حول فيلم «مؤامرة عائلية»

حول فيلم «مؤامرة عائلية»

ماكس تيسييه
من المؤكد أن هذا الفيلم الذي يحمل الرقم 53 بين أفلام الفريد هتشكوك لن يضيف أي جيد، إلى الشهرة الخاصة التي يتمتع بها «سيد التشويق».. والفيلم هو عمل قد يصح وصفه بأنه خفيف، لكنه مع هذا لطيف ومسل.

إن كل ما في الفيلم يشير ومنذ البداية أي عبر المشهد «الروحاني» الطويل الذي تقدم لنا فيه باربارا هايس كاريكاتورا لفظياً للدور الذي لعبته ليندا بلير في فيلم «التعويذة» يشير إلى أن الفريد العجوز لم يهدف هنا إلى تقديم عمل ميتافيزيقي جدي، ولا إلى تقديم عمل آخر يندرج في تلك التيماتيكية (الموضوعاتية) الهتشكوكية التي نُسبت إليه دائماً، دون أن يسأله أحد عن رأيه، كل ما في الفيلم هو بعض الإشارات التي تظهر هنا وهنالك، وظهوره الضروري كظل صيني خلف زجاج مكتب نقرأ على بابه يافطة تقول «ولادات وموت».
كل ما في هذا الفيلم عبارة عن لعب، ابتداء بالعنوان «مؤامرة عائلية»، حيث يلعب هتشكوك على كلمة «مؤامرة» التي تعني بالإنكليزية «مؤامرة»، كما تعني «حبكة» أو «عقدة روائية» أو «سيناريو»، وفي هذا المعنى المزدوج علينا أن نرى إلى رغبة المخرج في تقديم نموذج لفيلم التشويق «الجنائي» 0على الرغم من أنه ليس في الفيلم أية جريمة تُرتكب فعلياً)، مضافاً إليه ذلك المرح الذي لا يمتلكه أي مخرج آخر غيره، فمن يا ترى بوسعه أن يسمح لنفسه (إذا استثنينا المخرج جوزف مانكفيتش، ولكن في مجال مختلف)، يلعب كل كليشهات هذا الصنف السينمائي بكل هذه «المعلمية» التي ترتكز، بالتأكيد على خبرة طويلة؟
على الرغم من السيناريو الحاذق الذي وضعه ارنست ليمان (صاحب سيناريو «شمال بشمال غرب») والذي يُركز جوهر الحبكة على المصادفة البحتة- إنما دون ان تؤدي هذه المصادقة هنا إلى المستتبعات الأخلاقية التي أدت إليها في فيلم «الرجل الخطأ»- القائمة على لقاء بين أربعة من المحتالين ينقسمون فريقين، كل فريق يتألف من زوجين، ويقوم بينهما تنافس رهيب، على الرغم من هذا السيناريو، من الواضح ان هذا الفيلم كان بالإمكان معالجته بشكل أكثر فعالية وجدية على يد مخرج آخر، لا يتمتع بذلك الحس الساخر الذي يميز العمل الهتشكوكي.. هنا، يبدو التناقض التقليدي والأخلاقي بين «الأسود» و»الأبيض»، عابقاً بحس السخرية، عبر الش خصيتين النسائيتين في الفيلم كارين بلاك و»بلاك» هي أسود بالإنكليزية، التي ترتدي السواد طوال الفيلم وبلانش «بلانش» تعني بيضاء بالفرنسية الساحرة التي تبدو طوال الفيلم وهي ترتدي ثياباً بيضاء: سحر أسود وسحر أبيض، تواجدا في سحر الإخراج.
إن حضور هتشكوك الدائم يبدو هنا واضحاً من خلال عبارات لا تخدع أحداً: فلنلاحظ مثلاً أن الرهينة السابق السيد كونستانتين يجيب على سؤال لشرطي يقول «لماذا تعتقد أنها امرأة؟»، بقوله: «إن أي رجل ما كان له أن يبذل جهداً لوضع البقدونس على فيليه السمك»، إنه منطق هتشكوكي بامتياز، والإشارة الثانية هنا تكمن في كون سخرية هتشكوك تنصب، ولكن دون عنف على القساوسة الكاثوليك: فمطران كاثوليكي هو الذي يتحمل عبء عملية الخطف التي تحدث في عز القداس، خلال مشهد قصير، لكنه مفاجئ، وثمة قسيس آخر يجري الاحتيال عليه خلال موعد «فروسي» عبر مشهد عابق بالمناخ الهتشكوكي يدور في مقهى، وفيه ينتظر لاملي وبلانش مالوني دون جدوى.
أقل نجاحاً تبدو لي مشاهد التشويق الأخرى، مثل انحدار السيارة التي يقودها مالوني في مشهد يلي مشهد المقهى: إن هتشكوك يستعيد هنا، دون مخيلة كبيرة لعباته القديمة مثل سيارة كاري غرانت في «شمال بشمال غرب».
ولكن، لحسن الحظ إن هذا الفيلم الذي لا يحمل الكثير من الادعاء مزروع بالإشارات الصغيرة والتلميحات والمشاهد التي تحمل طابع هتشكوك المميز، حتى ولو كانت كلها تكرر ما سبق للمعلم ان فعله في أفلام سابقة: لقطة المقبرة، حيث يطارد لاملي أرملة مالوني، ولقطة الثريا، حيث يضع آدامسون الجوهرة في أبرز مكان، مطبقاً هنا نظرية قديمة لادغار آلن بو.. صحيح أن المتفرج «الهتشكوكي» لن يعثر ها هنا بسهولة على التفسيرات الميتافيزيقية المغالية التي نُسبت على الدوام إلى هتشكوك- والتي ترك أمر العناية بها، لمقلدي هتشكوك، مثل بريان دي بالما، في «الشقيقتان» و»وسواس»-، لكن كل ما في بنيان هذا الفيلم، يشير إلى طبخة صنعها هتشكوك الذي ربما صار عجوزاً، لكنه لا يزال قادراً على مشاهدة نفسه عبر مرآة صافية.
إن لعبة المصادفات بين ألعاب أخرى تبرز متميزة هنا (....) ان كل شيء هنا مرسوم بدقة دائرية، ونحن نعلم منذ البداية أن اسم هتشكوك هو الذي سيظهر في الكرة الزجاجية عند بداية الفيلم، في الوقت الذي تقلد فيه باربارا هاريس (بلانش) صوته أمام جوليا رينبيرد.. إنه عمل قام به كاتب السيناريو بالتأكيد، لكن هتشكوك عرف كيف يقدمه بصرياً بشكل ممتاز- وبالتواطؤ مع أربعة من الممثلين الملائمين تماماً.
قد يكون «مؤامرة عائلية» فيلماً هتشكوكياً صغيراً.. لكن صغره هذا- وهذا أقل ما يمكن أن نقوله- هو أفضل ما يمكننا من الإحساس بتلك اللذة التي يمكننا ان نتقاسمها مع رجل يبلغ الآن السادسة والسبعين من العمر.