مدارس الدومنيكان في الموصل ودورها الرائد

مدارس الدومنيكان في الموصل ودورها الرائد

■ د . فريال صالح عمر
شرع الآباء الدومنيكان بالعمل في ولاية الموصل سنة 1750 بعد أن وصلوها في تلك السنة، وقد اقتصر نشاطهم في أول الامر على بناء كنيستين كاثوليكيتين للكلدان والسريان، وقاموا أيضاً بتقديم الخدمات الطبية لسكان مدينة الموصل كافة.

ولم يبدأ الآباء الدومنيكان بإنشاء المدارس إلا في سنة 1854، حيث قاموا في تلك السنة بتأسيس عدد منها في مدينة الموصل، وفي قريتين قريبتين منها.فكان للآباء الدومنيكان في تلك الحقبة ثلاث مدارس للبنين، يبلغ عدد التلاميذ فيها 400 تلميذ ومدرستان للبنات تضمان 300 تلميذة، وإهتمت الإرسالية كذلك بفتح مدرستين في ضواحي الموصل، ومدرسة في (مار ياقو) وأُخريين في مدينة كركوك".
وفي ولاية الموصل بدأت الإرسالية الدومنيكانية نشاطها في مجال التعليم بفتح عدد من المدارس في العام 1854، ومن بينها مدرسة الآباء الدومنيكان الرشدية المختلطة ومدرسة ابتدائية مختلطة، ومدرسة البنات اليتيمات المسائية، ومدرسة اخوات المحبة الابتدائية للبنات وجميعها، كانت في مركز الولاية. فضلاً عن ذلك أسس الدومنيكان مدارس خارج مركز الولاية، في المدن والقرى التابعة لها، مثل المدرسة الابتدائية المختلطة في تلكيف. وامتد نشاط الدومنيكان التعليمي ليشمل "مدن كردستان مثل المدارس الابتدائية للبنين التي تم إنشاؤها عام 1867 في كركوك وزاخو وعقرة وقرقوش".
لقد كان الآباء الدومنيكان السبّاقين والرواد في فتح المدارس الحديثة في ولاية الموصل ومدن كردستان التي لم تشهد أي حركة لإنشاء المدارس الحديثة إلا قبل حلول القرن العشرين بسنتين، حيث يمكن ملاحظة التوسع النسبي في عملية إنشاء المدارس الابتدائية، خاصة عام 1898.
شجعت جهود الدومنيكان في مجال نشر التعليم في تلك المنطقة أبناء الولاية على المطالبة بفتح مدارس حديثة حكومية، فكانت ولاية الموصل أول ولاية في العراق تشهد افتتاح أول مدرسة ابتدائية حديثة حكومية قبيل حلول العام 1861، وبذلك تكون ولاية الموصل قد سبقت حتى ولاية بغداد التي لم تظهر فيها المدارس الابتدائية الحديثة إلا في العام 1886، أي بعد أكثر من ربع قرن على تأسيس مدرسة مدينة الموصل الابتدائية، إن الظروف التي أحاطت بتأسيس المدرسة الابتدائية تلك في الموصل تظهر أسباباً لا علاقة لها بخطط الدولة العثمانية في نشر التعليم، إذ أن الحكومة لم تبادر إلى تأسيس تلك المدرسة من تلقاء نفسها، فقد اتضح أنها أنشئت بجهود أحد أبناء المدينة، ولم يكن تأسيسها ضمن مخطط حكومي لنشر التعليم. ولعل جهود مجتمع مدينة الموصل متمثلة بعد وصول الآباء الدومنيكان الفرنسيين،إهتم الأب هياسنت بيسون (توفي عام 1861) حال وصوله الموصل، بجمع المدارس المبعثرة في نواحي المدينة في مدرسة واحدة نظامية لسهولة الإشراف عليها وإدارتها، دعيت باسم "مدرسة مار عبد الأحد" أي القديس عبد الأحد وجعلها ذات صفوف متعاقبة، إنتمى إليها التلاميذ من أبناء الموصل بمختلف مللهم. وتشير إحدى وثائق مدرسة القديس عبد الأحد إلى مدارس القرى، إذ تقول: "أن الأخوات الراهبات العراقيات اللواتي تم إعدادهن من قبل الإرسالية الدومنيكية في الموصل، يعملن في مدارس القرى ويقمن بتدريس حوالي 1000 طفل".
ومما كان يشجع الأطفال على المواصلة في الدوام لدى مدارس الدومنيكان سلوك المعلمين المعتدل داخل وخارج المدرسة، فقد نظمت مدرسة القديس عبد الأحد طريقة معاملة المعلمين للتلاميذ ضمن البند الخاص بالإدارة والهيئة التعليمية من قانون مدرسة القديس عبد الأحد الصادر في 15 آب 1930، والبند يحدد مسؤولية المعلمين وواجباتهم، ومن ثم يشرح كيفية تعامل المعلمين مع التلاميذ، إذ يؤكد البند مانصّه: "يتطلب من المعلمين جعل نصب عيونهم دائماً دور المهذب الذي يقومون به في نفس الوقت الذي يعملون فيه، لأجل ذلك يصرفون عنايتهم في التيقظ على النظافة وعلى حسن وضع الأولاد في هندامهم وفي الأشياء التي يستعملونها خصوصاً الكتب والكراريس، ويردعونهم عن كل مافيه سمة تهذيب رديء: التفوه بكلمات خشنة، قلة الإحترام لكل سلطة مهما كانت، ولكن ليتحاشوا عند تذرعهم بوسائل الردع التي يمنحهم إياها القانون كل ما من شأنه أن يوهم الأولاد بأن معلميهم يتصرفون معهم بغضب أو عدم صبر، وليمتنعوا من ضرب الأولاد ومن قذفهم إياهم بكلمات جارحة وبالأخص بالشتائم وماعدا ذلك فإن الإعتدال في إستعمال السلطة والإبتعاد عن كل دالة هما الواسطتان الحقيقيتان لحفظهم نفوذاً حقيقياً على الأولاد، ولحصولهم على محبتهم وإحترامهم معاً".
ويُطلب من المعلمين أن يكونوا مثالاً طيباً لسمعة المدرسة الدومنيكنية خارج المدرسة أيضاً، فيما أن "المثال هو أحد عوامل التهذيب الخصوصية فالمعلمون يسعون لأن يسلكوا في كل مكان سلوك رجال جديرين بشرف وظيفتهم حتى خارج المدرسة، فلا عجب إذا ماكان الأب المدير يهمه أمر معلّميه حتى خارج المدرسة بما أنهم في
كل مكان يحملون شرف وطيب سمعة المدرسة التي ينتسبون إليها".
ومما كان يشجع أولياء الأمور لإرسال أبنائهم إلى مدارس الدومنيكان هو مستوى التدريس الجيد في هذه المدارس، بالإضافة إلى تعلم اللغات الغربية والإعداد الجيد للطلبة والإهتمام بتربيتهم الدينية والأدبية، وكان طلبة هذه المدارس يحرزون نتائج متقدمة في الإمتحانات المركزية الحكومية، وفي أحد التقارير السنوية لمدرسة القديس عبد الأحد يشير الأب المدير إلى أن إثنين من تلاميذ المدرسة قد حققوا نتائج ممتازة في الإمتحان الحكومي، وبأن إثنين آخرين قد تم قبولهما بسهولة في إحدى المدارس المهمة في بيروت لإكمال دراستهما، وكذلك بأن طالباً آخر من طلاب المدرس قد نجح بتفوق في كلية الهندسة في جامعة بيروت وكان الأول على أقرانه، وفي إشارة مهمة إلى أحد التلاميذ الصغار في المدرسة في المرحلة السادسة إستطاع أن يكون في نفس المستوى والمرحلة الدراسية عند إنتقاله للدراسة في فرنسا، مما يدل على مستوى التدريس الجيد في مدرسة القديس عبد الأحد، خاصة وأن المنهج المتبع لديها كان يقترب كثيراً من المنهج الفرنسي المتبع في المرحلة الدراسية نفسها.
أما منهج الدراسة الثانوية فكان مطابقاً للمنهج الفرنسي حسب البند الرابع الذي حدد منهج الدروس في قانون المدرسة على هذا النحو: "إن الدورة الثانوية (يقصد بها المرحلة الثانوية) خمس سنوات من الخامسة إلى الأولى، في هذه السنوات الخمس وفي كل صفوفها يطابق منهجها بما يمكن من الضبط المنهج الرسمي الفرنسي لسنة 1925 الجزء ب (التعليم العصري)، يضاف إليه درس اللغة العربية حسب المنهج الرسمي للمدارس الثانوية في العراق".
ويحدد البند الرابع أيضاً فيما يخص منهج دروس اللغة الواجب إستخدامها من الطلبة داخل الدروس بالنسبة للمرحلة الثانوية، فيؤكد هذا البند في الفقرة الأخيرة على إنه: "في مدار الدروس الثانوية لايحق للتلامذة أن يستعملوا كلغة جارية إلا الإنكليزية أو الفرنسية وذلك داخل المدرسة".
وكان لهذا الإستخدام الإجباري للغة الأجنبية دور واضح في قدرة خريجي مدارس الدومنيكان التقديم للمعاهد والجامعات العربية والعالمية بدون وجود معوق اللغة، إذ درس طلبة مدارس الدومنيكان العلوم والآداب بلغة أجنبية، خاصةً الفرنسية، ومن أشهر تلامذة المدرسة من ذوي الإختصاصات العلمية الدكتور داود الجلبي الذي سبق ذكره في الفصل الثاني، المبحث الخاص بنمو الوعي الوطني والقومي، وكذلك الدكتور حنا خياط (1884-1959) وهو من الأطباء الرواد في العراق، تتلمذ على الآباء الدومنيكان في مدرستهم ثم إنتقل للدراسة في بيروت فأحرز شهادة الطب، وتخصص بالطب العدلي في فرنسا، عاد إلى الموصل ليمارس مهنته فيها، وتعين مديراً لمستشفى الموصل كما داوم في عيادة الآباء المجانية، وكان الدير يدفع له أجورهُ. نشر سنة 1911 "لمعة إختبارية في الحمى التيفوئيدية"، طبعها في مطبعة الآباء في الموصل، ونبذة عن تناقص النفوس في العراق-بغداد عام 1923. بعد إنتهاء عمله في الميدان الصحي تولى المديرية العامة لوزارة الخارجية، وكان أخوه الأكبر الخوري يوسف خياط نائباً في مجلس النواب العراقي لعدة دورات (ت 1947)، والأصغر الدكتور سليم خياط وهو خريج الجامعات الألمانية كان رئيس صحة لواء أربيل. "إرشيف مدارس الدومنيكان-الموصل"، الذي كان له دور مؤسس في السلطة التنفيذية في أول وزارة عراقية بعد تتويج فيصل الأول برئاسة السيد عبد الرحمن النقيب، إذ أصبح حنا خياط أول وزير صحة في العراق سنة 1921، وبعد أن أصبحت وزارة الصحة بمستوى مديرية عامة مرتبطة بوزارة الداخلية إستمر حنا خياط في إدارة هذه المسؤولية، وقد إعتمد في عمله منهاجاً علمياً رصيناً لتطوير الصحة والمرافق الطبية في العراق على مدى عشر سنوات.
كانت مدارس الدومنيكان ومدارس الإرساليات التبشيرية تحظى بالدعم والمساعدات المالية من سلطات الإحتلال البريطانية، ولم تستثن من ذلك المدارس الكاثوليكية التي نالت نصيبها من المساعدات، لكنها إشترطت عليها تدريس اللغة الإنكليزية، وقد كان الهدف من وراء ذلك محاولة إستمالة الطوائف الكاثوليكية وإبعادها عن نفوذ فرنسا، خاصة بعد إجبار فرنسا على التخلي عن ولاية الموصل التي قررت لها بموجب إتفاقية سايكس-بيكو 1916، وفي 23 كانون الأول 1920 عقد الإتفاق البريطاني-الفرنسي الذي تنازلت به فرنسا عن الولاية.
لقد كان لهذا الإتفاق الأثر الواضح في إنحسار النفوذ الفرنسي في العراق، وبالتالي إنحسار دعمها ومساعداتها المالية للإرساليات التبشيرية الفرنسية العاملة في العراق، مما أدى إلى ضعف دور هذه الإرساليات وإنحسار تأثيرها التعليمي والإجتماعي والفكري، خاصة وأن الإتفاق البريطاني-الفرنسي قد تضمن فقرة تتعلق بالمدارس التبشيرية، جاء فيها "توافق الحكومتان البريطانية والفرنسية… على السماح للمدارس التي تخص أناساً من التبعة الفرنسية، أو من التبعة البريطانية المثابرة في إدارة هذه المدارس في منطقة إنتدابهما، ويسمح بتعليم اللغة الفرنسية واللغة الإنكليزية في هذه المدارس"، وإشترط في الإتفاق على أن هذه الفقرة لاتطبق على المدارس التي تؤسس بعد ذلك.

الطباعة
وكانت الإرسالية الدومنيكانية السباقة في هذا الميدان، فقد شهدت مدينة الموصل الطباعة الحديثة لأول مرة حينما أسس الآباء الدومنيكان مطبعتهم هناك سنة 1858 في محلة الساعة، وقد تولت هذه المطبعة نشر عدد كبير من الكتب، وصل عددها إلى مايزيد على (500) كتاب، منها كتب دينية ولغوية وتاريخية ومدرسية، وبلغات عدة، منها العربية والفرنسية والتركية والكلدانية، وكانت المطبعة في بداية الأمر حجرية تعمل بطريقة القالب، وقد نالت إعجاب الأهالي في تلك الأيام، طبع فيها الآباء نشرات للحروف عربية وكلدانية، وكتاب قراءة عربية مصورة مؤلفة من 12 صفحة. وفي سنة 1859 طبعوا كتاباً من تأليف القس يوسف داود زبوني بعنوان "خلاصة في أصول النحو" وهو أول كتاب في النحو والصرف العربيين يطبع في العراق، وفي العام 1860 وصلت الموصل مطبعة حديثة، وبدأت إصداراتها في أواخر تلك السنة، وعمل فيها بعض الرهبان والعمال، واستمرت في العطاء حتى إعلان الحرب العالمية الاولى، وقد ألحق بها معمل للتجليد الفني مع التذهيب وماكنة للحروف البارزة، وأخرى لقص الورق والكارتون. وقد تهيأ لمطبعة الدومنيكان من يشرف عليها ويرعاها ويغنيها بمؤلفاته، وهو يوسف داود الذي يعترف الآباء الدومنيكان بفضله في نجاح المطبعة وانجازاتها، ويؤكد أحد الآباء الذين عاصروا المطبعة هذه الحقيقة، فيقول في إحدى الرسائل المحفوظة في أرشيف الدومنيكان: "أن الشهرة الرائعة التي حصلت عليها مطبعتنا في الموصل، ونجاحها إنما هو متعلق برجلين إثنين أشرفا عليها، أولهما
دوفال Duval، والثاني يوسف داود زبوني القس السرياني الذي درس عندنا، ثم أكمل دراسته في روما، وهو رجل ذو خدمة متناهية، دؤوب على العمل، نادر الوجود، وهو موصلي الأصل، وأحد أعضاء رجال الدين البارزين، يقوم بنشر الكتب وتأليفها ويتقن لغات كثيرة جعلته يصبح المتخصص الاول في المدينة، فهو يتقن اليونانية واللاتينية، ويتكلم باتقان الفرنسية والايطالية والانكليزية، ويعرف العربية الفصحى، والفارسية والكلدانية، وحتى العبرانية لاتصعب عليه".
استمرت المطبعة فيما بعد، وبإشراف يوسف داود، على إصدار الكتب، ومما يلاحظ انها بين سنتي 1863 و1867 اهتمت كثيراً بطبع كتب التراث العربي التي حققها ونشرها يوسف داود، كما شهدت المطبعة بين سنتي 1867 و1898 نشاطاً ملحوظاً في مطبوعاتها المنوعة، ففي تلك السنوات تم طبع ما ينيف عن المئة كتاب بين صغير الحجم وكبيره، ومنها مايشتمل على عدة مجلدات في المواضيع الدينية والتاريخية واللغوية والادبية، وكان قسم من مطبوعاتها باللغات الكلدانية والسريانية والفرنسية والتركية. ومن أبرز ما طبع فيها كتاب "تدريب الطلاب في أصول التصريف والاعراب"، وكتاب "مختصر تاريخ الكنيسة"، وكتاب "مبادئ التهجئة لتدريس الصبيان" الذي طبع سنة 1862 باللغتين العربية والسريانية، وكتاب "فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء" لابن عرب شاه تحقيق القس يوسف داود سنة 1869 وكتب أخرى في "علم الهندسة" و"علم الجبر" و"مختصر في الجغرافية"، كما طبعت في المطبعة الاوراق والسجلات والتقارير الرسمية قبل تأسيس مطبعة الولاية سنة 1875. وأسهمت المطبعة في توجيه النشئ إلى التاريخ، ومن الكتب التي طبعتها في هذا المجال كتاب "مختصر في التواريخ القديمة" للقس لويس رحماني سنة 1876، و"مختصر في تواريخ القرون المتوسطة" للمؤلف نفسه سنة 1877، وأغلب الظن انه اول كتاب عن العصر الوسيط، وكتاب "ذخيرة الاذهان" للقس بطرس نصري الذي طبع الجزء الأول منه سنة 1905، والجزء الثاني بعد ذلك بثماني سنوات. ونتيجة لنشاط حركة الطباعة بدأت حركة الصحافة، وقد شهدت الموصل على يد الآباء الدومنيكان صدور أول مجلة في تاريخ العراق كله، تلك هي مجلة "إكليل الورود" (La couroone de roses) . وكما يؤكد المؤرخون أن مجرد صدور هذه المجلة باللغة العربية في تلك المرحلة من التاريخ لهو دليل أكيد على اهتمام الدومنيكان بأداء الخدمة للتراث العربي، ولاسيما اللغوي منه، والذي هو الواسطة الاساس في التعبير عن الفكر القومي.
صدر العدد الأول من مجلة "إكليل الورود" في كانون الأول سنة 1902، وقد جاء في التعريف بها تحت العنوان أنها: مجلة دينية أدبية علمية، أصحاب الامتياز الآباء الدومنيكان. وقد بلغ عدد صفحاتها في بداية صدورها (20) صفحة، ولكنه كان يتغير في بعض الأحيان، إذ يزداد ليتراوح بين 24 و28 صفحة. صدرت المجلة بثلاث لغات هي العربية، وصدر منها 65 عدداً، والفرنسية وصدر منها 40 عدداً، والكلدانية وصدر منها 33 عدداً.
اهتمت المجلة فضلاً عن الموضوعات الدينية الكنسية، بالموضوعات الاجتماعية والسياسية والصحية والثقافية. ان مجلة "إكليل الورود" وإن كانت غايتها الأولى تهذيب الاخلاق بالطرق الدينية، فقد نشر فيها أصحابها، كما يقول أحد مؤرخي الصحافة العراقية، طائفة صالحة من المقالات الادبية والاجتماعية، وأثبتوا على أعمدتها أخباراً متنوعة، كما اعتنت بنشر أخبار المجتمع الموصلي. وقد ظلت تصدر بانتظام نحو ستة أعوام حتى توقفت عن الصدور عام 1909.
أما في بغداد فقد أصدر الآباء الكرمليون مجلة دينية عرفت باسم "زهرة بغداد"، برز عددها الأول في 25 آذار 1905، واستمرت بالصدور أكثر من سنة، حتى توارت عن الأنظار.
إن مدارس الإرسالية الدومنيكانية في ولاية الموصل هي التي أدخلت المسرح إلى الموصل، وإنما إلى العراق كله. إن أول عمل مسرحي قدّم في هذا المجال كان (مسرحية نبوخذ نصر) التي ألّفها الخوري هرمز نرسو الكلداني المارديني سنة 1886، ومثلت على مسرح مدرسة الآباء الدومنيكان في الموصل سنة 1888. كما مثلت مسرحية (لطيف وخوشابا) بقيادة فتح الله سحار على المسرح في الموصل سنة 1890 وهي مستوحاة من الأدب الفرنسي، وتعالج بأسلوب تربوي مشكلة البخل، وطبعت في كتاب سنة 1893. عرفت الموصل أيضاً المسرح الغنائي من خلال مسرحيات شبيهة بالأوبريت الغربي، لقيت إقبالاً من الناس وحفظتها الصدور، ولاسيما انها كتبت باللهجة العامية الموصلية.
كما كان الآباء الدومنيكان أول من أدخل التصوير الفوتوغرافي إلى الموصل وجلبوا الفانوس السحري والأرغن والآلات الموسيقية الغربية. وكان نشاطهم واضحاً في المجال المعماري، فقد بنى الدومنيكان بيعة كبيرة سنة 1869، استغرق بناؤها سبع سنوات. وفي كنيسة الدومنيكان أرغن ضخم يعده المختصون أول آلة موسيقية حديثة دخلت الموصل قبل أكثر من قرن من الزمان. أما الساعة مع برجها الذي ارتفع في تموز سنة 1882 فإنها كانت هدية من الحكومة الفرنسية، وقيل من أوجيني زوجة الامبراطور الفرنسي نابليون الثالث، وهي من صنع إحدى الشركات الفرنسية وفي معرض طلبه لهذه الساعة من الحكومة الفرنسية يقول نائب القنصل في الموصل عام 1881: "ساعة خارجية دقاقة… على ان تكون ذات أربع أوجه إذا أمكن، وذلك ليعلم الوقت بفضلها جميع سكان الموصل كائنة ما كانت الجهة التي هم فيها".
وبهذا الصدد يمكن الإشارة إلى تطور حركة الطباعة في الموصل حيث ارتبط تاريخ صحافة الموصل بنشأة تلك الحركة وتطورها. وكان للنخبة العراقية المتأثرة بالفكر الفرنسي الدور الرائد في هذا المجال، إذ ان تأسيس أول مطبعة في الموصل ارتبط بنشاط إرسالية الآباء الدومينكان التبشيرية التي قدمت الموصل في العام 1750، وتم تأسيس مطبعة الدومينكان هناك في العام 1858. وكانت مطبعة حجرية في بداية امرها، وفي العام 1863 وجد الدومينكان ان مطبعتهم لاتفي بالغرض لذلك عملوا على توسيعها بشراء معدات طباعية كاملة خصصوا لها مبلغاً كبيراً من المال، أسهمت فيه جمعية مدارس الشرق بباريس بستة آلاف فرنك، هذا فضلاً عن تبرع المطبعة الأهلية بباريس بمجاميع من الحروف العربية والسريانية والفرنسية، وقد ألحق بالمطبعة مسبك لصب الحروف وقسم لتجليد الكتب وتذهيبها بالطرق الحديثة. وقد أنجزت مطبعة الدومينكان نشر قرابة (293) كتاباً في مختلف المعارف. وبالإضافة إلى مطبعة الدومينكان تأسست مطبعة أخرى هي المطبعة الكلدانية، وقد أسهمت أيضاً في نشر الوعي الثقافي.
استمرت مطبعة الدومنيكان في النشر، وبدون انقطاع، أربعاً وخمسين سنة حتى توقفت عن العمل إثر مصادرة السلطات العثمانية لمكائنها بدعوى تبعيتها لدولة أجنبية معادية. وقد نقلت مجموعة من أدواتها وآلاتها وحروفها إلى مطبعة الولاية، وبعد الاحتلال البريطاني للموصل في تشرين الثاني 1918 عادت إلى العمل لتواصل نشاطها، فطبعت الكثير من الكتب والكراريس والمنشورات الحكومية. ولعل أبرز ما طبعته خلال المرحلة الجديدة "منهج التعليم الابتدائي سنة 1919" و"نظام بلدية الموصل" سنة 1920 و"إيضاحات في تدريس اللغة العربية في المدارس" سنة 1921.