من ملامح توسع بغداد وتطورها قبل ثمانين عاما

من ملامح توسع بغداد وتطورها قبل ثمانين عاما

■ حيدر عطية كاظم
تقع مدينة بغداد، التي يعود تأسيسها إلى القرن الثامن الميلادي منتصف القرن الثاني الهجري، على نهر دجلة، يشطر هذا النهر الخالد بغداد، إلى شطرين أو جانبين، الجانب الذي يقع على ضفة النهر اليسرى يسمى الرصافة، والذي يشكل حوالي ثلاثة أرباع بغداد،

أما الجانب الأيمن منها فيعرف بالكرخ. بلغ عدد سكان مدينة بغداد، التي كانت تقدر مساحتها بسبعة كيلومترات مربعة وتحيط بها البساتين من معظم جهاتها، في بداية تأسيس الدولة العراقية المعاصرة وتحديداً في سنة 1921، حوالي 200 ألف نسمة، 150 ألف منهم في جانب الرصافة والخمسين ألف الأخرى ضمهم جانب الكرخ.
لابد من الإشارة هنا، أن أول تصميم أساس لمدينة بغداد في تأريخها الحديث يعود إلى العام 1920، عندما وضع المهندس المعماري البريطاني "جي. أم. ويلسون" (G.M.Willson)، تصميماً أساسياً، اقترح فيه إعادة تنظيم المدينة واستحداث وحدات وأحياء سكنية في عدد من مناطق بغداد .
مرت بغداد منذ انبثاق الحكم الوطني بمراحل نمو وتوسع ملحوظين، شأنها في ذلك شأن أغلب العواصم في العالم، فقد شعرت الحكومات العراقية، التي لاحظت التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي شهدتها المملكة العراقية، بالحاجة إلى تكليف إحدى الشركات الهندسية الاستشارية سنة 1923 لوضع تصميم أساس لمدينة بغداد، ليكون خارطة تفصيلية يسير على ضوئها توسع بغداد التي استلزمتها تلك التطورات.
شهدت بغداد على أثر ذلك حركة عمران معينة، وظهور عدة أحياء في جانبي المدينة، فقد توسعت الأعظمية شمالاً وبمحاذاة النهر، كما توسعت الكرادة من جانبها على حساب البساتين التي كانت واقعة جنوبها، بينما تحول مجمع السكك الحديدية في الكرخ وما جاوره إلى أحياء عصرية تعج بالحركة والنشاط.
انتشرت في أواخر عشرينيات القرن الماضي ظاهرة جديدة تمثلت في سعي الكثير من المسؤولين بالاستحواذ على البساتين التي كانت تحيط ببغداد بطرق شتى بعدما لاحظوا ارتفاع أسعار الأراضي السكنية في بغداد، بهدف الحصول على أكبر مساحة ممكنة تحقيقاً للأرباح الكبيرة.
لقد ظهرت مع مرور الأيام والسنين أحياء ومحلات سكنية عديدة في بغداد. ففي سنة 1930 أنشأت محلة السعدون، وتوسعت الأعظمية توسعاً ملحوظاً، وتأسست محلتا راغبة خاتون، وهيبة خاتون، كما امتدت محلة باب الشيخ إلى أكثر من جانب، أما الكرادة الشرقية فقد نمت سنة 1933 نمواً كبيراً وبنيت فيها مئات القصور، وشقت الشوارع الواسعة فيها بعد أن كانت بمثابة قرية صغيرة ضمت بعض القصور لأغنياء بغداد. وعلى أطرافها كانت هناك مساكن من اللِبن. ولا بأس من القول هنا، إن توسع بغداد ونموها في ثلاثينيات القرن الماضي كان باتجاه الشمال والجنوب أيضاً، ولكن بمحاذاة نهر دجلة، غير أن ذلك لم يكن مبنياً على الخطط الهندسية العلمية وإنما، كان أقرب إلى العشوائية. ولكن مع ذلك، أخذت تظهر في بغداد وابتداءً من ثلاثينيات القرن العشرين أحياء جديدة امتازت بطراز معماري جديد إذا لم نقل غريباً، امتازت بضخامة بيوتها وكثرة عدد الغرف فيها، فضلاً عن تكون بعضها من طابقين. وهكذا ظهرت ضاحية الوزيرية، بعد أن جرى تقسيمها إلى أراضي سكنية، كما شهدت الفترة ذاتها تطور منطقة العيواضية على ضفاف نهر دجلة، ونتيجة لذلك التوسع ظهرت في جانب الرصافة من مدينة بغداد ضواحٍ وأحياء سكنية جديدة.
حتم ازدياد عدد سكان بغداد، على استمرار تمدد أحياء بغداد السكنية، لاسيما نحو جنوب الرصافة. كما أدى اتساع ظاهرة استخدام السيارات فيها إلى فتح عدة شوارع أهمها شارع غازي (الكفاح) الذي شق سنة 1936. ومما يلفت النظر هنا، أن البعض بدأ باستثمار أمواله في إنشاء العمارات الحديثة والمساكن الواسعة.
وأياً كان الحال، فقد ظهرت في أربعينات القرن الماضي أنماط حديثة من البيوت في مدينة بغداد، كانت تختلف بعض الشيء عما كان موجوداً فيها، وهو نمط البيوت المتصلة وذات المساحات الكبيرة نسبياً تصل إلى أكثر من 300م2، وتحيط بها حدائق خاصة في مقدمتها، ويعد هذا النمط من البيوت هو التوسع الثاني في مدينة بغداد كما يؤكد أحد الباحثين.
لقد ظهر ذلك النوع من العمران في محلات البتاوين، والعلوية، وكرادة مريم، ومحلة هيبة خاتون، في الأعظمية، إلى جانب ذلك كله، أخذت الدور الراقية ترتفع في منطقتي الوزيرية، وبارك السعدون، والمنطقة الممتدة ما بين الأعظمية وبغداد القديمة، على شكل شريط ممتد مع النهر. دفع ذلك التوسع الذي شهدته بغداد أمانة العاصمة بمحاولة القيام ببعض المشاريع الخدمية، كفتح بعض الشوارع، وبناء شبكات الماء الصافي، وإنشاء شبكات المجاري في بعض الأحياء، حسبما تؤكد أحدث دراسة أكاديمية عن بغداد.
وبحكم هذه الحقيقة، تم فتح الشارع العرضاني لجسر الملك فيصل الأول (جسر الأحرار حالياً) ، وشارع المهدي في الكرادة، وشارع بني سعيد، وشارع زيد بن ثابت، فضلاً عن إنشاء شبكة من الشوارع في باب الشيخ، وشارع عمودي متصل بشارع أبي نؤاس. من جانب آخر، أُنشىء مجرى للمياه القذرة تبدأ من محلة باب السفينة في الأعظمية حتى نهر دجلة، وتم إنشاء مجرى للمياه القذرة والأمطار في جانبي شارع الملك غازي ابتداءً من ساحة زبيدة حتى ساحة الفضل.
لاحظ أحد الدارسين لتطور ونمو مدينة بغداد العمراني أن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) تميزت بوجود رغبة عند بعض البغداديين في تشييد دور لهم في الضواحي المحيطة ببغداد، التي كانت في الأصل بساتين والتي كانت تمتد على ضفتي نهر دجلة في جانبي الرصافة والكرخ، كان في مقدمتهم الملاك، وعدد من شيوخ العشائر وكبار موظفي الدولة، إذ قاموا بإبتياع مساحات كبيرة، ولم يكن هدفهم تحقيق الأرباح بعيداً عن مخيلة أولئك البغداديين.
تشير المعلومات المتوفرة بين أيدينا إلى أن بعض الملاك لم يكتفِ بالأرباح الكبيرة التي حققها من جراء ذلك وإنما، أخذ بالاتفاق مع من لا يملك سكناً، على أن يبني المحتاج إلى سكن، داراً يسكنها كمؤجر ولمدة ثلاثين سنة يدفع خلالها بدل إيجار عن الأرض فقط، وبعد انقضاء المدة تعود الدار إلى صاحب الأرض، وهو ما عرف في بغداد ب "العرصات" التي سرعان ما ظهرت في كمب الكيلاني وكرادة مريم والكسرة وغيرها.
لا نجانب الحقيقة إذا ما قلنا هنا، إن تهافت كبار ملاك الأراضي والتجار وغيرهم على شراء الأراضي الواسعة حول مدينة بغداد أدى إلى ارتفاع أسعارها ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في تاريخ المدينة المعاصر، فقد وصل سعر المتر المربع الواحد، الذي كان سعر شرائه أقل من خمسين فلساً، إلى دينار، أي أن أسعار الأراضي السكنية قد ارتفعت حوالي 20 ضعفاً، كما يذكر أحد المعاصرين.
ظهرت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية محاولات لبناء أحياء جديدة في مدينة بغداد، فقد أسست شركة خاصة لإنشاء الدور الحديثة، عندما أتفقت مجموعة من أصحاب الأموال من عراقيين ومصريين على تأسيس شركة خاصة بإنشاء الدور، عرفت بشركة بغداد الجديدة على غرار شركة مصر الجديدة. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن شركة بغداد الجديدة اعتمدت تصاميم لمدينة نموذجية وضعها حسن فتحي وهو أشهر المعماريين المصريين آنذاك، واتجهت لبناء الدور وتمليكها للراغبين، غير أن المحاولة لم يكتب لها النجاح، بسبب تعرض المنطقة للفيضان، ومنافسة الشركات الأخرى، لاسيما شركة المنصور التي اتجهت لبناء الدور في غرب بغداد، وهي شركة ذات حظوة عند البلاط الملكي، وكون المنطقة المذكورة قريبة إلى بغداد وبعيدة عن أخطار الفيضان .
كانت مدينة بغداد تضم في منتصف القرن الماضي عدة مناطق، أو ضواحي كبيرة، أهمها الواقعة على جانب الرصافة، مثل الأعظمية، المتكونة من أحياء تحتوي على البيوت المعاصرة والقصور الجميلة والحدائق الغناء، والكرادة التي احتوت على قصور تجار بغداد ووزراء الدولة وكبار موظفيها، وتجدر الإشارة إلى أن جانب الرصافة أحتوى على أحياء جديدة أهمها السنك. أما جانب الكرخ فقد ضم مدينة المنصور وما يتبعها من ساحة لسباق الخيل، وتليها عمارات مدينة المأمون التي أنشأتها المصارف الحكومية لذوي الدخل المحدود، والسفارة البريطانية التي تحولت المنطقة المحيطة بها إلى محلة سكنية. واحتوى جانب الكرخ على عدة مباني حكومية مثل قصري الزهور والرحاب. وشهد العقد الخامس من القرن الماضي بناء البلاط الملكي الذي أصبح القصر الجمهوري ومجلس الأمة الذي عرف فيما بعد بالمجلس الوطني.
ضمت مدينة بغداد من بين ما ضمت بين جنبات أحيائها، وحولها خاصة، خلف السدة الشرقية، بؤر أو قل أحياء من الصرائف، كانت تمثل عالماً آخر، أهم ما يميزه الفقر والحرمان من أبسط مستلزمات الحياة وشروطها.
بدأت الهجرة على شكل أعداد قليلة متسللة من لوائي العمارة والكوت، وبعض الألوية الجنوبية. سكن أولئك المهاجرون، الذين أخذوا يعملون في المهن الوضيعة كحضائر الخيول، في خانات منطقة الفضل، وببدل إيجار شهري قدره 25 فلساً ومع مرور الأيام ازداد وصول الفارين من نار الإقطاعيين إلى مدينة بغداد، لدرجة أن الخانات لم تعد قادرة على استيعابهم، فأخذوا يبنون لهم "مساكن" خاصة بهم في الفراغات الموجودة بين بيوت بغداد وأحيائها والمساحات العامة ولما كان الفلاح المهاجر لا يعرف سوى الصرائف التي اعتاد عليها في حياته السابقة من جهة، وقلة تكاليف موادها من جهة أخرى، فضلاً عن سهولة فتحها وطيها ومن ثم حملها إذا اقتضى الأمر،وعليه فقد أقدم الفلاحون المهاجرون على بناء صرائفهم في بغداد التي لم تختلف عن مثيلاتها في الريف، خاصة في طريقة بنائها ومساحتها التي لم تتجاوز الثلاثين متراً مربعاً في أفضل الأحوال، مع خلوها من الأثاث تقريباً ما عدا صندوقاً يضم ملابسهم، ونادراً ما تحتوي الصرائف على سرير حتى وان كان من سعف النخيل للمنام.
لقد ظهرت أول مجموعة صرائف بالقرب من محطة قطار شرق بغداد، وبمرور الأيام ازدادت الصرائف في تلك المنطقة التي أصبحت تسمى بمحلة الخندق. كان المحظوظ من سكان تلك المنطقة هو من وجد فرصة عمل في أحد المعامل القريبة خاصة معامل السكائر.
كما أدى قبول الجيش للمتطوعين من الفلاحين في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية إلى ظهور تجمع آخر من الصرائف في الكرخ بالقرب من معسكر الوشاش (منتزه الزوراء حالياً) عرف بـ"المعيدية". أياً كان الأمر، فإن "أحياء" الصرائف أخذت بالازدياد سنة بعد أخرى، فقد قدر عدد الصرائف في سنة 1940 بثمانية آلاف صريفة تأوي قرابة 40 ألف مهاجر.
أدى الاحتلال البريطاني الثاني للعراق سنة 1941، وتمركز القوات البريطانية في مدن العراق ومنها مدينة بغداد، إلى ظهور الحاجة الماسة للأيدي العاملة لإقامة معسكرات الجنود، وبناء الطرق، وكان ذلك بمثابة عامل مشجع للمظلومين من أبناء الريف بالهجرة إلى بغداد خاصة، فظهرت "أحياء" جديدة من الصرائف أهمها الشاكرية شمال قاعة الخلد بالكرخ التي تقدر مساحتها بـ25كم2 العائدة أصلاً لشاكر الوادي وزير الدفاع. ولما كان شلال المهاجرين مستمر فإن السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية شهدت ظهور منطقة أخرى للصرائف في الوشاش شمال مدينة المنصور الحالية .
وفي الوقت نفسه (1943) ظهرت واحدة من أهم أحياء الصرائف في مدينة بغداد ألا وهي منطقة "العاصمة" الواقعة شرق سدة ناظم باشا وتحديداً في المنطقة التي يشغلها مستشفى الجملة العصبية(حالياً) وجنوبه حتى بغداد الجديدة والتي تقدر مساحتها بـ15كم2 وكان بناؤها العشوائي وغير المنظم لا يختلف عن بقية أحياء الصرائف الأخرى، وكان جل سكان هذه المنطقة هم من العاملين في معامل الطابوق الواقعة شرق تلك المنطقة في مكان ليس بعيداً عن قناة الجيش الحالية.
ومما يجدر ذكره هنا، إن موظفي الدوائر الرسمية أطلقوا على منطقة العاصمة أسم "خلف السدة"،وكانت تتصل بالرصافة من ثلاث جهات رئيسية، جهة باب الشيخ، وجهة ساحة الطيران، فضلاً عن جهة القصر الأبيض. وغدت هذه المنطقة بعد اكتضاضها بالمهاجرين خلال سنوات الحرب العالمية الثانية وما تلاها محلات متلاصقة بعضها مع البعض، كل محلة سكنها أبناء عشيرة واحدة تقريبا، لكن مع ذلك علينا أن نسجل هنا، أن أولئك المهاجرين ولئن تحرروا نسبياً من بعض القيود العشائرية، فإنهم أقاموا علاقاتهم مع بعضهم ومع العشائر الأخرى على أساس النظم والتقاليد العشائرية.
إن الحديث عن صرائف منطقة "العاصمة" لا يتكمل إلا بالحديث عن "شطيط" (النزيزة) وهو عبارة عن نهير صغير لا يتجاوز عرضه المترين، كان يحاذي أسفل الجانب الشرقي من السدة مباشرة، ليمتد حتى مصب نهر ديالى، وكانت صرائف "العاصمة" واقعة على الضفة الشرقية لذلك النهير، الذي وجد أساساً لتخفيف الضغط على السدة في أوقات الفيضانات، وتحول مع مرور الأيام إلى نهر تصرف إليه المياه الثقيلة لأحياء باب الشيخ والبتاوين وبقية أحياء الرصافة، وكان عبارة عن مستنقع دائم للمياه الآسنة، وزاده سوءاً اتخاذه بعض أبناء تلك الصرائف مرتعاً لجاموسهم. ولم نبالغ إذا ما قلنا إن البعض من أطفال تلك المنطقة اتخذه "مسبحاً".
إلى شمال منطقة "العاصمة" ظهر تجمع آخر وكبير للصرائف والذي عرف بمنطقة "الميزرة" الواقعة شرق مجزرة الشيخ معروف، وقد بلغت مساحة هذه المنطقة، التي تشغلها حالياً كراجات ساحة النهضة والتي كانت بالأساس مقابر لليهود، بحوالي 10كم2.
ربما يكفي القول، إن اختيار المهاجرين إلى أراضي بغداد الواقعة شرق السدة، مكاناً لبناء صرائفهم كان بتأثير عدة عوامل وظروف، أهمها، إن إمكانية امتداد العمران إليها معدومة تقريباً، لتعرضها للغرق بفعل الفيضانات بين الفينة والأخرى . فضلاً عن ذلك فان تلك الأراضي إما زراعية أو موقوفة أو مهملة، ولا أحد يطلب منهم "المهاجرين" إيجاراً عندما يسكنوا فيها، كما لم يلعب وقوع الأراضي موضوع البحث بالقرب من أحياء بغداد الفقيرة دوراً قليلاً باتخاذها مكاناً لسكنهم. ولا ننسى أن نضيف هنا أن منطقة شرق السدة كانت مكتظة بالمعامل والمصانع والكراجات التي كانت تربط بغداد بالألوية الجنوبية، كما كانت فيها محطة قطار بغداد-كركوك، وعلاوي الخضروات والفواكه في بغداد.