الرمزية لم تعد سحراً مؤثراً لانزلاقها في التعقيد والغموض

الرمزية لم تعد سحراً مؤثراً لانزلاقها في التعقيد والغموض

بغداد/ أوراق


حديث مستفيض في الأدب والشعر العربي في ظل ما يعانيه النقد من بواعث نفسية وفكرية، يعدها الدكتور يوسف عز الدين من وجهة نظره امور مؤسفة يصفها بالثلوث الفكري من خلال كتابه (التجديد في الشعر الحديث) الصادر عن دار (المدى) للثقافة والنشر فيقول: رأيت ضرورة الوقوف امام هذا التلوث برغم ما وسعني من شتائم واتهامات واعجني العويل وادمي أذني الصخب والضجيج لأني اريد اجلاء وجه الأدب وتصفية جوه من الغبار المزعج..

ويبتدئ حديثه عن التجديد في الشعر بتحديد الاسباب التي ادت الى ظهور الرمزية وخصوصاً في الشعر الفرنسي وما احدثته من ردة فعل اجتماعية وسياسية مبيناً ان الأدب الفرنسي عرف بالوضوح والانسجام وجمال العبارة، وقد رسمت الرمزية له خطاً واضح اللون ومحدود العلاقة والرأي المجرد. ثم يقول: وصلت الرمزية على يد شارل بودلير منزلة فنية تلائم الذوق الفرنسي، وخلقت امثلة تزيد في الخيال اتساعاً وتبعد الشاعر عن تأثير الحاسة المادية للانسان ولاشك ان شعر الرمز تأثر بشعراء الإبداع الرومانسي امثال موسيه وبيرون وهوجو وراسين.. وعن موقف الأدب الانجليزي ونقاده من الرمزية يبين في ايجاز محدداً العلة في عدم الاندفاع الى الرمزية لما وجدوا فيها من ضبابية وغموض اخرجته من النغمة الموسيقية والابداع الفني فى الصياغة الفكرية، ولم يستوح الأدب الرمزي جماله من تجربة صادقة واضحة السمات تشرق فيها روح الفن والابداع بوضوح انما يحس بها المتلقي مجردة من العاطفة مهتمة فقط باللفظ بدلالة الايحاء المستقبل في موسيقى اللفظة، وحولت التجربة الواضحة في الكون الى حركة ايحاء تفرض على المتلقي رؤيتها وان يكون ولع اقتران نفسي ورغبة مكبوتة تنسجم مع هذا الايحاء. وبذلك اصبح الرمز كثير التعقيد والغموض فانزلق الى الزيف والتزوير ولم يعد سحراً فنياً يرسم الصورة الجميلة الواضحة ويؤثر في النفس واحساسها.. ويتساءل: هل تأثر الشعر العربي بهذه الدوافع وهل أن اللغة التي ينظم فيها الشعراء اليوم لها قابلية الايحاء. وهل عرف هؤلاء ان مناهج النقد الغربية في الشعر الحديث تختلف عن مناهج النقد العربية.. ويؤكد ان النقد يستمد اصوله من علم الاجتماع وعلم النفس الذي تأثر في الغرب بنظريات فرويد الجنسية المنحرفة ووجد المفكر العربي نفسه امام معضلة مسايرة الانحرافات الربية في هذه النقطة وهو يتلقى ذلك الفيض من الفلسفات الغربية المتنوعة والمذاهب الفكرية التي غزت الساحات العربية بما كان مترجماً او منقولاً بلسان كتاب عرب قرأو تلك الافكار الغربية عن الوجودية والاشتراكية واللامعقول والبرناسية والسريالية والدادية فان سايرها المثقف العربي فهو اما أن يلغي عقله وثقافته ويسير مغمض العين مع تلك التيارات فلا يفقه فيها شيئاً سوى انه قد تلمعه وتعطيه مظهراً مميزاً امام الاخرين وقدراً من الاحترام والتقدير على انه مثقف ومطلع على الثقافات العالمية حتى لو حرم نفسه من اصالته واصالة الحضارة التي ينتمي اليها، اما الخيار الآخر امامه فلم يكن سوى خوض معركة غوغائية مع ابناء جلدته العرب من المعجبين بكل معطيات الثقافة الغربية غثها وسمينها هؤلاء الذين لديهم الاستعداد للهجوم والتجني وسرد قائمة من الاتهامات العجيبة التي تسهدفه لانه لايقبل امراً مخالفا لعقله ومصادم لدينه وثقافة حضارته التليدة وهو يحاول حينئذ ان يحارب في ساحتين معاً في نفس الوقت ساحة تبرئة نفسه من تهم الجهل والتخلف والرجعية وساحة الأصالة الفكرية التي يرغب تأكيدها في نفسه بدافع من قناعات ذات مرجعيات صحيحة ليكون اقتباسه من الغرب وافكاره معتمداً على اختيار الفكر والذوق غير المتلوث بلوثات المفكرين الغربيين وصيحاتهم المنادية بكل جديد من التجارب المنافية للانسانية والمغايرة للعواطف الشريفة التي لا هدف لها سوى الوصول الى الابداع الفني والأدبي الجميل وليس الى اغراض اخرى قد تكون خلفها اغراض غير سوية واهداف غير مشروعة. فيقول: أخذ الدارس العربي يقرأ هذه النظريات والفلسفات ورغب في مجاراتها فأساء فهم النظرية عندما اراد أن يبني على قواعدها فكراً جديداً مفيداً نابعاً عن حاجات المجتمع الطبيعية ومثله الحضارية وإرثه العميق وتراثه الثقافي الأصيل.. وليت الأمر يقف عند فلسفة الغرب ونظرياته انما جهل هؤلاء اللغة العربية وواردها البنائية وأثر إختلاف العصور في تطور الذوق والمضمون الفكري للأدب واللغة.. ويبحث الدكتور يوسف في معني التجديد فيقول: هل يخضع التجديد في الشعر لقواعد التطور العامة. وهل كل تغيير تجديد مفيد. وانطلاقاً من هذين السؤالين يسبر غور مسألة التجديد في الشعر، فيعود ليؤكد عبثية التجديد او اقتباسه من الفكر الغبي من دون غربلة صحيحة لها، ووقفة جادة عندما يمس الثوابت العربية والاسلامية من حيث القناعات الدينية والذائقة اللغوية العربية المتميزة بالبلاغة والفصاحة. لقد حفل العصر الحديث بمحاولات جادة من الرواد العمالقة في التجديد الذين استطاعوا الموائمة مع اهدافهم في احياء التراث العربي والفكر الاسلامي تحقيقاً ونشراً لاعادة الثقة بالنفس والقوة للأدب، فقد جاء البارودي وقلد الشعر القديم ونجح في احياء الاثار الشعرية للادب الجاهلي وامكانية ربطه بالحياة المعاصرة في"المختارات"وظهر على شعر الاتجاه التطويري في التعبير عن العالم الخارجي وعن المجتمع وبعث في الشعر معان جميلة لم يتطرق اليها احد من قبل في تصويره حياة الشعب ومعاركه وثورته على الظلم والطغيان وأدى صوته المتعالي بالشعر وغيره ضد الانجليز الى سرنديب منفياً، وقد زاده الأمر امعاناً في الهجوم على الانجليز واعتبرهم سر البلاء والمصائب التي وقعت بمصر وكل هذا اعتبر من مظاهر التجديد في اغراض الشعر العربي وصوره في العصر الحديث مع انه لم يترك جزالة الشعر القديم واصالة الادب قي مضمونه ومعانيه وجدد الشكل في نظم الشعر فلم يلتزم بالعروض وخصوصاً في الابيات التي لم يعرفها علماء العروض مثل: ليس من اسى مثل من جرح ـ أين من رأى فاسداً صلح ـ
كل من وشى سوف يفتضح ـ فاترك الأذى فالأذى ترح ـ وأسع للعلا من سعى نجح.
وتأثر بتجديد البارودي الكثير من اساطين الشعر الحديث المجددين منهم اسماعيل صبري وهو استاذ شوقي وحافظ وسرت روح التجديد في سائر ارجاء الوطن العربي لأن الحياة الحديثة التي اختلطت فيها مثل الغرب مع الشرق طورت المثل الأدبية فكان رد تحدي الغرب للأدب العربي تجديده وتطويره واحتك شوقي بالغرب عن قرب فحاول تجديد الشعر باظهار التأثير الثقافي للغرب في نفسه، واخذ يتخلص من اسلوبه القديم ويخطو بحذر نحو التجديد وظهر في مقدمته التي كتبها عام 1898م انه لن يدخل الشعر مضي اللفظ والصناعة لانه يكره ظلمات الكلفة، وانما في تجديده اسلوباً فنياً جديداً، وحدد اصولاً وقواعد فنية هي ان يكون الشاعر اصيلاً وله سليقة مواتية، وان يكون الشاعر متسع المعارف الثقافية والادبية، والعناية بالشعر عناية كبيرة والتفرغ له لكي يتقن الشاعر شعره ويأخذ قصب السبق في الخلية الأدبية.. وظهر تجديد شوقي منسجماً مع بداياته المرتبطة بالتراث.