كيف جرت الانتخابات النيابية في ظل انقلاب بكر صدقي؟

كيف جرت الانتخابات النيابية في ظل انقلاب بكر صدقي؟

■ د. فاضل محمد رضا
برزت ظاهرة جديدة في تاريخ العراق الحديث إلا وهي دخول الجيش إلى المعترك السياسي وذلك نتيجةً ازدياد عنصر الشباب المتعلم من خريجي الكلية العسكرية الذين أتموا تدريباتهم تحت الإشراف البريطاني، وشغلوا بالتدريج مواقع الضباط القدماء الذين تخرجوا من تركيا، متأثرين بالنجاح الذي أحرزه الجيش التركي بقيادة مصطفى كمال في نهضة تركيا وتقدمها،

ونجاح انقلاب رضا شاه في إيران، يضاف إلى ذلك كثرة استعمال الحكومة الجيش لتسوية النزاعات السياسية, وقمع الحركات المناوئة كالحركة الاثورية في 1933، وحركة اليزيديين, والبرزانيين, والحركات العشائرية في وسط العراق وجنوبه في 1935-1937، التي أضعفت الحكومة ، وقللت من هيبة رجال السياسية في نظر ضباط الجيش، الذين شعروا تدريجياً بزهو النصر الذي حققوه في قمع حركات التمرد.
ظهرت أهمية الجيش في إيجاد التوازنات السياسية، وشعر العسكريون بقابليتهم في السيطرة على الأمور السياسية, وإدارة مقاليد الأمور إيماناً منهم بأفضلية خدمة الجيش للوطن بدلاً من السياسيين الذين تزعزت ثقة الشعب بهم بسبب الصراعات القائمة بينهم, وتفضيل مصالحهم الشخصية على مصلحة الأمة، وأدى بعض رجال السياسة دوراً كبيراً في تشجيع بعض رجال الجيش للتدخل في السياسة، واستخدامهم أداة لتقوية مراكزهم من جهة, وإزاحة خصومهم السياسيين من جهة أخرى، ومن أبرزهم حكمت سليمان الذي كان يتمتع بعلاقة طيبة مع بكر صدقي الذي سطع نجمه بعد الانتصارات التي حققها في قمع الحركات المناوئة للحكومة، مما جعل بعض السياسيين متسابقين لتقوية علاقتهم به وكسب وده، وقد ساعدت هذه العوامل لأول مرة إلى ظهور تكتلات سياسية داخل الجيش تختلف بعضها عن بعض في الأهداف والاتجاهات والمفاهيم السياسية ومن أهمها كتلة الضباط القوميين وكتلة بكر صدقي, وكتلة توفيق حسين, وكتل سياسية أخرى.
أدت سياسة الهاشمي إلى ازدياد سخط الناس, وتعاطفهم مع المعارضة، في الوقت الذي اتجهت فيه المعارضة إلى الملك لبيان شكواها من بعض الجوانب السلبية في سياسة الهاشمي، فرفع جعفر أبو التمن, وحكمت سليمان, وكامل الجادرجي احتجاجاً إلى الملك عرضوا فيه ما آلت إليه الأمور من انحطاط في جميع الميادين بسبب سياسة الوزارة، وطلبوا منه (( أن يضع حدّاً لهذه المأساة بوصفه حامي الدستور في البلاد)) ، ورفع مجموعة من السياسيين عريضة إلى الملك انتقدوا فيها سياسة الحكومة التي أثارت سخط الناس ، طالبين من الملك اتخاذ الطرائق اللازمة للتحقيق في العوامل, والأسباب التي أدت إلى أثارة الفتن المتعاقبة, وقد وجدت هذه المعارضة إذاناً صاغية من الملك في الاستماع لشكاواهم ونجحت في تعميق الخلاف بين الملك, وياسين الهاشمي في إثارة مخاوف الملك من احتمال قيام الهاشمي بدكتاتورية عسكرية. لذلك اتجه الملك إلى الاجتماع ببعض الضباط الطموحين في الجيش معرباً لهم عن انزعاجه من سياسة الهاشمي، محرضاً اياهم على العمل ضد الحكومة، كونهم أمناء على العرش كما يذكر توفيق السويدي، ويبدو أن الملك اراد الاعتماد على الجيش بالتخلص من وزارة ياسين الهاشمي بعدما اتسعت شقة الخلاف بينهما، لاسيّما حينما فكرّ الهاشمي بخلع الملك واعلان (الجمهورية بالتنسيق مع السفارة البريطانية) وقد اتضح ذلك من خلال التقرير البريطاني المرفوع إلى وزارة الخارجية البريطانية عن جولات الهاشمي إلى شمال العراق في 15-24 أيلول 1936 التي استفزت الملك في محاولة من الهاشمي لسرقة شعبية الملك.
أبلغ رئيس مجلس النواب محمد زكي الملك تذمره من سياسة الحكومة وأنه سيستقيل لو استمر الهاشمي بسياسته هذه ، مما جعل الملك يصرح بضرورة إجراء تعديلات وزارية، فضلاً عن أن وزارة الهاشمي قد فقدت الانسجام بين أعضائها لوجود سياستين تتجاذبان الرأي فيها، إذ كان ياسين الهاشمي, ورشيد عالي الكيلاني في طرف، ونوري السعيد, وجعفر العسكري في الطرف الآخر، وقد أبدى جعفر العسكري تذمره من الوزارة في المجالس الخاصة، لذا قرر الهاشمي إخراجه من الوزارة وإرساله سفيراً في بريطانيا، إلا أن نوري السعيد استطاع إحباط قرار الهاشمي، وكان نوري السعيد كثير الانتقاد للوزارة دائم الطعن فيها أيضا على حد قول طه الهاشمي.
أدرك الهاشمي حجم الانتقادات الموجهة إليه والاستياء والتذمر من سياسته فحاول الالتفاف على العناصر الساخطة عليه, واحتوائهم، فسعى إلى إشراك حكمت سليمان في وزارته فأرسل نوري السعيد لتحقيق هذه الغاية ،الاّ أنّ حكمت سليمان رفض الاشتراك على الرغم من إعلان الهاشمي استعداده بتكليفه في وزارة الداخلية.
وبدلاً من ان تستعمل العشائر التي أنهكتها ضربات الهاشمي، لجأ الساسة المعارضون إلى الجيش كوسيلة جديدة لإسقاط الوزارة ، فبدأ التنسيق والتعاون بين المعارضة المدنية والعسكرية لإسقاط وزارة الهاشمي، وكان ثمرة هذا التعاون المدني – العسكري بين جماعة الأهالي, والفريق بكر صدقي ((انقلاب بكر صدقي في 29 تشرين الأول 1936)). بعد ان تبلور التنسيق بين بكر صدقي, وجماعة الأهالي,تقرر ان يرافق تقدم الجيش نحو بغداد توزيع منشورات على الناس بالطائرات يعلن فيها عن أسباب الانقلاب وأهدافه، وتوجيه كتاب إلى الملك بواسطة حكمت سليمان يطالب فيه بأقالة الوزارة في مدّة محددة وينذر باستعمال القوة في حال امتناع الوزارة، وقد وضع جماعة الأهالي صيغة المنشور, والكتاب الذي سيوجه إلى الملك، وأمهل القائمون بالانقلاب وزارة الهاشمي ثلاث ساعات لتستقيل، في حين اجتمع في دار كامل الجاردجي كل من حكمت سليمان ومحمد حديد وجعفر أبو التمن لوضع قائمة بأسماء الوزراء الذين سيشكلون الوزارة في حال نجاح الانقلاب ، وفي الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم 29 تشرين الأول ألقت ثلاث طائرات عدداً من المنشورات، وبناءً على المدة التي حددها قادة المعارضة في حال عدم استجابة الهاشمي ألقيت في الساعة الحادية عشرة والنصف الطائرات أربع قنابل، مما عجل في استقالة وزارة الهاشمي ، فقدم استقالته في 29 تشرين الأول مرغماً وأصدر الملك إرادته بقبول الاستقالة في اليوم ذاته.
وعلى أثر استقالة وزارة الهاشمي اتصل رئيس الديوان بحكمت سليمان ليبلغه دعوة الملك له بتأليف الوزارة الجديدة التي ضمت عدداً من زعماء جماعة الأهالي أمثال كامل الجاردجي, وجعفر أبو التمن، والعناصر التقدمية التي يسندها ضباط الجيش، ولأول مرة تتألف وزارة من واجهة شعبية على حد قول اليعازر بيري، حتى وصفت بأنها من أقوى الوزارات التي قامت في العراق.
تباينت الآراء بشأن الانقلاب العسكري في العراق لوصفه سابقة جديدة في تاريخه السياسي، ويعتقد الباحث أن الانقلاب له خصوصية اجتماعية أكثر مما هي عسكرية ممزوجة برغبة شخصية لبعض السياسيين الذين يطمحون في الوصول إلى سدة الحكم وتنحية جماعة قد استأثرت في الحكم وتعسفت في وسائل تطبيقه.
حل المجلس النيابي جاءت وزارة الهاشمي الثانية بالمجلس النيابي القائم, وقد وجهت المعارضة طعوناً مختلفة للانتخابات التي أجرتها الوزارة في ظروف استثنائية تجاوزت فيها القانون وتحدّت الدستور واستهانت بالدماء, واضطهدت الحريات, وأغلقت الصحف, وأعلنت الأحكام العرفية ، في الوقت الذي أعلنت فيه حكومة الانقلاب بان من أهدافها إحلال الطمأنينة في النفوس, ورفع الحيف, وإصلاح الوضع القائم وعلى رأس ذلك حلّ المجلس النيابي الذي جاءت به وزارة الهاشمي لتضمن كتلة نيابية موالية لها حتى تستطيع تنفيذ خططها الإصلاحية، كانت الأصول الدستورية تقضي أن يسود التآزر بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، فاستصدرت وزارة حكمت سليمان في 31 تشرين الأول 1936 إرادة ملكية تقضي بحلّ المجلس لتتمكن الوزارة من القيام بأعمالها الإصلاحية ، ولمّا كانت المادة (40) من القانون الأساسي تنص على عدم جواز حل المجلس النيابي للأسباب نفسها التي حل بها المجلس السابق وقد حددت هذه المادة حق الحل, والأسباب التي تستند إليها الوزارة في ذلك، وقد استفتى عبد الرزاق الحسني, خبير الدستور, والمشارك في وضعه ورئيس الوزراء الأسبق, ناجي السويدي في هذا الإشكال فكان رأيه في حل المجلس قبل التئامه في أثناء مدة تعطيله, وقبل ان تجابهه الوزارة ومن غير أن تعلن عن خططها وأفكارها التي تنوي تنفيذها مخالف للأسس الدستورية، في حين استعرض حسين جميل, السياسي والقانوني المعروف ومن المسهمين في تأسيس جماعة الأهالي, الوقائع التي حلت بها المجالس السابقة والأسباب التي دعت إلى الحل، وناقش رأي ناجي السويدي مبيناً أن الدستور يعتمد في تفسيره على قصد الشارع, وقصد الشارع في المادة (66) من الدستور العراقي هو أن من حق مجلس النواب إسقاط الوزارة ، يقابله حق الوزارة في حل مجلس النواب، لكي يتحقق التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولذلك أقرّ القانون الأساسي العراقي في المادة (26) حق الملك في حل مجلس النواب، وهذا لا ينطبق على الحالة التي ذكرها ناجي السويدي فالنص الدستوري صريح ولا يحتاج إلى تأويل.
كانت جماعة الإصلاح (الأهالي) جزءاً أساسيا من الحكومة الجديدة, وبعد حل المجلس نشطت الجماعة في الإعداد للانتخابات, وتهيأ الرأي العام للمشاركة الفاعلة فيها, فدعوا أولا إلى إجراء الانتخابات بالطريقة المباشرة مبينين فوائدها في الاطلاع على رغبات الشعب، وحثوا الشعب على المشاركة الفاعلة في الانتخابات لضمان مجيء نواب يمثلهم تمثيلاً حقيقياً، وكتبت جريدة الأهالي مقالاً بعنوان (( في الإصلاح السياسي)) أشارت فيه إلى أن الانتخابات يجب أن تكون مباشرة إذا أريد منها اكتشاف رغبات الشعب وانتخاب من يمثلونه تمثيلاً حقيقياً ويحرصون على خدمته، وانتقدت نظام الانتخاب غير المباشر, لأنه من مخلفات عهد الانتداب، وأنّه لم يعد ملائماً للتطور السياسي, والثقافي الذي وصل إليه الشعب، وطالبت مرشحي المجلس النيابي الجديد نشر مناهجهم, وخططهم لمعالجة المشاكل العامة والمشاريع التي سيعملون على تحقيقها، ليقدموا هذه المناهج إلى الناخبين لكي يكون انتخابهم على أساس صحيح، وفي الوقت نفسه يكونون مسؤولين تجاه ناخبيهم عن الوعود التي قطعوها للشعب وانتخبوا على أساسها، وأكدت جريدة الأهالي في مقال أخر على ضرورة اطلاع الناخبين على أهداف المرشحين للنيابية كونها من العوامل الأساسية التي تنشط الانتخابات, وتجعلها جارية على أساس المبادئ لا الأشخاص، وبذلك تفعَّل حركة المجتمع تجاه القضايا العامة وتهيئ أفكار الناس إلى الاشتراك في المسؤولية التي حرموا منها في السنوات الماضية التي جرت العادة على ان ينتخب فيها على وفق رأي الفئة الحاكمة من غير أن يكون للآهلين رأياً فيها، فكان الذين يؤتى بهم إلى المجلس صدىً للذين في الحكم، ممّا أدى إلى شل الحياة النيابية في العراق وعزوف الناس عن المشاركة في الانتخابات.
دعت جماعة الأهالي إصلاح النظام الانتخابي والحياة النيابية وصولاً إلى إصلاح الحياة السياسية بشكل عام، ولذلك دعوا إلى الأخذ بالانتخابات المباشرة والدوائر الفردية وحرية الانتخابات وفسح المجال لممارسة حق التنظيم السياسي, وتأليف النقابات, والمنظمات الشعبية إلا ان دعوتهم هذه لم تحضَ برضى بكر صدقي, وحكمت سليمان اللذين عَدّا الانتخابات الحرة المباشرة ستؤدي إلى رجوع عدد من النواب المؤيدين للعهد السابق هذا من جهة، ومن جهة أخرى راودت بكر صدقي المخاوف من الإصلاحيين وضباط الجيش القوميين.
دعا بكر صدقي إلى اجتماع في داره حضره عدد من ضباط الجيش وبعض القوميين في أواسط شباط 1937 ولم يحضره أحد من الإصلاحيين، لإعداد قوائم بأسماء المرشحين لمجلس النواب الجديد، وكان غالبية الحاضرين من مؤيدي بكر صدقي الذين حرضوه ضد الإصلاحيين، ممّا جَعَلَ بكر صدقي يفكر بالحدّ من نشاط الإصلاحيين ومنعهم من الحصول على أي مقعد نيابي ، ولولا تدخل جعفر أبو التمن وحكمت سليمان في محاولة لإقناع بكر صدقي بالعدول عن فكرته مذكرين بدور الإصلاحيين الفاعل في الانقلاب لما تراجع عن رأيه.
أمّا الحزب الشيوعي الذي أيّد انقلاب بكر صدقي وقاد مظاهرات كبيرة لإسناده ورفع شعارات معادية للفاشية، فقد وجد الشيوعيون في بداية حكومة حكمت سليمان مجالاً أكبر لحركتهم, ونشر أفكارهم، إلا أنّ تغيير الوضع السياسي واستبداد بكر صدقي, وخروج الانقلاب, عن أهدافه الإصلاحية المعلنة، الذي أدّى إلى ظهور اتجاهين في المحيط السياسي الجديد: الاتجاه الأول اليميني الدكتاتوري، والاتجاه الثاني المتطرف اليساري الذي يمثله عدد كثير من التقدميين من جماعة الأهالي والشيوعيين، مما أثار بكر صدقي, ولاسيّما بعد اتساع نشاط الشيوعيين, وتغلغلهم في الجيش مما حَمَّله على أنْ يشنَّ حملة قاسية ضد اليساريين عموماً، أدّت إلى مقاطعة الشيوعيين للانتخابات وتوجيه أنصارهم بشكل سرّي إلى انتخاب العناصر الإصلاحية من جماعة الأهالي.

سير الانتخابات ونتائجها
حدّدت وزارة الانقلاب يوم 10 كانون الأول 1936 موعداً لبدء انتخاب المجلس النيابي الجديد على ان تنتهي قبل يوم 20 شباط 1937، وأصدرت وزارة الداخلية أوامرها إلى متصرفي الألوية باتخاذ الإجراءات اللازمة لتهيئة الأمور الأولية لعملية الانتخاب إذ بدأت الهيئات الاختيارية في كل محلة بانتداب خمسة اشخاص من بين سكانها تمهيداً لانتخاب الهيئات التفتيشية ليجتمعوا في 25 كانون الأول 1936 وينتخبون بالرأي الخفيّ أعضاء الهيئة التفتيشية طبقاً للمادة (29) من قانون انتخاب النواب لسنة 1924، فاجتمع الذين ترشحوا عن محلات بغداد في رويال سينما لينتخبوا الهيئة التفتيشية فأسفرت النتيجة عن فوز خمسة عشر شخصاً بأغلبية الأصوات، وقد باشر المنتخبون أعمالهم فعقدوا اجتماعهم الأول في أمانة العاصمة واتخذوا قرارات تمهيدية بشأن الانتخابات، وجرى انتخاب أعضاء الهيئة التفتيشية في لواء البصرة وبعد فرز الآراء تشكلت الهيئة التفتيشية برئاسة الحاج حسون علي، وقد بوشر بانتخاب الهيئة التفتيشية في بقية أقضية ونواحي اللواء، ووجه رئيس بلدية بعقوبة بوصفه رئيساً للوحدة الأدارية الدعوة إلى مختاري المحلات, ووجهائها للحضور في بناية البلدية لانتخاب الهيئة التفتيشية المشرفة على الانتخابات والشروع في إعداد قوائم الناخبين الأوليين، وكان شباب المنطقة أكثر استعداداً لخوض المعركة الانتخابية والتمتع بهذا الحق الدستوري بروح مشبعة بالحرية، وشجعت جريدة الحارس مشاركة الشباب في انتخاب كتلة وطنية تضّم عناصر قويّة وفاعلة لها ماضٍ مجيد في خدمة الوطن المقدس، في حين كتبت جريدة الأهالي مقالة بعنوان (( ملاحظات حول الانتخابات الجارية)) أشارت فيه إلى كيفية إجراء الانتخابات في السنوات الماضية حيث يبقى الشعب مكتوف الأيدي تجاهها لعدم أهميتها له، لأن الحكومات كانت تتولى تعيين النواب، فكان يرى الناس من العبث ان يصرفوا وقتهم وجهودهم في أمر هو واقع حال مفروغ منه بالنسبة للحكومة،
اجتمعت الهيئات التفتيشية ودققت قوائم أسماء الناخبين، ثم أعلنت عنها وعُلّقت في الأماكن الملائمة لاطلاع الآهلين عليها، ثم حددت موعد الانتخابات ومكانها لكل محلة، وقد جرى انتخاب الناخبين الثانويين في العاصمة في 24 كانون الثاني 1937 واستمر إلى يوم 30 كانون الثاني, إذ أدت الهيئاة التفتيشية دورا كبيرا في تزييف إرادة الناخبين، فكتبت جريدة الأهالي مقالاً تحت عنوان ((اللجان التفتيشية وأثرها في الانتخابات)) انتقدت فيه طريقة انتخاب الهيئات التفتيشية التي تتوقف عليها صحة الانتخابات لأشرافها على سير الانتخابات سيراً ديمقراطياً، إذ إن اختيار المختار, وبضعة أشخاص من المحلّة وذواتها لانتخاب الهيئة التفتيشية يدلّ على أن متنفذي المحلات هم الذين يعينون في الهيئات التفتيشية ويعدّون بحد ذاتهم موظفين لأمانة العاصمة أو البلدية، وبهذا ينحصر التعيين في جماعة خاصة مما يؤثر سلباً على سير الانتخابات, وعدم حياديتها ، إذ ترشح هذه اللجان من ترغب فيهم أو ينتخب إفراد هذه اللجان أنفسهم, وبذلك تضيع حقوق الشعب في ممارسة دوره الديمقراطي في الانتخاب، واقترحت ان تكون الهيئات التفتيشية بعيدةً من تأثير الموظفين الحكوميين والمتنفذين بطريقة يجري انتخابها بأشتراك المنظمات المحلية, والجمعيات, والأحزاب فيها، وأكدت حرصها على سير الانتخابات في تقديم هذه الملاحظات لضمان مشاركة اكبر.
تقرر ان تجرى انتخابات النواب في أنحاء العراق كافة في 20 شباط 1937 وقد ابلغت وزارة الداخلية متصرفي الالوية وامرتهم باجراء الانتخابات كل بحسب وسائله وظروفه، على ان تكون النتائج مطابقة لما ورد في قائمة وزارة الداخلية المبلغة من طريق الهاتف وفي كتب سرية. فدعا أمين العاصمة (رئيس الهيئة التفتيشية) المنتخبين الثانويين إلى الحضور في رويال سينما في 9.30 صباحاً لانتخاب النواب عن لواء بغداد، وبعد انتهاء الانتخابات فُرزت الأصوات وأعلنت أسماء الفائزين.
جرت الانتخابات على قاعدة إرضاء بكر صدقي، والجيش والإصلاحيين وشيوخ العشائر والرغبات الشخصية للوزراء، ومصالح الجماعات المتنفذة. وكان المجلس يضم 108 نواب ثلثهم من النواب السابقين، وثلثين لم يكونوا نواباً في المجلس السابق، وبذلك استطاعت وزارة حكمت سليمان من ابعاد النواب المساندين للحكومة السابقة، وكان حصة مرشحي بكر صدقي ثلاثين مقعداً, في حين حصل جماعة الإصلاحيين على اثني عشر مقعداً، وتوزعت بقية المقاعد بين القوميين, وشيوخ العشائر والتجار وعدد من المثقفين.
وبهذا يكون الاصطلاحيون قد حصلوا على عدد ضئيل من المقاعد النيابية بالقياس الى ما حصلت عليه الحكومة، وهذا لا يرضي طموح الإصلاحيين أمثال جعفر أبو التمن وكامل الجادرجي اللذان أرادوا ان تجري الانتخابات بصورة حرة ومن دون أي تدخل، إلا إنهما لم يفقدا الأمل على الرغم من قلة المقاعد النيابية التي حصلوا عليها ووقفوا في المجلس النيابي الجديد بقوة مطالبين بتنفيذ مشاريعهم الإصلاحية.
صدرت الأراده الملكية بدعوة مجلس ألامه وعقدت الجلسة الأولى يوم السبت الموافق 27 شباط 1937، افتتحها الملك بخطاب العرش الذي أشار فيه إلى الحالة المؤلمة التي اجتازتها البلاد حتى 29 تشرين الأول 1936 بسبب سوء التصرف الذي لازم الحكم الذي انتهى بانقلاب تآزر فيه الجيش مع الشعب فتألفت الوزارة الحاضرة التي أعلنت عن منهاجها, ورأت أن البلاد تستدعي العطف فاستصدرت عفواً عاماً عن جميع المحكومين الذين حكمتهم المحاكم العرفية، وأكّد على جهود الحكومة في تعزيز قوة الجيش لتأمين حالات الدفاع عن المملكة وتحسين الوضع الاقتصادي, وتنفيذ المشاريع اللازمة, وتوزيع الأراضي الأميرية على المزارعين الحقيقيين، ساعية لإكمال تنظيم جميع المؤسسات في البلاد وتوزيع العدل بين أفراد الشعب، داعياً لهم بالتسديد والصواب.
ترأس الجلسة اكبر الأعضاء سناً قاسم الخضيري – نائب العمارة- وأدى أعضاء مجلس النواب اليمين القانوني، وجرى انتخاب ديوان الرئاسة فانتخب فخري الدين جميل رئيساً بعد أن أحرز (101) صوت، وفاز النائب محمد علي محمود نائباً أولا لحيازته (98) صوت، ثم أحرز النائب صادق كمونة (87) صوتاً ليكون النائب الثاني.