نجدة فتحي صفوة..البغدادي الأنيق

نجدة فتحي صفوة..البغدادي الأنيق

د. رشيد الخيّون
كم يكون الاختلاف مع المؤرخ والدُّبلوماسي نجدة فتحي صفوة (1923-2013) عميقاً لكنه، يبقى لا يتجاوز القول السَّائر: “الخلاف في الرأي لا يُفسد للود قضية”، على الحقيقة لا على المجاز. لأن الرَّجل تمرن على هذا النّهج في أسرة مثقفة، الأب كان نحاتاً وأديباً، والأسرة متبغددة حق التَّبغدد،

إذا علمنا أن الأخير صنو التَّحضر، مثلما كان ذلك في عصورها الزاهية، حتى سمَّي أحد شعراء بغداد وهو علي بن محمد الهاشمي بـ “تبغدد” (انظر: المرزباني – ت 384 هـ- في معجم الشُّعراء). يضاف إلى ذلك أنه قضى جل عمره الوظيفي في السّلك الدُّبلوماسي العِراقي (1945-1967)، يوم كانت الدُّبلوماسية تعني تمثيل البلد بالمظهر والسُّلوك والموقف أيضاً. لا تمثل دائرة أمن ومخابرات أو حزباً أو مذهباً وديانة، بل تمثل العِراق بسواده وبياضه.
تعرفت إلى نجدة فتحي صفوة عن قرب، قبل نحو عشرين عاماً، وجدته خزانةً للمعرفة، في التَّاريخ الحديث والأدب الحديث أيضاً، تألفت لي أصرة مع الرَّجل، وكم استفدتُ مِن مكتبته الشخصية، التي تحدث عن مصيرها بقلق الوالدة على ولدها، وظرف العِراق الرَّاهن لا يحتمل حماية حتى الكتاب. لم يبخل عليَّ بكتاب مع أنه كان شحيحاً في إعارة الكتب. تألفت لي آصرة معه وهو الملكي القُح وأنا الجمهوري القح أيضاً، كان لا يحب محمد مهدي الجواهري (ت 1997) وأنا لا أساوم على شغفي بهذا الشَّاعر، ومع ذلك ما كنتُ أغضب منه ولا هو يتعصب ضدي وأنا أحامي عن الزَّعيم عبد الكريم قاسم وثورة 14 تموز، مع أنني أحب الملك أيضاً، وأحببت الجواهري وهو يقول للملك الشَّاب الجميل: “ته يا ربيع بزهرك العطر النَّدي/ وبضوئك الزَّاهي ربيع المولدي”، تلك القصيدة التي تبرأ منها الجواهري ظلماً لها وضيقاً من الألسنة التي ردَّ عليهم بقوله: “عدا عليَّ كما يستكلب الذيبُ/ خلقٌ ببغداد أنماط أعاجيب”! قال خلقٌ ولم يقل قومٌ فالمراد واضح مِن المعنى، وحاشا محمد صالح بحر العلوم (ت 1992) أن يقولها بأبي فرات، ولا نذكر قائلها.
لما فسر لي أحدهم بأن موقف نجدة فتحي صفوة مِن الجواهري كان موقفاً طائفياً، قابلته بالدَّليل على أن ضمير الرَّجل لا يحمل تلك الجرثومة وهو على هذا المستوى مِن الأناقة والتَّبغدد، فرددت على مَن فسر ذلك بتحقيق صفوة لمذكرات الوزير رستم حيدر (اغتيل 1940)، وهذا الكتاب أمامي. يقول صفوة عن الوزير الشِّيعي رستم حيدر: “محمد رستم حيدر شخصية فذة في تاريخ النَّهضة العربية، وتاريخ العِراق السِّياسي الحديث، اجتمعت فيه صفات جعلته نسيج وحده بين رجالات العرب وساسة العِراق في العهد الملكي…”(مذكرات رستم حيدر، بيروت 1988). فلو كانت للطَّائفية شعرة في قلب نجدة فتحي صفوة لما حقق مذكرات شخصية شيعية بارزة، وما كتب عنه بما أكثر مما ذكرنا، لكن عدم حبه للجواهري قد يشاطره معه الكثيرون ولا صلة للطائفية بهذا الشُّعور. فالأمر على شاكلة مَن لا يحبون المتنبي (اغتيل 354 هـ)، والجواهري ضمن ذلك لمَن هجوهه على قصيدة “التَّتويج: “مِن قَبلِ ألفٍ عوى ألفٌ وما انتقصت/ أبا المحسد بالشَّتم الأعاريبُ”. وكان قد قال فيهم أيضاً: “خلقٌ ببغداد ممسوخ يفيض به/ تاريخ بغداد لا عربٌ ولا نوبٌ”، وواضح أنه ميز بين العرب والأعاريب، وللقرآن في هذا آية. ونجدة لم يكتب ضد الجواهري، ولم ينظم هجاء به، إنما شأنه شأن الشريف الرضى (ت 436 هـ) مع المتنبي، ذلك إذا صحت رواية ياقوت الحموي (ت 626هـ) في معجم الأدباء وهو يسرد ترجمة أبي العلاء المعري (ت 449 هـ).
كان نجدة فتحي لا يحب محمد مهدي الجواهري، وأنا لا أساوم على شغفي بهذا الشَّاعر، وقد فسر لي أحدهم بأن موقفه هذا كان طائفياً، فرددت عليه، وقابلته بالدَّليل على أن ضمير الرَّجل لا يحمل تلك الجرثومة وهو على هذا المستوى مِن الأناقة والتَّبغدد
ترك مؤرخنا نجدة فتحي صفوت العِراق العام 1979، ولو لم يكن معروفاً بميوله لحُسب على أهل اليَّسار مِن المنتمين إلى الحزب الشِّيوعي العراقي، فجلهم غادروا العراق في هذا العام تحت جنح الليل. أجريت معه حواراً (1994) ونشرته في مجلة “النور” الإسلامية التي كانت تصدرها مؤسسة الإمام الخوئي، سمعت منه قصة إحضاره من الثانوية إلى الإذاعة في انقلاب رشيد عالي الكيلاني (1941)، ومنه علمت أكاذيب الإعلام أثناء الأزمات والحروب، أُحضر للسانه السليم في العربية وصوته القوي، فكان إذا جاء الخبر بسقوط طائرة يأتي المسؤول ويأمره أن يذيعه: سقوط عشر طائرات وهلم جرا مِن المبالغات.
زرته قُبيل مغادرته إلى العاصمة الأردنية عمان، نحو العام 2006، مودعاً، فقص عليَّ قصة مثيرة جرت له، ولم يكتبها ونادراً ما تحدث بها، كان بطلها أحد العاملين في المركز الإعلامي العراقي في أوائل الثمانينيات بلندن، وعلى ما يبدو أن تلك المراكز كانت تقوم بمهام مخابراتية أو أَمنية. يقول: أتصل بي المسؤول الإعلامي لمقابلتي، ذهبت وإذا هو يطلب مني كتابة تقارير عمَن أعرفهم مِن المعارضة العِراقية، ومَن على اتصال بهم، بحكم الزمالة السَّابقة. فرفضت هذا الطلب بحدة، أن هذا ليس مِن سلوكي! كانت عبارته البغدادية “استنكف” مِن مثل هذا السُّلوك!
يقول: نسيت الحادثة، وبعد شهور طويلة وصلتني دعوة لحضور مؤتمر المؤرخين العرب ببغداد – كان عضواً في اتحاد المؤرخين العرب- وبعد انتهاء المؤتمر كنت أمام استعلامات الفندق لإجراء المغادرة، وإذا رجلان يطلبان مني مرافقتهما إلى دائرة المخابرات، فقلت لهم: حان موعد سفري ولم يبق لى سوى مسافة الطريق إلى المطار. فقالا: ستسافر، فالقضية لا تستغرق كثيراً. تركت حقيبتي وذهبت معهما إلى دائرة المخابرات العامة. فأُدخلت إلى مكتب رئيس جهاز المخابرات آنذاك برزان التكريتي (اعدام 2007)، سلمت عليه وكان جافاً، ولم يرد السَّلام، فقال لي: أين جواز سفرك، فأخرجته وسلمته له، فأخذه واحتفظ به في درج المكتب وقال لي: ليس هناك سفر! وحدثني بجفوة: حضرتك “تستنكف” مِن التَّعاون معنا؟!
يضيف صفوة وأنقل نص ما قاله: نسيت ما حصل مع المسؤول الإعلامي بلندن، وما طلبه مني آنذاك. فقال برزان: ألم يطلب الجماعة منك بلندن وترفض التعاون؟ تذكرت وقلت له: نعم “استنكف” لأن هذا ليس عملي! فأنهى المقابلة وأبقى جواز سفري معه، مع منعي من السفر. فحاولت التوسط لديه لكن الواسطة قال لي: اترك الموضوع، فهو يقول: جيد نحن نتركه هكذا، ليسكت. واستمر منعي من السفر وعائلتي بلندن تنتظر أكثر من عام. ويضيف: كان فاضل البراك ( اعدم نحو 1993) قد طلب مني يوما ما مساعدته في إيجاد وثيقة تاريخية تخص العهد الملكي لبحثه الخاص، فشرحت له الأمر، وتوسط أيضاً، ولكن موقف برزان التكريتي لم يلن تجاهي. في هذه الاثناء جاء الفرج بعد إقالة برزان من المخابرات العامة وتكليف فاضل البراك رئيساً للجهاز، فبعث لي كي أزوره في مكتبه، وهو مكتب برزان نفسه، فجلست في المكان نفسه، وسحب الدرج نفسه وأخرج جواز السَّفر، وقال: الآن تنطلق إلى المطار، راجياً ألا تخبر أحداً بأني قد ساعدتك في هذا الأمر. فقلت له: احتاج لفيزة خروج، فقال: أكملت لك كلَّ شيء. فغادرت.
كنا نستضيفه بين فترة وأخرى في ديوان الكوفة فألقى محاضرة عما بين الزَّهاوي والرَّصافي، وعن الخاتون المس بل، وعبد المحسن الكاظمي ومواضيع أُخر، أتذكر قلت له: إذا أحببت أن تلقي محاضرة وتبين رأيك في الجواهري! فضحك وقال: لديه أنصار وأنت منهم! ذهبنا أنا والدكتور المعمار محمد مكية لزيارته في المستشفى (نحو 2000)، وكان يشكو مِن مرض القلب، ولما لم نجده اضطربنا، لكن الممرضين قالوا: خرج اليوم إلى البيت فاتصلنا للاطمئنان.
ما خسرناه بفقد نجدة فتحي صفوة هو ذلك الإنسان الذي لا يُعادي لموقف مختلف معه، ويضطر الآخرين أن يتعاملوا معه بهذا السلوك المثقف، فأنا الذي، في ما سبق مِن السَّنوات، لا احتمل مَن يذم الجواهري، كنت أسمعه ما أُريد، وأخرج منه متفقاً على زيارة أخرى.
كان يتعامل على أساس الثَّقافة والمواطنة والإنسانية، فكم كان شغوفاً بشخصية وزير الإعلام في العهد الملكي روفائيل بطي (ت 1956)، وهو مِن مسيحي العراق ووجهائه، وكان على صلة وثيقة بمير بصري (ت 2006) أحد يهود العراق ووجهائه، وساهم بتأبينهما عندما أقمنا مناسبتين لهما في ديوان الكوفة. هذا، ولو عددت مَن كان نجدة فتحي صفوت على صلات بهم، ما انتهيت مِن المقال. كان موثقاً مسكوناً بالتَّوثيق.
ما خسرناه بفقد نجدة فتحي صفوة هو ذلك الإنسان الذي لا يُعادي لموقف مختلف معه، ويضطر الآخرين أن يتعاملوا معه بهذا السلوك المثقف.. فالمفقود في ظرف العِراق الراهن لا يعوض مِن أهل الحجا والكياسة، لذا يتضاعف الحزن على هذا البغدادي الأنيق.
قلت وأنا أودعه كيف ستقيم بالأردن، كإقامة دائمة، قال: هذا الأمر حل منذ نهاية الأربعينيات، فقد كنت أحد موظفي السفارة العراقية بعمان، وعند نهاية عملي قلدني الملك عبد الله بن الحسين (اغتيل 1951) وساماً، ومِن شروط هذا الوسام الإقامة المفتوحة بالأردن. هنا تذكرنا البلدان التي تستقر على حال، وتحترم أوسمتها، فكم مِن أوسمة ألغتها الثَّورات والانقلابات ببلدنا، بل صار الوسام أو القلادة مبعث شرٍّ على صاحبها، فبعد الانقلاب تقطع كلِّ الحقوق وتتحول إلى تهمةٍ.
إن الحديث عن شخصية أحبها واحترمها، مع اختلافي العميق في الرأي معها، نجدة فتحي صفوة لا يكفيه مقال، وأمامي مِن كتبه، التي عدت توريقها وأنا أقدم على كتابة هذه المدونة من غير “مذكرات رستم حيدر”، “معروف الرَّصافي سلسلة الأعمال المجهولة”، وهو كتاب يجمع بين النادرة والطرافة، وكتاب “حكايات دبلوماسية”، وهو كتاب لا يستغني عنه طالب نوادر الحكايات في عالم الدبلوماسية، وصفوة كان أحد الحاضرين لتلك الجلسة التي انفعل فيها أمين عام الحزب الشيوعي السوفيتي خروشوف في الأمم المتحدة، وكان الوفد العراقي جالساً خلف الوفد الروسي، وكتاب “مِن نافذة السَّفارة … العرب في ضوء الوثائق البريطانية”. هذا ما تحويه مكتبتي وبإهداء بخط يده، أما مؤلفاته الأُخر فكثيرة.
أختم مدونتي هذه عن نجدة فتحي صفوة، الذي افتقدته كإنسان، وبغدادي أنيق ومهذب جداً، وأستاذ، بما كتبه عنه المؤرخ والديبلوماسي عبد الهادي التَّازي، ولعلَّ هناك شبه وتجاذب بينهما، فكلاهما كانا مؤرخين ودبلوماسيين وأديبين متضلعين بمهنتهما وبكتابتهما، ومهذبين للغاية.
قال التَّازي، وكان سفيراً ببغداد وتعامل مع نجدة فتحي صفوة عبر وزارة الخارجية رسمياً وعبر التاريخ والأدب شخصياً: “كنت سعيداً أن يكون في صدر مَن تعرفت عليهم في العراق هذا الصديق العزيز، الذي كنت أجد في بيته ملاذاً لي وأنا أزاول مهمتي في بغداد سفيراً لبلادي، في فترتين اثنتين، كان من عيون الموظفين في وزارة الخارجية، ونحن كسفراء في حاجة إلى التقرب أكثر إلى الخارجية التي هي الوسيلة الوحيدة بين السفير والدولة…أقولها لمرة وألف مرة أن المفقود في ظرف العِراق الراهن لا يعوض مِن أهل الحجا والكياسة، لذا يتضاعف الحزن على هذا البغدادي الأنيق.
عن مجلة المجلة