصل فارسي مركب من باغ بمعنى بستان وداد بمعنى العدل فهو بدالين مهملتين، وبقية اللغات وجوه تقريب. وكانت من بناء الفرس قبل الإسلام، ألا أنها لم تكن من حواضرهم . وبقيت كذلك الى سنة 145 من الهجرة فجدد الخليفة المنصور ثاني خليفة من بني العباس اخطاط مكانها حاضرة للخلافة العباسية وتم بناؤها في سنة 146 هـ. وانفق فيه أربعة ملايين درهم وثمانمائة وثلاثين درهما. وكان عرض الطريق فيها أربعين ذراعا").
لسنا نعلم من أين وكيف توصل الشيخ محمد عبده الى أن لفظ بغداد هو من أصل فارسي. لعله يكون قد تأثر بالمستشرقين من أمثال كارل بروكمان وغيره حيث قال بأن (باغ/ بستان) فارسية الأصل ولكن هل نسي جميع هؤلاء بأن الفرس، بعد استيلائهم على بابل عام 539 ق. م، تبنوا آرامية أهل العراق لغة رسمية لدولتهم، بحيث إنها سميت اشتهرت بآرامية المملكة؟ فضلا عن أن اسم بغداد موجود في موقعها منذ عهد الملك البابلي الشهير حمورابي (القرن 18 ق،م) مثلما ذكرنا آنفا. ومعروف أيضا أن اللغة الفارسية القديمة، أي البهلوية، قد اقترضت ألفاظا كثيرة حقا من اللغة الآرامية كما أن اوجين منا، في معجمه الشهير دليل الراغبين في لغة الآراميين يعتبر لفظة "باغ" آرامية أصيلة). ونحن نشاطره هذا الرأي السديد.
إن المؤرخين والباحثين الذين كتبوا عن بغداد لم يحاولوا بجدية أن يحللوا لغويا معنى اسمها المركب بجزأيه ومن حاول منهم لم يوفق وذلك لقلة معرفة بأبنية اللغات الشامية وجذورها وأصولها. أن من الواجب علينا هنا أن ندرس اسم بغداد لغويا ونحلله جذريا لكي نتوصل الى ما كان يقصد به أهل العراق القديم إن أمكن.
نحن نرى أن اسم بغداد: المركب من كلمتين آراميتين، يتحمل على الأقل تحليلين اثنين وتفسيرين من حيث البناء اللغوي والمعنى.
في التحليل الأول، نجزئ بغداد الى بَ وهو اختزال لكلمة بيت وهذا يرد كثيرا في الأسماء الآرامية القديمة لا سيما أسماء المواقع الجغرافية من القرى والأرياف، نحنو بعقوبا(بيت المتعقب) بعشيقا (بيت المتكبر) وبرطلي (بيت الأرطال) ثم نجزئها الى جذاذ (= غداد) وهي كلمة آرامية سريانية معناها إما هو خيط أو غنم أو نسيج عنكبوت ) وهكذا إذن يكون معنى اسم بغداد (بيت الخيط) أو (بيت الغنم) أو (بيت نسيج العنكبوت) وللقارئ أن يختار ما يراه له الأفضل بين هذه المعاني الثلاثة.في التحليل الثاني، نجزئ بغداد الى باغ: وهي تعني في الآرامية السريانية (جنينة، بحر،بطيح، سهل) ثم نجزئها الى داد: وهذه أيضا كلمة آرامية سريانية، ومعناها (حبيب، عم، خال) وهكذا هنا أيضا يكون معنى اسم بغداد (جنينة الحبيب أو العم أو الخال) أو بستانهم وان لفظة داد قد وردت في الاكدية بصيغة داد: وفي العبرية بصيغة دود (بإمالة الواو) وفي العامية العراقية بصيغة داد أيضا.
وهي لها في هذه اللغات جميعا المعنى ذاته) وربما هناك تحليل ثالث لاسم بغداد. يكون مرده الى جذور اللغة العربية، فالناطقون بالسريانية، في سائر لهجات السورن، ينطقون اسمها (بغدد) بفتح الباء قصيرة وفتح الدال الأولى قصيرة أيضا. ولابد لنا من أن نذكر بأن السريان ينطقون حرف الجيم الساكن وغير المشدد غينا اذا كان مسبوقا بحرف متحرك، مثلما هو الحال هنا. وفيه نجزئ (بغدد) الى بغ/ يج: ومعنى هذين الفعلين عربيا هو على التوالي: بغ/ هاج، ويج/ وسع مشق العين). أما الجزء الباقي منها فهو (دد) ومعناه إما اللهو واللعب أو هو اسم علم امرأة. وهكذا يكون معنى اسم بغداد عربيا مزدوجا: أولا ـ هاج اللهو واللعب، وثانيا ـ وسع مشق عين المرأة المدعوة دد.
الخاتمة:

من خلال بحثنا الموجز هذا، يمكننا استخلاص العبر والنتائج التالية:
إن أبا جعفر المنصور شيد عاصمته الجديدة على موقع قرية كانت تعرف باسم (بغداد) منذ أيام حمورابي (القرن 18 ق.م) وسماها (مدينة السلام) تيمنا بالجنة ، وكأنه كان قد فهم الجزء الأول من اسمها المركب في لغة أهل بابل القدماء، ألا وهي البستان أو الجنينة. حيث إن لفظة باغ الآرامية تعني ذلك. أما جزء اسمها الثاني (داد) فيعني الحبيب. إذن معنى بغداد هو جنينة الحبيب وصديقه وبستانه .هذا في رأينا هو المعنى الأساس والرئيس لاسم عاصمتنا الحبيبة بغداد، فضلا عن المعاني الأخرى التي عرضناها قبل قليل. وجميع هذه المعاني بجذورها اللغوية ذات أصالة وعراقة تعود الى لغات أهل العراق ماضيا وحاضرا وإن شاء الله مستقبلا أيضا. وهكذا فهي بعيدة تماما عن كل تأثير أجنبي وغريب لا يمت بصلة للغة العربية وشقيقاتها الشامية/ السامية.

مصادر البحث وهوامشه
1ـ البلاذري، أحمد، فتوح البلدان، مجلد2" ص361.
2ـ اليعقوبي، أحمد، كتاب البلدان (منشور مع كتاب الأعلاق النفسية لابن رسته)، ص 235.
3ـ الهمداني، الحسن، بغداد مدينة السلام: ص 27و35.
4ـ الطبري، ابن جرير، تاريخ الأمم والملوك، مجلد 3، ص 385؛ ابن الجوزي، عبد الرحمن، مناقب بغداد، ص 6 ـ 7.
5ـ الطبري، ابن جرير، تاريخ الأمم والملوك، مجلد 8، ص 619؛ ابن الجوزي، عبد الرحمن، مناقب بغداد، ص 7، والمنتظم في تاريخ الأمم، مجلد 8، ص 34، وعقد الجان، مجلد 7، ص186.
6ـ ابن رسته، أبو علي؛ الاعلاق النفسية، مجلد 7،ص 108.
7ـ الخطيب البغدادي، احمد بن علي، تاريخ بغداد، مجلد 1، ص 062 ولد سنة 1002م وتوفي سنة 1071م وله " تاريخ بغداد".
8ـ العلي، صالح أحمد، بغداد، تأسيسها ونموها/ العراق القديم، بغداد 1983، ص375.
9ـ العلي، صالح أحمد، المصدر السابق، ص376.
10ـ زعين، حسن فاضل واخرون، بغداد في التاريخ ، بغداد 1991، ص 30 ـ 31.
11ـ ويسلر، جاك الحضارة العربية، ص 137، وانتقال علوم الإغريق الى العرب، ص 199.
12ـ لسترانج،بغداد في عهد الخلافة العباسية، ص 17.
13 ـ جواد، مصطفى، دليل خارطة بغداد: ص18.
14ـ زعين، حسن فاضل، المصدر السابق، ص31.
15ـ قوزي، يوسف، اللهجات الآرامية وانتشارها الجغرافي، مجلة المجمع العلمي/ هيأة اللغة السريانية، بغداد 1996، ص102.
16ـ الشيخ محمد عبده، مقامات أبي الفضل بديع الزمان الهمزاني، بيروت 1889، ص 55.
17ـ الشيخ محمد عبده، المصدر السابق، ص6.
18ـ الشيخ محمد عبده، المصدر السابق، ص 6/ هامش1.
19ـ منا، أوجين، دليل الراغبين في لغة الآراميين، ص 49؛ ROCKELMAVN - K Lescicon Sysiacam - Hilaesheim 1966 -20ـ p- 57. قوزي، يوسف، المصدر السابق، ص 102.
21ـ منا، أوجين، المصدر السابق، ص 91؛
22ـ منا ،أوجين المصدر السابق، ص 49. وفي ص 49. وفي ص 521 نجد (عابا) أي غاب ، غيضة، أجمة ولعلها تكون في الأصل للغوي الثاني قلبا (قلب العين غينا) وبالتقديم أو التأخير أصبحت (باغا)؛
23ـ منا أوجين المصدر السابق: ص 138؛1440
24 ـ بن فارس، احمد مقايس اللغة القاهرة 1979، مجلد 1، ص 173؛ معلوف، لويس، المنجد في اللغة، بيروت. 1960، ص 43.
25ـ ابن فارس ، أحمد المصدر السابق، مجلد، ص 266.