الحب والموت في أدب ميخائيل نعيمة

الحب والموت في أدب ميخائيل نعيمة

لا تستقيم دراسة لفكر نعيمة قبل الوقوف على مراحل حياته والتعرّف على نشأته ومنابع ثقافته، ثم إن دراسة مسألة من مسائله الفكرية تستلزم البحث عنها في كتبه كلها لأننا لن نجد بحثاً منهجياً مستقلاً يتناول مسألة الحب أو الموت أو سواهما في كتاب بعينه أو في كتب معيّنة.

وإنما نجد هذه المسألة أو تلك موزّعة في زوايا مؤلفاته أو مبثوثة في ثناياها. معنى ذلك أن تناولنا لمسألتي الحب والموت عند نعيمة سينطلق من سيرته الذاتية، ولكنه سيتجاوز السيرة الى سواها من آثاره التي تجلو الغامض وتوضح المبهم خصوصاً أنّ آثار نعيمة جمعاء ـ كما قال غير ناقد ـ تسلك في خيط فكري واحد حتى كأن كلّما كتب كان كتاباً واحداً. وبدا لآخرين أنّ ميخائيل نعيمة متناقض حائر منذ بداية هذا القرن "المجهول في نفسه يهديه طوراً ويغشى على بصره أطواراً.وعلى الرغم من كون مؤلفه (سبعون) بأجزائه الثلاثة أطول سيرة عربية ذاتية وأوفاها، ومن اكثر السير الذاتية صراحة وتعرّياً، وعلى الرغم من مزاياها الفنية الكثيرة، فإن الإقتصار على السيرة الذاتية وحدها يعتبر نقصاً وتقصيراً. من مزايا (سبعون) أنها توقفنا على حياة درامية من خلال تصوير كاتبها لصراعه الدائم مع نفسه ومحاسبتها وغربلتها لتنقيتها من الشهوات في شعاب المعرفة والحياة. ومن مزاياها أنها مزيج من البناء الروائي والبناء المسرحي ومن فن المقالة الأدبية التحليلية. نعيمة نفسه أوجس من السيرة الذاتية فزعاً فقال: إنك خادع ومخدوع كلما حاولت أن تحكي لنفسك أو للناس حكاية ساعة واحدة من ساعات عمرك. لأنك لن تحكي منها إلا بعضها، فكيف بك تروي حكاية سبعين سنة.ويشير في (سبعون) الى مصادر اخرى غير سيرته تعبّر عن فكره، وتشفّ عن شخصيته، وتؤخذ منها سيرته، في طليعتها (مذكرات الأرقش) وكتاب (مرداد).
يقول: خلقت الأرقش من خيالي فلم يلبث أن أصبح في حياتي أكثر من خيال. وفي (مذكرات الأرقش) يهتف كأنك مني وأنا منك، أنت في فكري وقلبي وخيالي. لذا، أصاب غير دارس وناقد في مقارنة الأرقش بنعيمة، كمارون عبود: مذكرات الأرقش هي مذكرات نعيمة في مبادئها العامة لا في حوادثها الخاصة وإسماعيل أدهم: مذكرات الأرقش ترسم حياة نعيمة في تلك الفترة وتدل على ما كان يعتمل في صدره ويختلج في قلبه ويدور في رأسه، ونديم نعيمة: مذكرات الأرقش بالنسبة الى كاتبها كانت أكثر من كتاب يضعه ثم ينتهي منه. إنها تعبير عن حالٍ كان نعيمة يحياها كمفكّر وكأديب وكإنسان. أما بالنسبة الى كتاب مرداد فيصرّح نعيمة بأنه "الكتاب القمّة في تفكيره وأن رموز الكتب جميعها مستوحاة من طبيعة الشخروب وبسكنتا وصنين. ومما لا شك فيه أن الأرقش ومرداد مرحلتان في حياة ميخائيل نعيمة أساسيتان، ولذلك، على القارئ ـ إذا أراد فهم نعيمة ـ أن يرافق الأرقش في دربه وصولاً الى القمّة مع مرداد.. وما يزيد من تلاحم المسارين الفكري والحياتيّ لدى نعيمة أنه حاول منذ عودته من نيويورك عام 1932 أن يوحّد بين النظرية والسلوك، بين النظر والعمل، والعقيدة والحياة كأنه فيلسوف هنديّ يعيش فلسفة، فاعتكف في الشخروب ووقف حياته على التأمل والتفكير.
نكبة الهجرة
إذا كانت مأساة المجاعة أوّل عامل في حياة توفيق يوسف عوّاد حفر عميقاً في ذاكرته، فإن ميخائيل نعيمة فتح عينيه على نكبة الهجرة وكان يطبقهما على صورة أبٍ في بلاد يدعونها أميركا، وبعد أن مكث أبوه ست سنوات وعاد صفر اليدين، هاجر أخوه الأكبر أديب الى الولايات المتحدة الأميركية ولمّا يطّر شارباه، ولعلّ أعمق ما أثر فيه ساعات الرحيل: "أعشاش تبعثر، وأرحام تقطّع، وأفئدةٌ تفتت، وأكبادٌ تُمزق، ويعود المودّعون الى بيوتهم وكأنهم عائدون الى المقابر، ويمضي المسافرون في سبيلهم وكأنهم ماضون الى المشانق... وما من معزٍّ إلا الأمل.ليس السفر قطعةً من العذاب فحسب السفر موت قصير والموت سفر طويل، الأول موت مؤقت والآخر دائم، والعلاقة بينهما علاقة جدلية، تحجب وتعكس خطراً واحداً هو الغياب. أن تسافر يعني أن تموت قليلاً. وأن تموت يعني أن تسافر حقاً. الموت رحيلٌ الى الله. ذهابٌ بلا إياب. سفرٌ من غير أن يترك المسافر العنوان.... رحلة من غير وداع أو لقاء أو انتظار. من هنا، يمكننا إعتبار تجربة نعيمة والهجرة تجربته الأولى مع الموت ولقاءه الأوّل به. وقد دأب العمر كله على التفتيش عن حلّ للموت، والعمل على نفيه وإلغائه.أما المؤثرات الثقافية التي فعلت في ميخائيل نعيمة ووعاها فأعلنها في سيرته الذاتية وأحاديثه الصحافية ومقالاته الأدبية فهي في الأغلب مصادر شرقية. علماً أن أيّ تأثير ليس كاملاً وتلك هي طبيعة العلاقات الإنسانية والحضارية، بل لعله ليس مباشراً، فعلاقات التداخل الإنساني أكثر تعقيداً وتشابكاً مما نظُن...إن أهم منبع إستقى منه نعيمة فكره: الهند، بلاد الحياة والموت، وفردوس الآلهة والأديان. فقد هداه شابٌ هندي مثقف الى كتابين كان لهما في نفسه أطيب الأثر. وذانك الكتابان هما: نشيد المولى، واليوغا الملكية للمتصوف الهندي (فيفيكنندا). وفي إعتقاده أن الفلسفة الهندية هي أمّ كل الفلسفات. أما معلموه فثلاثة: بوذا ولاوتسو ويسوع. ويخاطبهم فيقول: ثلاث منارات على شواطئ الوجود، وجوهكم النيّرة ملجأي من وجوه البشر ومهربي من كهوف الوهم ودليلي الى وجه الحق.
الحب في سيرة ميخائيل نعيمة
هل أسهمت تجارب نعيمة الشخصية مع المرأة في صياغة فلسفته الروحية وفي تشكيل مواقفه من المرأة والحبّ والزواج؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال إستناداً الى سيرة نعيمة، ثمة ملاحظتان تمهّدان الخوض في الموضوع، ويمكن إيجازهما بكلمتين إثنتين هما: الزهو والصراع. يميل نعيمة في (سبعون) الى العجب بالنفس والزهو والغرور.وزهو نعيمة بمن تيّم من النساء الحسناوات لا يقلّ عن زهو نتاجه الفكري، والمرأة في علاقاته العاطفية هي التي تبادر دائماً.عرف نعيمة في حياته ثلاثة نساء متزوجات أقام معهن علاقة متكاملة ويبدو ان العلاقات الثلاث التي أقامها مع هؤلاء النساء كانت الشفقة دافعاً أساسياً الى عقدها، إذ أن شعور نعيمة بشقاء أولئك النسوة وبحرمانهنّ من الحبّ ومن الزوج المحبّ آلمه، ومن ثم قرّبه منهنّ وجعله يشاركهن عذاباتهنّ وأحزانهنّ كما يبدو لنا أن الرحمة بالزوج كانت أحد الدوافع الأساسية الى فصم تلك العلاقات. بيد أن الشفقة ـ مشكلة الحب الأساسية ـ ليست حباً، لأن بواعث شتى تكمن وراءها غير الإحساس العميق بالحبّ، ولأنها قد تكون مظهراً من مظاهر الأنانية والاستعلاء خالياً من أمارات الحب، والأهم أن جوهر الحب يقوم على مشاركة وجدانية عميقة بين كائنين يشعران في قرارة نفسيهما بأنهما ندّ وندّ متساويان في الأخذ والعطاء، بينما تنطوي الشفقة على تفاوت بين الطرفين إذ تستدرّ العطف من طرف وتسبغ الرعاية على آخر.
من الحبّ الى المحبّة
مع انتهاء علاقة نعيمة بالمرأة الثالثة (نيونيا) تبتدئ مرحلة جديدة في حياة هذا المجاهد، عهد لا سلطان فيه للشهوة الجنسيّة بل السلطان فيه للروح الذي يودّ أن يسمو بالرجل والمرأة الى حيث يصبحان الإنسان الكامل، الموحّد، والأقوى من أي شهوة. وقد أصابت ثريا ملحس في وصف مسيرة نعيمة مرحلة مرحلة بمختصر مفيد إذ قالت، "أحبّ نعيمة نفسه أولاً ـ ولعلّ هذه النرجسية أو حبّ الذات أولى درجات الحبّ وأولى خطوات معرفة الذات ـ فأحبها وكرّمها، وهذّبها، ثم إنطلق من بعد الى الإنسان، ثم الى الله، فالخليقة، فالوجود".لقد آمن نعيمة بقوة العفة المطهّرة وآمن بأن العفة ـ زنبقة الفضائل ـ لا تطلع إلا بعد جهدٍ جهيد، وتكون حصيلة صراع واعٍ عنيف مع شهوات النفس.وقد كانت حياة نعيمة وأدبه ميداني تطبيق لما آمن به. من الحب الى المحبة: هذا هو a نعيمة في حياته وفكره. قال مرداد: "إنّ محبة الرجل للمراة والمرأة للرجل ليست بمحبة. إن هي إلا رمز بعيد لها. فالى أن يصبح كل رجل حبيب كلّ إمرأة والعكس بالعكس، دعوا الرجال يتبّجحون بإنجذاب اللحم الى اللحم والتصاق العظم بالعظم من غير أن يتلفظوا بإسم المحبة القدوس.ما المحبة؟ وكيف فرّقها نعيمة عن الحب؟ الفرق بينهما كالفرق بين الشعر والنظم: الروح هي الجوهر. قال في كتابه (النور والديجور): إنما النسل المصهر الحسي للرجل والمرأة، والمحبة هي المصهر الروحي للرجل والمرأة. إنني أشتم في كلمة المحبة أريج الألوهة المنزّهة عن اللحم والدم. وأما كلمة الحب فتفوح منها روائح الغرائز الحيوانية التي ليست سوى الممهّد الى المحبة المتسامية عن كل شوق غير شوق الفناء في من تحب. وفي كتابه يا إبن آدم يوضح فيقول:أقرب ما تتمثل فيه المحبة بين الناس محبة الأمّ.. أما محبة الرجل للمرأة، ومحبة المرأة للرجل فليست من الصفاء والشمول بحيث تستحق إسم المحبة، فهي، في الغالب، ثورة في اللحم والدم تؤجّجها شهوة التمتع والتملك والأثرة وتلازمها أكدارٌ كثيرة أبرزها الشك والغيرة وصراع بين أنانيتين. وهو إذ يقول: المحبة هي وحدها الإكسير العجيب الذي به تتماسك الحياة، وعناصر الكون أربعة: م.ح.ب.ة يؤمن بأن المحبة هي الله والحياة، وبأن الله محبة وحياة، ويقترب من المفهوم المسيحي لله وللمحبة. فإنّ المحبة ـ في المسيحية ـ هي أعمق تحديد لله وشريعة المحبة هي الشريعة الجديدة التي أتى بها الإنجيل.لم يعفّ نعيمة ولم يتزهد يأساً أو تزمتاً أو خضوعاً لسلطة خارجية ـ هو الذي ثار على تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية وتقاليد الدين والأخلاق لأنها قيدت حريته بقيود دينية وأخلاقية، خصوصاً وأنه تعلم في كلية لاهوتية ببولتافا سنواتٍ خمساً، ورأى من غوايات المحيط الجديد ما يتنافى وتربيته الدينية الصارمة ـ وإلا لكانت عفته مرضاً لا فضيلة. لقد عفّ نعيمة بعد تجربته، وتزهد بعد معرفة وإقتناع وإلتزام حرّ.وفي موقفه هذا إجلالٌ للحياة وإكبارٌ للدنيا واللآخرة.