هل حاول لبنان الدخول الى حلف بغداد؟

هل حاول لبنان الدخول الى حلف بغداد؟

■ فتحي عباس الجبوري
باحث ومؤرخ
بدأت اولى الخطوات لانشاء حلف بغداد في اوائل شباط 1954 عندما اتفقت تركيا والباكستان على قيام تعاون وثيق بينهما في المجالات السياسية والتجارية والثقافية . ومن ثم اتجهت انظار المسؤولين في تركيا والباكستان نحو العراق لاقناعه بضرورة الدفاع المشترك بوصفه من الدول التي اصطلح على تسميتها بـ ( دول الحزام الشمالي)

المجاورة للاتحاد السوفيتي اذ عبر كل من سفير تركيا والقائم بالاعمال الباكستاني في طهران عن اعتقادهما بضرورة انضمام العراق الى الحلف التركي الباكستاني وكانت تصريحات فاضل الجمالي رئيس وزراء العراق في موضوع تعزيز قدرات العراق وتقوية الجيش بمثابة تعبير عن رغبة العراق في الانضمام الى الحلف بخاصة وانه كان يحصل على المساعدات الاقتصادية والعسكرية من الولايات المتحدة وكانت بريطانيا قد وعدت الولايات المتحدة بالحاق العراق بهذا الحلف تمهيداً لاتمام خطة الدفاع عن منطقة الشرق الاوسط .
وقد توقعت الاوساط السياسية في انقرة ان يشترك العراق وعدد من الاقطار العربية الاخرى فضلاً عن ايران في الحلف المذكور وجاءت زيارة الملك فيصل الثاني للباكستان عام 1954 في الوقت نفسه الذي كانت تجري فيه مباحثات لعقد حلف بين تركيا والباكستان ، دليلاً قوياً على احتمال اشتراك العراق في الحلف ولا سيما ان احد مرافقي فيصل الثاني وهو نوري السعيد صاحب الاكثرية في البرلمان كان يقف ضد سياسة الحياد التي تتبعها معظم الاقطار العربية وفي مقدمتها مصر . وكان يطمح منذ زمن بعيد بايجاد حلف عسكري يربط الشرق الاوسط بالغرب . بخاصة وانه كان يرى أن أمن العراق ضد التهديدات السوفيتية يتعلق بتركيا وايران.
وفي 6 كانون الثاني 1955 زار عدنان مندريس رئيس الوزراء التركي بغداد واجرى محادثات مع المسؤولين العراقيين ، حاول من خلالها عقد اتفاق مع العراق مشابه للميثاق التركي - الباكستاني لكن السعيد اظهر تردده في عقد مثل هذا الاتفاق بشكل واضح وصريح من دون تهيئة عربية مسبقة. وكان يسعى الى اقناع بلدان عربية اخرى بالانضمام الى هذا الحلف لتعزيز موقف العراق في هذا الصدد وكان لبنان هو المرشح الاول للانضمام الى هذا الحلف لكونه معروفاً بموالاته للغرب .
اقترح السعيد على مندريس ان يقوم بزيارة للبنان واجراء مفاوضات تمهيدية مع الرئيس اللبناني كميل شمعون بشأن تنظيم الدفاع عن الشرق الاوسط ، وعلى هذا فاتحت المفوضية التركية في بيروت وزير الخارجية اللبناني برغبة احد كبار المسؤولين الاتراك بزيارة لبنان ، بيد ان الجانب اللبناني اعرب عن عدم استعداده لتوجيه تلك الدعوة ما لم يتم اطلاعه على تفاصيل المباحثات التي كان قد اجراها السعيد مع الجانب التركي في بغداد .
وسافر الوفد التركي الى بيروت واطلع المسؤولين في لبنان على المشروع العراقي – التركي واكد لهم ان تركيا ستقف الى جانب العرب في المحافل الدولية . كما اكد الوفد لشمعون انه في حالة انضمام لبنان الى الحلف فانه سيحصل على مساعدات مالية من الولايات المتحدة الامريكية ، وستعمل الاخيرة بالاشتراك مع بريطانيا على تدريب الجيش اللبناني .
كما ابلغ مندريس الرئيس اللبناني بان تركيا والعراق لم يوقعا معاهدة تحالف وانما وضعا مشروع معاهدة فقط وقد سلم مندريس للرئيس اللبناني اثناء الاجتماع نسخة من الحلف العراقي – التركي ودعاه للانضمام اليه .
لقد انقسمت الدول العربية حيال حلف بغداد بين فريقين يؤيد احدهما الحلف في حين يرفضه الاخر بشدة ، وكان الموقف اللبناني يتأرجح بين الفريقين وتتجاذبه قيادات متضاربة بحكم الاوضاع المحلية المعروفة.
وقد تعرض لبنان لضغوط شديدة من قبل دول الحلف منذ بداية عام 1955 عندما زار مندريس بيروت في شباط من العام نفسه وعقد اجتماعاً مع سامي الصلح رئيس الوزارة اللبنانية بحضور وزيري خارجية البلدين وقد صرح الفرد نقاش وزير الخارجية اللبناني عقب الاجتماع قائلاً : " ان الرئيس التركي سلم للرئيس اللبناني نسخة من الحلف العراقي – التركي داعياًُ اياه للانضمام اليه . واضاف معلقاً على مسألة انضمام لبنان الى هذا الحلف قائلاً :
" بان سامي الصلح ابلغ مندريس بان لبنان سيستشير الدول العربية قبل تقرير موقفه " ، وقد رحب الصلح من جانبه بالميثاق العراقي – التركي وقال : " ان العرض يتفق مع ميثاق الامم المتحدة ، كما انه يضمن للعرب ما يساعدهم على صد أي اعتداء تتعرض له بلادهم سواء في الداخل أم في الخارج ، وان قبول المشروع سيساعد على حل المشكلة الفلسطينية على اساس القرارات التي اصدرتها الامم المتحدة بهذا الشأن.
واوضح سامي الصلح بان الحكومة اللبنانية بكامل اعضائها متفقة حيال الحلف العراقي التركي وانها لن تقدم على اتخاذ أي موقف معين من الحلف قبل الرجوع الى البرلمان اللبناني .
وقد صرح متحدث بلسان وزير الخارجية اللبناني بان مندريس حمل معه دعوة رسمية الى كميل شمعون لزيارة تركيا وقد قبل الاخير هذه الدعوة وقال للرئيس التركي " ان لبنان مستعد للتعاون مع تركيا الى اقصى الحدود في الحقول السياسية والاقتصادية والثقافية مادامت هي تقف الى جانب الدول العربية " ، وقد تم الاتفاق بين الجانبين التركي واللبناني على استئناف المحادثات بينهما عند زيارة كميل شمعون المرتقبة الى تركيا.
من جانب اخر ادلى الفرد نقاش بتصريح حول الموضوعات التي سيتم بحثها خلال زيارة شمعون المرتقبة لتركيا جاء فيه : " ان الدوائر الحكومية المختلفة كانت تعد الوثائق المتعلقة بعلاقات لبنان مع تركيا استعداداً لبحثها مع عدنان مندريس ومن بين الموضوعات التي بحثها ، أملاك اللبنانيين في تركيا وابرام الاتفاق التجاري بين البلدين وتجديد الاتفاق القضائي بينهما.
ومن خلال ما تقدم نستدل الى ان الحكومة اللبنانية قد ابدت موافقة مبدئية للمشاركة في الميثاق المذكور آنفاً .
وفي الاجتماع الذي عقده مجلس النواب اللبناني في 30 كانون الثاني 1955 لمناقشة سياسة لبنان الخارجية واطلع الفرد نقاش وزير الخارجية اعضاء المجلس على نتائج المباحثات التي دارت مع رئيس الحكومة التركية حول موضوع الاحلاف بقوله : " ان موقف لبنان من هذا الحلف هو موقف الدول التي تبارك ولا تشترك ، تبارك الحلف العراقي التركي لانه يقوي الجبهة الدفاعية في الشرق الاوسط ضد أي اعتداء من داخل المنطقة او خارجها ولا تشترك في الحلف لانها حريصة على ان تعود الى مجلس الجامعة في كل قضية تحدث تغييراً في سياستها الخارجية ".
واضاف نقاش قائلاً بان الحكومة اللبنانية ستسعى في اجتماع مجلس الجامعة العربية الى اقناع الدول العربية بمزايا الخطوة التي اقدمت عليها الحكومة العراقية ، داعية الى الاشتراك فيها فاذا وجدت اصراراً من جانب الدول العربية على رفض الاشتراك في هذا الحلف فسوف تسعى الى تسويغ اقدام العراق على هذه الخطوة داعية الى فكرة الابقاء على وحدة الجامعة العربية فلا تنهار وحدة الصفوف بسبب انضمام العراق الى حلف خارجي ولا سيما أنه ليس في ميثاق الجامعة ما يتنافى وهذا الميثاق .
هاجمت مصر قرار انضمام العراق الى حلف بغداد ووصفته بانه مخاطرة لا مسوغ لها ولا سيما وان العراق لم يتعرض لاي اعتداء خارجي لعقد حلف مع دول اجنبية ، وفندت حجج العراق بقولها ان المعونة الامريكية لن تجدي نفعاً ولا يمكن للعراق ان يتصدى للسوفيت فيما لو عبروا حدود تركيا وايران.
ومن جانبه قام الرئيس اللبناني بابلاغ الوفد العراقي الذي كان قد سلمه رسالة من الملك فيصل الثاني تتعلق بتنسيق الجهود بين العراق ولبنان وتوحيد رأيهما حول امكانية التعاون العسكري والسياسي مع تركيا ، ابلغه بتفاصيل الموقف في القاهرة من خلال اتصالاته اليومية المباشرة بسامي الصلح والتي تفيد بان الانباء مشجعة ويجب تمثيل العراق مهما كلف الامر .
وكان سامي الصلح قد صرح في القاهرة بان لبنان لا يعارض الاشتراك في الميثاق العراقي – التركي شريطة ان تبدي بقية الاقطار العربية هذه الرغبة نفسها وقد غادر الوفد العراقي بيروت لحضور جلسات المؤتمر واكد رئيس الوفد اصرار حكومته على توقيع الاتفاق مع تركيا لانه اصبح حقيقة واقعة لا مجال لتجاوزها .
بعد أن رأت الوفود العربية اصرار العراق على السير قدماً للدخول في حلف بغداد الف رؤساء الحكومات العربية وفد رباعياً برئاسة رئيس وزراء لبنان سامي الصلح وسافر الوفد الى بغداد في 31 كانون الثاني 1955 ، لاطلاع المسؤولين العراقيين على ابعاد الموقف ولشرح النتائج الخطيرة والقرارات الحاسمة التي ستضطر الدول العربية الى اتخاذها اذا اصر السعيد على توقيع حلف مع تركيا .
وقد ابرق كميل شمعون الى رئيس وزرائه عقب وصوله الى بغداد في اول شباط 1955 يطلب منه اتخاذ يوقف الحذر الشديد ازاء موضوع حلف بغداد الجاري بحثه انذاك ويدعوه الى اقناع الطرفين بحل وسط يوفق بين موقفيهما المتعارضين . وفور وصول الوفد الرباعي بغداد عقد اجتماعاً مع الملك فيصل الثاني ونوري السعيد واصر الاخير على توقيع الميثاق .
وقال للوفد : " انزلوا من السماء إلى الارض وواجهوا دافع التهديد الشيوعي .. ونسأل لماذا وقعت مصر الاتفاق مع بريطانيا ضد الخطر الشيوعي ولا توافق على توقيع العراق مع تركيا ضد الخطر نفسه" .
وبعد ان اقتنع الوفد بعدم امكانية ثني العراق عن توقيع معاهدة مع تركيا عاد الى القاهرة في 3 شباط بخفي حنين – كما يقول المثل العربي – وعلى اثر ذلك اعلن الملك الاردني حسين انضامه الى جانب مصر والسعودية في موقفهما المعارض من حلف بغداد ، اما الرئيس اللبناني كميل شمعون فقد تقدم باقتراحين يدعو الاول منهما الى تأجيل توقيع الميثاق العراقي – التركي المقترح لمدة اربعة اشهر تتدارس الاقطار العربية خلالها الموقف ، اما الاقتراح الثاني فيقضي بتأجيل اجتماع رؤساء الحكومات العربية عشرة ايام وان ينقل محل الاجتماع من القاهرة الى بيروت وقد رفض العراق الاقتراح الاول في حين رفضت القاهرة الاقتراح الثاني وهكذا فشلت المعارضة في الحيلولة دون عقد الاتفاق بين العراق وتركيا .
وبعد ان قررت حكومة نوري السعيد دخول الحلف سعت الى ايجاد عمق له من خلال دعوتها وضغطها على دول عربية اخرى لحملها على الانضمام الى الحلف وبخاصة لبنان وسوريا والاردن.
وفي منتصف شباط 1955 أوفد السعيد وزير خارجيته الجمالي في جولة شملت كلاً من لبنان وسوريا في محاولة لاقناعهما بالانضمام الى الحلف المذكور لكن الوفد لم يلق استجابة منهما . حيث قامت السعودية من جانبها بالضغط على لبنان وهدد الملك سعود بفرض عقوبات اقتصادية ضد لبنان رداً على موقفه الحيادي تجاه حلف بغداد . وفي 24 شباط 1955 اعلن الطرفان العراقي والتركي عن عزمهما على ابرام معاهدة تأمين استقرار الشرق الاوسط وامنه . وقد تركت المادة الخامسة من هذه المعاهدة الباب مفتوحاً امام الدول الاخرى التي ترغب في الانضمام اليها حيث تلى عقد هذا الميثاق انضمام بريطانيا اليه في نيسان 1955 ثم باكستان في تموز 1955 ثم ايران في تشرين الثاني 1955.
وحال التوقيع على المعاهدة شددت اذاعة القاهرة واذاعة " صوت العراق الحر " حملاتهما ضد السعيد وحكومته كما هاجمت اذاعة القاهرة كميل شمعون رئيس الجمهورية اللبنانية الذي كان قد طالب عبد الناصر بوقف الحملات الاذاعية والاعلامية ضد الحلف العراقي – التركي .
لقد كان بود لبنان ان ينظم الى الحلف العراقي التركي طمعاً بالمساعدات الاقتصادية والعسكرية التي تأتيه من الغرب كمكافأة له على انضمامه للحلف ومن جهة اخرى اراد ان يحصل على ضمانات من العراق وبقية دول الحلف ضد احتمال قيام سورية باحتلال لبنان وادماجه بها غير انه لما ادانت مصر هذا الحلف وعارضته بشدة لم يجرؤ لبنان على الانضمام للحلف خشية تعرضه لمصاعب داخلية وخارجية خطيرة . فقد كان من المتوقع ان تبادر مصر والعربية السعودية الى مقاطعة الاصطياف ومنع استثمار رؤوس الاموال في لبنان الامر الذي يؤدي الى تكبده خسائر فادحة ولذا فقد حاول لبنان ان يسلك مسلكاً محايداً بين القاهرة وبغداد ومواصلة الزيارات الرسمية مع زعماء البلدين .
لقد كتبت الصحافة اللبنانية كثيراً عن الحلف العراقي التركي وقد جاءت كتاباتها على الاغلب مؤيدة لوجهة نظر العراق فمعظم الصحف الرئيسه ( كالحياة ) ، ( بيروت ) ، (بيروت المساء ) و(النهار) و ( الرواد) و(الاحرار) ، رحبت بالاتفاق العراقي – التركي ، واجمعت على تأييده ، كما ان عدداً من هذه الصحف ذهبت الى ابعد من ذلك مبينة فشل الجامعة العربية وضرورة عدم الاتكال على ضمان جماعي اسمي ، اما الصحف الشيوعية واليسارية فقد هاجمت العراق والحلف العراقي – التركي وحثت على اتخاذ موقف الحياد بين المعسكرين الشرقي والغربي .
ونشرت صحيفة ( النهار) يوم 11 شباط 1955 في اول صفحاتها وبعنوان طويل بارز مقالاً جاء فيه انه في حالة تخلف لبنان وسوريا عن الانضمام الى الاتفاق العراقي التركي فان تركيا ستؤيد العراق في بعث مشروع الهلال الخصيب والقيام بمحاولة لاسترداد التاج الهاشمي من المملكة السعودية ، … اما جريدة بيروت فجرياً على عادتها بتأييدها للاتفاق العراقي التركي كتبت عن الاتفاق مقالاً رئيساً بعنوان ( ملء الفراغ) دعت فيه الى توحيد الصف العربي مستلفتة انظار الدول العربية الى وجود " اسرائيل " المهددة لها،اما صحيفة (الرواد ) فانها كانت مؤيدة لهذا الاتفاق منذ البداية ، ونشرت مقالات وجهت فيها اللوم الى القاهرة والرياض وطالبت بابقاف الحرب الكلامية التي يشنها ساسة مصر … ومما جاء في احدى مقالاتها : " ان التعامل بالربا الفاحش مع احدى هاتين الكتلتين (الغربية والشرقية ) يعرضنا في المستقبل الى ان نضيع اضعاف اضعاف ما نأخذه اليوم عن طريق المساومات والغنج والدلال ، اما اذا كان عرض " مولوتوف " هو الذي يغري سادة القاهرة والرياض فليكشفوا عن جباههم ويمشوا في طلائع الدعوة الى الانحياز لجبهة موسكو – بكين ، عسانا نقتنع ونقنع من يجب ان يقتنع بالجري في ركاب فرسان الطليعة " .
اما الرأي العام اللبناني فقد كان في البداية مؤيداً لموقف مصر الى حد كبير ولكنه ابدل موقفه هذا بتأثير ما كتبته الصحف المؤيدة للعراق واستنكر الحملات المصرية التي تشنها اذاعة صوت العرب والصحافة المصرية وفي الامكان القول بأن موقف مصر المناهض للعراق ساعد كثيراً على تفهم وجهة نظر العراق واستمالة الرأي العام اللبناني الى جانبه كما ان الصحف اللبنانية وجهت لوماً الى لبنان لتردده في اتخاذ موقف صريح من الحلف العراقي– التركي.
وفي الاول من آذار 1955 التقى محمد سليم الراضي سفير العراق في لبنان برئيس الجمهورية اللبنانية كميل شمعون واطلعه على مضامين الاتفاق العراقي – التركي وبارك شمعون هذه الخطوة .
وفي 10 آذار من العام نفسه عقدت الاحزاب والهيئات والشخصيات الوطنية في لبنان اجتماعاً لبحث موقف الحكومة من قضية الاحلاف العسكرية واتخذت قرارات أهمها معارضة حلف بغداد – انقرة ومطالبة الحكومة باتخاذ موقف صريح بعدم الدخول في هذا الحلف او في غيره من الاحلاف الاجنبية محافظة منها على سيادة لبنان واستقلاله والحيلولة دون عودة الاحتلال الاجنبي ، وفي الثالث والعشرين من الشهر نفسه طلبت الاحزاب والهيئات المؤيدة للتعاون مع الغرب والدخول في حلف بغداد فقد ادلى ( ريمون آده) رئيس الكتلة الوطنية بتصريحات دعا فيها الى الارتباط بالغرب للمحافظة – على حد قوله – على كيان لبنان وبقائه بلداً حراً بضمانة الدول الكبرى الثلاث .
لقد كان من المنطقي ان تميل الحكومة اللبنانية الموالية للغرب نحو حلف بغداد وقد ظهرت بوادر تدل على ذلك ، فبعيد توقيع الحلف المذكور وبناءً على دعوة شمعون لزيارة تركيا ، قام شمعون بتلبية هذه الدعوة في نيسان 1955 وصرح هناك بان علاقات حسنة بين تركيا والعرب سوف تساعد على اقرار السلام في الشرق الاوسط ، وهكذا تجاذب لبنان عاملان متضادان فهناك الميل المشترك الى الغرب الذي يشد لبنان نحو الحلف وهنالك الصفة الاسلامية التي طغت على الحلف والتي تدفع لبنان بعيداً عنه .
وليس في الامكان الجزم بان الحكومة اللبنانية كانت تعتزم انذاك الدخول في حلف بغداد او انها قطعت لمندريس نوري السعيد وعداً بذلك ، ولكن الراجح انها ذهبت بعيداً بعض الشيء الى مسايرة الرئيس التركي واذا لم تكن قد قالت له صراحة ((نعم)) او ((لا)) فقد تركت ( عقدة ) الاسترسال اللبناني المعروفة بالتودد شيئاً من الاعتقاد بان لبنان كان على اهبة اللحاق بالركب والدخول في الحلف المذكور .
اخذت الحكومة اللبنانية تظهر تأييدها العلني للحلف من خلال الانباء التي تبثها الاذاعة اللبنانية عنه طوال الوقت ، كما لو انها كانت اذاعة عراقية او تركية وبدأ شمعون يمهد الاجواء للانضمام مع العراق وتركيا الى حلف بغداد. فخلال مقابلة شمعون للسفير العراقي في بيروت في تموز 1955 صرح قائلاً " انه من الضروري دخول لبنان هذا الحلف ولكنه يعتقد بان الظروف غير مواتية بالنسبة اليه في الوقت الحاضر لانه يخشى ان هذا الانضمام سيدفع سوريا الى الارتماء في احضان المصريين والسعوديين فيبادرون الى توقيع الحلف الثلاثي " كما أكد شمعون للسفير العراقي ان 90 % من الشعب اللبناني هم من دعاة التعاون الوثيق المطلق مع العراق ولكنه يرى ان الاقدام على دخول الحلف في الوقت الحاضر سابق لاوانه في الظروف الحاضرة على الاقل ولا سيما ان الامريكان قد امتنعوا عن تزويد لبنان بالسلاح على الرغم من الالحاح الشديد بحجة ان هذا التسلح سيثير ثائرة اليهود … واننا على استعداد للدخول في هذا الحلف فوراً بعد الحصول على السلاح ليكون ذلك ذريعة بايدينا وحجة امام الرأي العام اللبناني .
وفي عام 1956 حاولت الحكومة العراقية من جديد ضم لبنان الى حلف بغداد اذ ارسل وزير الخارجية العراقي برقية الى سفير العراق في بيروت في الرابع من آذار من العام نفسه دعاه فيها الى الاتصال برئيس الجمهورية اللبنانية للتداول حول تنسيق الدفاع المشترك بين العراق ولبنان عن طريق انضمام الاخير لحلف بغداد كما ارسلت الحكومة العراقية بعثة عسكرية الى لبنان لتعزيز التعاون العسكري بين البلدين ولمقاومة التيار القومي التحرري في لبنان واخماد المعارضة الشعبية فيه ، ومن جهة اخرى س طلب الرئيس اللبناني من اعضاء حلف بغداد الذين كانوا مجتمعين في بغداد في 19 تشرين الثاني 1956 ارسال اسلحة الى الحكومة اللبنانية واتهم الحكومة السورية بتزويد المعارضة اللبنانية بالاسلحة والتي اصبحت تشكل خطورة على الحكومة اللبنانية وقد أيد السفير البريطاني في بيروت طلب شمعون بضرورة تزويد حكومته بالسلاح.
وعلى الرغم من ان عواطف شمعون كانت اقرب الى الدول العربية الموالية للغرب كالعراق والاردن وعلى الرغم من الدعم العسكري والسياسي الذي حصل عليه شمعون من دول الحلف الا انه لم ينضم الى هذا الحلف .
وهكذا انقسم اللبنانيون الى فئتين فئة ترغب بالانضمام الى الحلف وفئة تعارض الانضمام اليه وتأبى خوض المعركة الا في جانب المحور الثلاثي العربي ( مصر والسعودية وسوريا ) ، وفي الوقت الذي كان المسؤولون اللبنانيون يبدون رغبة في دخول حلف بغداد واعتقدوا بان الوقت لم يحن بعد لاعلان موقفهم هذا بشكل صريح بل انهم ادركوا استحالة الانضمام الى حلف بغداد لان الاحزاب والجماهير الشعبية اللبنانية تأبى الانضمام اليه .
وتماشياً مع سياسة لبنان التي نص عليها الميثاق الوطني ونزولاً عند ارادة فئات الشعب اللبناني كافة سواء من المسلمين ام من المسيحيين اعرض لبنان عن الدخول في حلف بغداد.
وعلى الرغم من فشل الجهود التي بذلتها الحكومة العراقية لضم لبنان الى الحلف الا انها استطاعت تحقيق عدد من المكاسب منها :
1- كسب ود لبنان ومنعه من التقارب مع مصر وسوريا والسعودية .
2- تزايد الوزن السياسي للحكومة العراقية الموالية للغرب في المنطقة العربية .
3- المساهمة في كبح جماح الانتفاضة الشعبية اللبنانية التي كانت قائمة في ذلك الوقت لحماية النظام الملكي في العراق.
يتضح مما تقدم ان حلف بغداد قد اسهم في تقسيم العالم العربي الى معسكرين يؤيد احدهما الحلف وكان العراق ورئيس وزرائه نوري السعيد على رأس هذا المعسكر فيما يعارض المعسكر الآخر الحلف ويندد به ويقود حملات لمناهضته وتزعمت مصر هذا المعسكر ، وتجدر الاشارة الى ان عدداً من الدول العربية كانت تبدي رغبة قوية في الانضمام الى الحلف كما هو الحال بالنسبة للبنان والاردن لكن المعارضة الشعبية فيهما حالت دون ذلك، وكان من نتائج هذا الحلف اشتداد النزاع بين العراق ومصر .
عن رسالة ( العلاقات العراقية اللبنانية 1939 ـ 1958 )