من اصدارات المدى .. المحاكم الاستثنائية في العراق

من اصدارات المدى .. المحاكم الاستثنائية في العراق

بغداد/ أوراق
القضاء بصفته ملاذا آمنا للانسان، يحافظ على حقوقه ويشكل صمام أمان تجاه تعسف السلطات من خلال تطبيقه للقوانين بأمانة وحياد، يطلعنا القاضي زهير كاظم عبود على أهم مهامه في كتابه (المحاكم الاستثنائية في العراق) والصادر عن دار (المدى) للثقافة والنشر مبيناً ان القضاء العراقي

عبر التاريخ الحديث كان مشهوداً له وفي اشد الأزمات بمراعاة العدل وتطبيق القوانين وإعلاء كلمة الحق مسجلاً صفحات ناصعة من السيرة التي نفتخر بها.. ويقول: تشكل الأسماء التي تركت بصماتها في سجل الخالدين من القضاة العراقيين أرثا من الأحكام والقرارات والمواقف التي حق علينا أن نفتخر بها..
وتميز رجال القضاء ليس فقط في المثابرة والرصانة، إنما عرفوا بالاجتهاد والجرأة والالتزام بما يمليه عليهم السلوك القضائي وشرف المهنة، فكانوا أشبه بالزاهدين، ولهذا ارتقى القضاء العراقي وأحتل موقعا متميزاً برجاله وباحترام السلطات لمكانته واستقلاليته، ولأن المحاكم مصونة من التدخل في شؤونها فكانت أمينة على تطبيق القوانين وبالحياد في قراراتها وأحكامها، فالقضاء مهمة نبيلة ومقدسة عند جميع الشعوب وقد اكدت عليها آيات القرآن الكريم.. والقضاء يعني إقامة العدل وتطبيق أحكام القانون والفصل بين المتخاصمين، وليس غير القضاء من يقوم بهذه المهمة بحكم تخصصه في ذلك وحياده، ولأنه الضمانة الأكيدة لحفظ الحقوق والواجبات كما ويحرص على تطبيق الدستور والقوانين النافذة تطبيقا سليما، والمساهمة في تطبيق معايير العدالة وتأسيس دولة القانون.. ومهامه من المهام الخطيرة التي أحاطها قانون التنظيم القضائي بضوابط أكدتها الدساتير، ولابد من توفرها فيمن يتقلد منصب القضاء، ويعمل على إحقاق الحق وفرض سيادة القانون، وحفظ الأمن والنظام في المجتمع، وهي المهام التي تشكل مطلبا أساسيا فاكتسبت تقدير واحترام المجتمع.. وحيث أن وظيفة الدولة تتمثل في الحفاظ على النظام الاجتماعي عن طريق فرض الالتزام بالقانون وتطبيق الحقوق والواجبات المنصوص عليها في الدستور، لهذا فان اغلب الدساتير تنص على المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات أمام القانون بغض النظر عن أديانهم وقومياتهم وأجناسهم وعقائدهم، وتؤكد أغلب دساتير الدول على استقلالية السلطة القضائية باعتبارها ركيزة من ركائز الديمقراطية، وان مهمة القضاء محصورة بعمل القضاء الاعتيادي الذي نص عليه الدستور ونظمته القوانين، حيث ينظم القانون تكوين المحاكم ودرجاتها وأنواعها واختصاصاتها وكيفية تعيين القضاة وشؤونهم، وفي الوقت ذاته تؤكد الدساتير على حظر إنشاء المحاكم الخاصة أو الاستثنائية مهماً كانت الظروف. ولفت: إلا انه في أحيان كثيرة تلجأ السلطات إلى سلب جزء من الاختصاص الوظيفي للقضاء وإعطائه إلى القضاء الاستثنائي تحت ذريعة الظروف الطارئة أو الاستثنائية، وبرغم أن هذا العمل يعد خرقا دستوريا، فأنه أيضا عمل مناف للعدالة ويتناقض مع مفهوم ومبادئ الديمقراطية، وتعسفا تجاه الأفراد، وفي أحيان نادرة عملا مشروعا وفقا للظروف الطارئة التي يراد معالجتها.. وأوضح: أن نظرية الظروف الطارئة تجد لها محلاً في التطبيق أمام المحاكم المدنية، إلا أن حالة الظروف الاستثنائية تجد لها الكثير من عدم القبول وتنتج السلبيات حين يراد تطبيقها عمليا في القانون الجنائي، فهي حالة تتعكز عليها السلطات في تعليق عمل القضاء وسلب اختصاصه من أكثر الموضوعات تعقيدا وإثارة، وذلك من خلال ماتثير من أوضاع شائكة ومعقدة للظروف التي غالبا ما تتعلق بالسياسة والأوضاع الطارئة التي تجد السلطة نفسها فيها، ولذلك كانت نظرية الضرورة مثار اهتمام الفقه والقضاء. فهذه النظرية لها أهميتها في بعض أطوار الحياة الإنسانية، وبرغم أن الجميع لا يستغنون عن القواعد التي تنظم حياتهم في صورتها العادية فإنهم أيضا لا يستغنون عن القضاء والتطبيق القانوني السليم في أثناء الظروف الاستثنائية.. فحالة الضرورة استثنائية تجعل من تطبيق الأحكام العرفية خرقا لمبادئ الدستور، ولجوءاً لحل أوضاع معينة بوسائل لايقرها القانون والدستور، وبالتالي فأن اعتماد المحاكم العرفية أو الاستثنائية يعد خروجاً عن أحكام القانون ومخالفة الدستور واستباحة الضمانات التي وفرها الدستور للمواطن، وقد عرفت المحاكم العرفية بأنها المحاكم التي تشكل في ظروف استثنائية وتختص بالفصل في أمور معينة بموجب نص قانوني خاص ولا تتصف بصفة الدوام لأنها تزول بزوال الظرف الاستثنائي. وعلى ذلك هناك من يبرر للدولة لجوئها إلى القوانين والمحاكم الاستثنائية، فالأعمال والإجراءات التي تتخذها السلطة في ظل حالات الضرورة والتي تعتبرها مشروعة مستندة في ذلك على مبدأ الظروف الطارئة، بزعم أن هذه الأعمال لها مبرراتها القانونية، ولأن هذه الأعمال تتم في ظروف الأزمات التي قد تهدد سلطة الدولة أو كيانها. فالهدف من هذه الأعمال المحافظة على الأمن والنظام العام، وبالتالي فأنها قد تضر ببعض الأفراد، ولأن الضرر فيها يكون وارداً بطبيعة الحال بالنظر إلى طبيعة الإجراء الاستثنائي ذاته وما ينطوي عليه من مخالفة للقانون، فمن المسلم به أن كثيراً من الدول قد تصادف حالات وظروف تندرج تحت حالة الضرورة، وحتى لا تستمر الدولة في اللجوء إلى هذه الأفعال والتي تؤدي إلى استعمال التعسف عند ممارسة هذه السلطة. فهذا لا يعني عدم التعرض لهذه الظروف والأزمات، لذلك فأن بيان حالات الضرورة وضوابطها وشروطها وأحكامها حتى تعرف الدولة متى تتحقق حالات الضرورة؟ وما مدى تأثيرها في منع المسؤولية عن الواقع الاستثنائي؟ وبالتالي تكون على بيِّنة من حالات الضرورة.. والاستثناء في اللغة اسْتَثْنَيْتُ الشيءَ من الشيء: حاشَيْتُه كما ورد في لسان العرب، والأصل أن القضاء يختص بالوظيفة القضائية وهو مستقل لا سلطان عليه في عمله لغير القانون، وكل استثناء من هذا المبدأ يعد خروجاً على المبدأ وخرقا دستوريا يسلب اختصاصات القضاء في الفصل بالقضايا كافة وفقا للقوانين النافذة.. وعليه فأن المحاكم الاستثنائية هي التي يتم تشكيلها في ظروف استثنائية وتختص بالفصل في أمور معينة بموجب نص قانوني خاص وتتميز أنها لاتبقى مستمرة في عملها إذ تزول بزوال الظروف التي دعت السلطة لإنشائها، وغالبا ما يكون أعضاء هذه المحاكم من غير القانونيين والقضاة.. أن وجود العدالة كقيمة أخلاقية داخل المجتمع يدل دلالة أكيدة على أن المجتمع الذي يؤسس تلك القيم على العدالة يضمن للإنسان إنسانيته ويحفظ كرامته، وبالتالي احترام تلك القيم التي تمثل العدالة جزءا منها.. والعدالة البشرية بطبيعتها ليست متكاملة إضافة الى أنها ليست مطلقة ويتخللها النقص دائما، ولهذا فأن التجربة السياسية المريرة التي مرت على العراق منذ بداية الحكم الوطني الملكي، وانتهاء بسقوط سلطة الدكتاتورية في العام 2003، كانت فترة تتطلب الاستفادة من تلك التجربة، من خلال قراءة التأريخ العراقي بشكل عام، وخصوصاً مسيرة القضاء العراقي كجهة مستقلة وفاعلة تسعى الى تحقيق العدالة وممارسة السلوك القانوني الملتزم بقواعد الأصول والقوانين الدولية وحقوق الإنسان، أو في الابتعاد عن ما يسمى بالمحاكم الاستثنائية أو محاكم الطوارئ التي تشكلها الحكومات خارج أطار العمل القضائي لظروف معينة، لما سببته من تصدع وظلم وتسويف لمفاهيم العدالة والحقوق ضمن المجتمع العراقي في فترات قريبة.. تحمل الشعب العراقي الكثير من الظلم والحيف وعدم تحقق أدنى درجات العدالة أمام هذه المحاكم الاستثنائية، وتجسد الظلم القومي والطائفي والسياسي في فترات سياسية مر بها العراق، بقيت أسماء تلك المحاكم وحكامها عنوانا للظلم والخلل والإساءة لمفاهيم القضاء والقانون، وهتك فاضح وصارخ لأسس العدالة وحقوق الإنسان في العراق، وصار أسم المجالس العرفية ومحاكم أمن الدولة ومحكمة الثورة ومحكمة الأمن العام ومحكمة المخابرات، والأمن الخاص ومحكمة اللجنة الأولمبية، والمحكمة الخاصة بوزارة الداخلية، وغيرها من المحاكم التي لم تحمل سوى الاسم علامات فارقة تشير إلى الظلم والقسوة وقد ترسخت سلبياتها في الذاكرة العراقية لافتقاد العراقيين أمامها لمحاكمات عادلة وعلنية أو تتوفر فيها التطبيقات العملية للقواعد القانونية المعمول بها والتي يقرها الدستور وتنص عليها القوانين، وطالما شكلت فكرة إلغاء المحاكم الاستثنائية أمنية لكل عراقي، وأن يعود نظر جميع القضايا الى القضاء العراقي بالشكل الطبيعي.. وعليه فأن فكرة الطوارئ تعني نظاما استثنائيا تنتقل بواسطته الصلاحيات المناطة بالسلطة المدنية إلى السلطة العسكرية، وتعني أيضا تغليب فكرة الأوضاع الطارئة على الأوضاع الطبيعية، وسلب اختصاص القضاء المنصوص عليه في الدستور تحت ذريعة الظرف الطارئ، وهي إما أن تكون هناك أسبابا حقيقية موجبة تترك لأعلى هيئة تشريعية أن تتخذ القرارات بناء على طلبات أصولية رسمها الدستور، أو أن تكون سببا تتخذه السلطة التنفيذية لفرض سطوتها وسيطرتها على مناطق معينة أو على جميع المناطق ضمن ظروف معينة. وهذا النظام بالغ الخطورة بالنظر لتأثيره على الحريات الأساسية للمواطن، ويلزم أن يتم تطبيقه في الظروف الطارئة ضمن إطار ضيق حيث تمارس على وفقه السلطات صلاحيات مطلقة في السلطة وأدوات الحكم مما يشكل هيمنة كاملة لها يتجسد بشكل أحكام عرفية تستند على قوانين الطوارئ، وبموجب هذا النظام يمكن تعطيل جميع الحقوق والحريات التي نص عليها الدستور.. وعرف العراق المحاكم العرفية وأحكام الطوارئ منذ ثلاثينات القرن الماضي، وخضع الناس لأحكام الطوارئ مدداً زمنية ليست بالقصيرة، وكانت الحكومات تلجأ لهذه المحاكم والمجالس العسكرية تحت ذرائع مختلفة غير أنها في جميع الأحوال تشكل صورة من صور المحاكم الاستثنائية.. وأن تاريخ المحاكم الاستثنائية والمجالس العرفية والمحاكم الخاصة في العراق موضوع لم يسبق لأحد أن بحثه بالذات، وأن توفرت مصادره القانونية والقضائية فهي قليلة جداً، لذا فلم نجد مرجعا يعيننا على التوغل في أعماق الموضوع، بالنظر للظروف التي كانت تمنع الباحث من ولوج هذا البحث وتعيق الكتابة فيه سابقا، ولم يتطرق إليه باحث من قبل بشكل مباشر ومفصل، لذلك وجدنا أن موضوعه جزء حيوي مهم من تاريخ العراق الحديث، وله صلة بتاريخ القضاء العراقي أيضا، ولأهمية الموضوع نجد إننا بحاجة إلى مساهمة الباحثين في هذا المجال.