نص من البدايات المنسية في منجز جلال الخياط

نص من البدايات المنسية في منجز جلال الخياط

د.نادية غازي العزاويّ
مدخل اول:
في حوار اجري مع د. جلال الخياط سئل عن رأيه بالمقولة الشائعة : (الناقد اديب فاشل)، فكان من جوابه :
((هذه المقولة تبناها منشئون يضيقون بنقاد يكشفون عن مواضع الضعف في ادبهم ، ويؤيدها انّ نقادا بدؤا شعراء وقصصيين وتركوا الشعر والقصة واصبحوا نقادا ، لا ارى في هذا شيئا غير طبيعيّ ، طه حسين حاول ان يكون شاعرا فلم يستطع ثم صار ناقدا ،

هل تقول ان طه حسين شاعر فاشل ؟ ادباءكثيرون بدؤا النشر في مطلع حياتهم فجمعوا بين المقالة والقصة او الرواية والشعر احيانا والخاطرة والكتابة النقدية تنظيرا وتطبيقا ، ثم تنكبّ من تنكبّ وضاع من ضاع واستقر من استقر على شعر او قصة او نقد)).
ما افهمه من سؤاله المشكك في كون طه حسين شاعرا فاشلا انه يتضمن نفيا ضمنيا ، فالانقطاع والتحوّل ليسا بالضرورة علامة فشل ربما كانا بسبب من عدم التواصل فالتواصل كفيل بتحقيق تراكم في التجارب وصقل للخبرة وبخلافه تؤول التجارب المتداخلة في البدايات الى خيار واحد يقرّ عليه القرار، ولايرى في هذا ((شيء غير طبيعي)).
مدخل ثان:
المصادفة وحدها قادتني الى بائع كتب يفترش الرصيف المقابل لكلية الاداب في (باب المعظم) ، تامّلت المعروضات: مجلدات مذهّبة ، مجلاّت ، اكداسا من الكتب العتيقة ، بزغ من اعلى الطرف الايسر لاحدها اسم (جلال الخياط)، سحبته من الاسفل ففوجئت بكتيب صغير اصفر الورق على غلافه الامامي المهلهل كتب :
(من الطريق -قصة- ، جلال الخياط ، وفي الغلاف الخلفي : مطبعة شفيق ، بغداد). حملته مسرعة الى غرفة استاذي المشرف ، في قسم اللغة العربية ووضعته امامه بسعادة من عثر على كنز :
-استاذي- لم اسمع بهذا العنوان بين كتبك .
بدهشة وبهدوء صوته المبحوح اجابني:
-كيف عثرت عليها؟ انها تافهة، اطمريها.
ولم افعل بل تركتها على رف المكتبة بانتظار ان يأتي دورها للقراءة وطال الزمن عليها حتى جاءني خبر نعيه ، فقفزت الحادثة والقصة الى الذهن ومعهما الاسئلة:
لماذا تواجه البدايات بالجحود والنسيان المتعمد من اصحابها ؟ على الرغم مما تحمله من كشوف واستشرافات ، لماذا نخجل من بداياتنا المرتبكة ما دامت ستغدو تمهيدا لخطواتنا اللاحقة المستقيمة ؟ وكيف تطمر البدايات وفي احشائها من ذوات اصحابها تباشير رؤاهم ومفاهيمهم وهي في طور التخلّق والتشكّل ؟ لماذا يحكم على البدايات دائما بالرداءة والسوء مع ان فيها ملامح جيدة ومؤشرات طيبة؟!.
هذا النص المنسيّ - بغض النظر عن قيمته الفنيّة بالمعايير النقدية وبغض النظر عن كونه مستكملا فعلا عناصر القصة او غير مستكمل فيه ولذلك آثرنا توصيفه بـ( النصّ ) بديلا عن مصطلح (القصة) -يمثل وثيقة ما يمكنها ان تقرأ من زوايا ثلاث: حقائق وتخمينات واسئلة:
1-كان في السابعة والعشرين من عمره حين نشر هذا النصّ استنادا الى التاريخ الذي ذيلت به المقدمة (1/4/1961 م). ولا اشكّ في انه كتبه قبل ذلك بمدّة اطول ، وهو -على كل حال- نتاج العشرينيات (ولد المؤلف عام 1934 ) ، بينما تأخر اقدم كتاب منشور له الى سنة 1970 ، اعني الطبعة الاولى من كتابه : ( الشعر العراقي الحديث ، مرحلة وتطور )، اي بفارق اكثر من عقد من الزمان او يزيد .
والعشرينيات مرحلة مخاض قلقة تجمع بين حسّ المغامرة والاندفاع نحو الاعلان عن الذات قبل استكمال ادواتها ، انها مرحلة ( المفترق ) وليس (القرار) ، ( المفترق ) الذي يدّخر احتمالا لمنعطفات مغايرة لكل التوقعات ، وهكذا تبدو محاولته القصصّية هذه غير متوقعة ، فمن قرأ كتبه النقدية ومن اتيح له الاقتراب منه انسانا يلحظ مدى عنايته بالشعر واحتفائه به وقربه من نفسه المرهفة ممّا يجعل الظنّ منصرفا لبدايات شعرية على عادة كثير من ابناء جيله الذين استهلوا حياتهم الابداعية شعراء –مع وجود استثناءات طبعا- .
ولكن هذا الظن سيصطدم – ولاشكّ – بالحقيقة التي لاجدال فيها : ان الشعر موهبة من نمط خاص جدا لا تتهيّأ بالضرورة للمرهفين شعورا وعاطفة .
وتتوالى اسئلة اخر: لماذا اختار القصة اذاً ؟ ولماذا لم يعزز خياره بمحاولات تالية ؟ لماذا لم يستكمل خطوته الاولى ؟ لماذا انعطف نحو النقد ونقد الشعر غالبا وكرس له حياته البحثية حتى نجح في محو تلك البداية وحين فاجأته بها ثانية رفضها رفضا تاما ؟
2-قدم عبد الحميد علوجي ( العلوجي فيما بعد ) لهذا النصّ وصاحبه محتفيا ومبشرا بميلاد قاص واعد وقصة ستغزو المكتبة العربية – والعراقية ضمنا – وانها ستثير اصداء نقدية (( ما اؤمن به هو ان هذه القصة ستتبّوأ مركزا طيبا بالرغم مما سيثور حولها بعد ان تغزو المكتبة العربية فلا تقلقوا من الافكار الجريئة التي صفع بها السيد جلال الخياط وجه الحياة فهدم قواقع الغرور الابله والطموح المشلول)) (ص 16 ) .
وتطرق في المقدمة الى بعض الملاحظات المهمة التي تكشف عن طبيعة المناخ الفكري والنفسي العام الذي كتب هذا النص في ظله اعني الموجة الوجوديّة السارتريّة ولعل جلال الخياط وجد في القصة مجالا لاستيعاب تلك الغربة الروحيّة والحيرة الفكريّة التي سكنته ولازمته وارّقته وتحليل جوانبها ومظاهرها المختلفة، ولكنه اخفق في تحقيق المعادلة الصعبة: الاخلاص لصوت الذات والاخلاص لروح القصة واسرار صنعتها، اعني: الحفاظ على خصوصية الرؤية الشخصية من جهة وتحييدها داخل القصة من جهة ثانية ، ولهذا اخفق في خلق شخصيات لها ملامحها الخاصة بها ، انها في هذا النص نسخ و صدى لصوت المؤلف تردّد افكاره وتستعمل لغته ، بينما يكون القاص في العادة اكثر حريّة في تشكيل الواقع تشكيلا يقصي تسلّط المنظور الشخصي عليه ، انه ينطلق منه ولكنه يعطي الواقع وجوده الموضوعي المستقل بذاته من غير تدخلات قسريّة مباشرة تفسده.
3-حين تعمّقت تجارب القراءة عنده في مرحلة لاحقة ونضج مراسه النقدي مع النصوص الابداعية العربية والعالمية بدأت مقاييس القبول والرفض ترتفع عنده ولاترضى بنصوص مرتبكة متعثرة، ومن الاولى تطبيق هذه المقاييس النقدية على النتاج الشخصي، فكان ان قمع هذه المحاولة ولم يسمح لها بالنمو والتطور والظهور، يعزز ذلك ما عرف به المؤلف من مبدئية وتواضع جعلته في المحاورة المذكورة سابقا يعزو بعض ازمة الادب العراقي المعاصر الى وجود التوّرم والانتفاخ الذاتي لبعض المحسوبين عليه (( ان للمنشئين ازمات، اعدّد منها : الحب المفرط للذات ، الاطاحة بمن سبقوهم في الابداع ومحق ما قدّمته الامة في اي مجال متميز والمطالبة بان يبدأ تاريخ العبقريات بهم وحدهم ، تحويل منتجعاتهم الى مواقع حصينة يطلقون منها حمم غضبهم على النقاد ، بروز شخصية ( مدير اعمال ) وتجسيدها وخروجها في اهاب اولئك المنشئين ليرسّخوا الشهرة لانفسهم بوسائل واساليب معروفة ، قراءة كتاب او كتابين اجنبيين مترجمين ومضغ كلمات غريبة واستعمالها في اي مجال ملائم او غير ملائم وفرقعة تلك الكلمات امام النقاد)) .
ان شخصية جلال الخياط تبدو منذ بداياته بعيدة عن تلك المناطق الموبوءة التي ذكرها في اعلاه ، وقد اثارت العلوجي ظاهرة معينة في هذا النصّ لن نفهمها نحن ايضا الاّ بوضعها ضمن هذا السياق الذي نحن بصدده . يقول :
(( ولفني العجب حين علمت بعد ذلك انّ هذه القصة قد احتضنت ستمئة صفحة ، آثر المؤلف ان يطبع عشرها خضوعا لبعض الصعوبات التي اعاقت نشرها كاملة غير منقوصة )) ( ص 5 ) .
اذكر لي اديبا شابا يرتضي اليوم مثل هذا الشرط المجحف او يقبله عن طيب خاطر ؟ على ان الخضوع لمتطلبات النشر هنا عامل خارجي زاد عليه المقدّم عاملا داخليا متعلقا ببنية النصّ نفسه وذلك في قوله :
(( فانت تستطيع ان تقتطع ايّ قسم من هذه القصة ليصبح جزءا مستقلا بذاته )) ، والتعليل صائب جدا وهذا شاهد على عيب في بنائها وفي تفكّك عناصرها ، فما نشر منها اقرب الى لوحات مستقلة تربطها ببعضها بعض العلاقات اللفظية او بعض الصلات الخارجية التي لم تتغلغل لتكون لحمة لنسيج القصة .
ولعلي ازيد تعليلا آخر عرفته في اسلوب المؤلف بعد نضج تجربة التأليف لديه ، اعني ميله الى الايجاز والتكثيف ونبذه الاطالة والتكرار ، فلا شك في ان هذه الثرثرة السرديّة التي احتوتها ستمئة صفحة –وكانت الكتابة ما زالت عنده فجّة في تباشيرها الاولى – قد دفعته تحت ضغط شروط النشر الى ضروب من القصّ والتشذيب النقديين حتى استوى النص في خمسين صفحة .
4-لغة النص تؤشر بوضوح بنيته المفكّكة : فالالفاظ والجمل اما منفصلة عن بعضها وإما متصلة بادوات ربط واهية تؤكد الانفصال اكثر مما تحقق الاتصال واللحمة الداخلية اذ الهيمنة للواو العاطفة وللافعال المضارعة المتلاحقة التي زادت على (900) فعل تعبيرا عن محنة ( الراوي / المؤلف ) الذي تتراءى له حالات الوجود المتماثلة والمتناقضة والمتنافرة متجاورة الى بعضها في آن واحد جزءا من الوجوديّة الشقيّة بوعيها التي اختصرها بعبارة بليغة في قوله :
((بورك الربّ ما اجدر الانسان بالتفاهة)) (ص24).
تؤكد هذا حالات التداعي في الاستذكار اذ تستدعي اللحظة لحظة اخرى مضادّة لها فيكون ( الجمع ) تعبيرا عن محنة (التشتّت) في الافكار والمواقف :
((آخر نجم يزفّه الليل للفجر ، فجر حياتي غروب ، وفي نهاية الشارع نور متأرجح ، وأحسست بألم في ركبتي ، وغاب عنيّ ضوء المصباح ، وكدت اقع على الارض ، وعوى بجانبي كلب ، ومرت سيارة مسرعة ، ومضت دقائق متعبة ، وبدا في اول الطريق ثلاثة رجال ... اربعة .
-عمّي ما تستحي سكران بآخر الليل ، عمّي ما تستحي ....
وتعالت الضحكات ، ضحكات هازئة ، مرعبة ( ص 27) .
ويستمر النص على هذا الايقاع ، سرد متصل تقطعه احيانا حوارات مقتضبة او عبارات تهكمية وعامية هي بعض من سخرية الراوي الوجودي الذي يقذف الحياة بالوضاعة والتفاهة ويسخر من قوانينها ونواميسها واعرافها وانظمتها ، لقد سخر الراوي من (الحكم والامثال والوصايا) المعلّقة على جدران (المقهى) وكشف عن خواء مضامينها حين قرنها بما ينقضها من افعال تندّ عن مرتادي هذا المقهى ، وهي بعض ازمة الراوي الذي شكّك في جدوى المعرفة البشريّة مادامت ستظل شعارات واقوالا خاوية بلا تطبيق :
(( (من راقب الناس مات هما) ، (رأس الحكمة مخافة الله) ، وطفقت عيناه تدوران في ارجاء المقهى ، (وما توفيقي الا بالله) ، (لا تعط العامل اكثر من عشرين فلسا) ، وبدت له صورة عارية لاحدى الراقصات .
-ماي ، جاي ، نركيلة ، تتن .....
( اتق شرّ من احسنت اليه) وامتّدت يده ببطء وانبعثت قرقرة عالية من النركيلة اعقبتها نوبات من السعال العنيف ، انتهت ببصقة على الجدار)) (ص20).
ولكن المؤلف نجح في احيان اخرى في مدّ صلات معنوّية عضوّية حميمة بين بعض اللوحات المتتابعة ، ولاسيما اللوحتين المتعاقبتين :
الراعي الذي يموت مع اسرته عطشا في الصحراء ، وابن عمه-عامل المقهى- الذي يسترجع تفصيلات الحادثة وهو ينادي على الزبائن : ماي ، ماي .
فالماء هو صلة الوصل بينهما ، اذ هو سبب في استلاب الحياة في الاولى وسبب في ترف الحياة في الثانية : ((الرجل كان ابن عمه والام اخته ، واراد ان يسافر اليهم في العيد بعد ان يشتري لهم ثيابا ، وحين اخبروه عن طلوعهم الى البادية وضياعهم فيها اسرع الى القرية وفزع الربع فخرجوا يبحثون عنهم وعثروا عليهم بعد يومين قرب الحدود ، آثار الدماء على شفاه الطفلتين والام قد تشقق جلدها ورأس ابن عمه تدلّى في القبر الذي اراد ان يضمهم جميعا وحوله آثار ديدان ميتة .
وينظر الى الصورة ويصرخ: ماي)) (ص20) .
5- وتهيمن على النص الامكنة التي تعزّز الرؤى العدمية فالامكنة والمقيمون فيها يمارسان ادوارا سجالية في ما بينهما بتبادل القذارة والتلوث الماديين والمعنويين ، فالامكنة هنا عامة مشاعة وللعلن تعرّي اناسها وتفضحهم وتقودهم اما الى الموت الحقيقي الجسدي وإما إلى الموت الرمزي القيمي : المقهى ، الحانة ، المزبلة ، الصحراء ، الطريق - الذي يشكل عصب النص حتى جعل عنوانا له - .
بينما غابت غيابا كاملا الامكنة الخاصة والدافئة التي تجسّد جمال الوجود او اناقته او انسجامه .
والشخوص المقيمون في هذه الامكنة منقادون لفكرة المؤلف ولرؤاه الكابوسية ، شخوص يفتقرون الى العقل والاتزان والسويّة -انهم اما مشوّهون خلقيا او ساقطون اخلاقيا: (الزانية، الشحّاذ، الحمّال، المجنون، المسلول، المقامر، السكّير..... الخ) ينتهون جميعا الى مصير بائس هو الموت باقسى اشكاله :قتلا او عطشا او انتحارا ......... انهم: ((يعيشون في الوحل بلا طموح ومن دون اتجاه ، لايعرفون ما يأملون ، يمقتون تأريخهم واحلامهم ويخدعون غدهم وحاضرهم ويبصقون على ماضيهم ...... وقد فقدوا في حياتهم دفقات النور والامل)) ( ص 12،13 ) .