نجدة فتحي صفوة..كتابة التاريخ بروح أدبية

نجدة فتحي صفوة..كتابة التاريخ بروح أدبية

للمؤرخ الناجح مواصفات كثيرة، منها أن يكون موسوعي الثقافة، مجيدا لأكثر من لغة، بارعاً في قراءة ما وراء المخطوطات أو الوثائق، يمتلك أسلوباً أدبياً رشيقاً، متيناً، وله خبرة في الدبلوماسية وإحاطة بعلم القانون.. فهذه الأمور مجتمعة تمنحه الموضوعية والحيدة في ما يكتب ويؤلف

ويترجم أيضاً، وصاحب السيرة الآتية في رأينا ممن تنطبق عليهم هذه الصفات.
سيرة:
ولد نجدة بن فتحي صفوة بن محمد سعيد، في بغداد، سنة 1923 في أسرة (آل قيردار). كان والده (فتحي صفوة) من خريجي دار المعلمين التركية في استانبول التي كان مديرها ساطع الحُصري. تولّى التدريس في العاصمة التركية خلال العهد العثماني. وعندما قدم إلى بغداد عاد إلى التعليم برغبة (الحُصري) فظل يمارس تدريس الرسم والاشغال اليدوية طيلة أربعين عاماً، اكتسب خلالها سمعة مشرّفة، وتخرجت عليه عدة أجيال، وصنع عدة تماثيل نصفية للملك فيصل الأول والزهاوي والملك غازي وغيرهم، ومن ألمع تلامذته: جواد سليم، فائق حسن، حافظ الدروبي، عطا صبري، محمد غني حكمت.
درس (نجدة) في مدارس بغداد ثم التحق بكلية الحقوق فتخرج فيها سنة 1945، وفي السنة نفسها أدّى امتحان السلك الخارجي وعيّن ملحقاً في سفارة لندن (1946)، واهتبل فرصة إقامته في العاصمة البريطانية ليدرس في مدرسة الدراسات الشرقية والافريقية بجامعة لندن. وفي سنة 1949 نُقل إلى عمّان فالقاهرة (50 ـ 1954) وانتدب مرتين خلال هذه المدة في سنتي 52 ـ 1953، للعمل كقائم بأعمال السفارة العراقية في عمّان. ثم خدم في جدة وباريس (1955) وأنقرة (56 ـ 1958) وعاد إلى ديوان وزارة الخارجية معاوناً لوكيل الوزارة ووكيل الوزارة بالنيابة، ثم انتدب وزيراً مفوضاً في سفارة واشنطن (1960) فموسكو (63 ـ 1966)، وتولّى حينا منصب القائم بأعمال السفارتين بالوكالة. وفي سنة 1967 عيّن سفيرا لدى الصين، لكنه لم يلتحق بهذا المنصب، بل استقال وتفرغ للكتابة في الأدب والدبلوماسية والتاريخ، وقد اهتمت الصحافة العراقية بنبأ استقالته وأعربت عن أسفها لحرمان الدبلوماسية العراقية من قدراته وإمكاناته السياسية والثقافية والفكرية.
قال مير بصري: كان نجدة من ألمع موظفي السلك الخارجي بلغ فيه القمة أو ما يقارب القمة. يجيد نجدة اللغتين التركية والإنجليزية، ويلم بطرف من الفرنسية والروسية من خلال عمله في باريس وموسكو.
وأمضى سنوات طويلة في لندن منقباً عن الوثائق البريطانية المتعلقة بالعراق والجزيرة العربية منذ بداية القرن العشرين، حيث اختار مجموعات كثيرة منها للنشر بعد أن دققها وترجمها، فيسّر للمؤرخين وطلبة الدراسات العليا والقراء مراجع مهمة عن أسرار المنطقة والعلاقات العربية ـ البريطانية في فترة حساسة من التاريخ العربي المعاصر. وهو يؤمن برأي المفكر الفرنسي ارنست رينان القائل: «إن الوثائق أداة خرساء بيد من لا يعرف كيف يحييها، وينفخ من روحه فيها».
ومن يقرأ مؤلفات نجدة، يجد مصداقا لرأي رينان، فهو يبعث الروح الحية في الوثائق التي ينتزعها من عالم صامت، رطب، كئيب، خائف من العث وكوارث الزمن. وتتميز مؤلفاته بأنها مكتوبة بروح المؤرخ المتمكن وأسلوب الأديب البارع، وهذا قلّما يحدث لمن نعرف أو نقرأ من مؤرخي العصر، ولعل السبب ـ أو الأسباب ـ أنه نشأ نشأة أدبية وتتلمذ «لعلي الطنطاوي» العالم الأديب، ثم تتبع مدرسة الرسالة التي أنشأها «أحمد حسن الزيات» ونتاجات «إبراهيم عبد القادر المازني» و«رفائيل بطي»، وعني بأدب المهجر ولازم «الأب انستاس ماري الكرملي» فاجتمعت هذه العوامل وسواها لتمنح قلمه الرشاقة والقوة والعذوبة والبراعة والدقة في اختيار الكلمات والعبارات اللائقة في كتابة سيرة أو دراسة أو تقديم كتاب.. إلخ.
أمانة المترجم:
اهتم صفوة بنشر الوثائق ومذكرات وذكريات الدبلوماسيين ورجال السياسة، قال في مقدّمة (العراق في مذكرات الدبلوماسيين الأجانب):
«وكثيرا ما نجد بين الكتب المترجمة ما تناول فيه المترجمون عبارات المؤلف بالحذف أو الزيادة أو التحريف، وسواء اعترف المترجم أن ترجمته كانت «بتصرف» أم لم يعترف، فلست أفهم كيف تسوّل له نفسه أن ينصب نفسه رقيباً على أذواق القراء، وإنتاج المؤلفين. وان توخي الدقة في الترجمة لا يفيد مطلقاً ان الكاتب يتفق مع المؤلف في كل ما يقوله.. وانه لتصرف أشبه بالنعامة حين نحذف الأمور التي لا تروق لنا منها، أو نحاول منع نشرها، فالكتاب ينشر في الغرب، ويباع بعشرات الألوف من النسخ، ويطلع الغريب، والعدو والصديق، على ما يقال فينا، ويبقى القارئ العربي جاهلا ما يكتب عنه، وهو أولى بالاطلاع عليه، وأقدر على تمييز صحيحه من مكذوبه». لقد سار «نجدة» على هذا النهج العلمي، الذي يجسد الإخلاص والموضوعية والدقة والأمانة في الترجمة في كل كتبه وآثاره.
يرى صفوة أن المؤرخ ـ بمعنى من المعاني ـ هو سائح أيضا، ولعله لا يستطيع أن يكون أكثر من ذلك، وهذا ما يجعل المؤرخ يشعر تجاه السائح بنوع من شعور الزمالة، فالمؤرخ سائح في الماضي، والسائح مؤرخ للحاضر.
وهو يعتقد «أن أدب الرحلات يظل حياً وحيوياً رغم التقدم العلمي وتطور المواصلات، والجديد فيه هو الأسلوب والوصف والانطباعات والأفكار المتداعية والحس الفني والتفاصيل الدقيقة التي ستكون في يوم من الأيام مصدراً خصباً للتاريخ».
عرب السوفيات:
ومن كتبه المبتكرة (العرب في الاتحاد السوفيتي) فهو يتضمن دراسات تسلط ضوءا جديدا على الوجود العربي في الإمبراطورية التي غربت عنها الشمس أوائل التسعين. ومنه يتبين ان جمهورية «أوزبكستان» تضم جالية عربية قوامها بضعة آلاف شخص، وفي تركستان وقرب (بخارى) هناك أكثر من ثمانين قرية يسكنها العرب لا تزال محتفظة بأسماء مثل: عرب، عرب خانه، عربليار، عرب قشلاق، عرب مزار.. إلخ.
تاريخياً يرى جماعة من الباحثين أن (عرب السوفيات) يتحدرون من العرب الذين رافقوا «تيمور لنك» إلى «سمرقند» في القرن الرابع عشر الميلادي، وهناك من يذهب إلى القول بأنهم من بقايا الحملات العربية التي وصلت الى المنطقة أيام الفتح العربي بقيادة قتيبة بن مسلم في القرن الثامن الميلادي.
وأبدى المؤلف أسفه لانصهار العرب في القوميات المحيطة بهم ـ خاصة الأوزبكية ـ وأن استعمال اللغة العربية في ما بينهم يختفي بسرعة كبيرة لتحل محلها احدى اللغتين الأوزبكية أو التاجيكية، فضلا عن الروسية، على أن جميع العرب الذين يتكلمون اللغة العربية في الوقت الحاضر يتكلمون إلى جانبها لغات أخرى، كما أن هناك كثيرين من الذين يعدون أنفسهم عرباً لا يعرفون شيئاً من لغة اجدادهم.
عني صفوة برواد الشعر في العراق كالزهاوي والرصافي، فألقى محاضرات عنهما، ونشر دراسات تتناول جهودهما الابداعية، ونشر مخطوطا مجهولا لمعروف الرصافي عنوانه (خواطر وافكار) مهد له بدراسة تتناول سيرة الرصافي وشاعريته، وقال إنه ـ الرصافي ـ كتبه اثناء عزلته في مدينة الفلوجة عام 1940 في دفتر مدرسي صغير، ثم أعاره لأحد اصدقائه فبقيت المخطوطة لديه حتى وفاة الرصافي، ثم أودعها ذلك الصديق لديه، فبقيت عنده أكثر من ثلاثين سنة، والنسخة بخط الرصافي.
يحتوي الكتاب على خواطر عنّت له في الأدب واللغة والدين والمجتمع، وقد جاءت هذه الخواطر، كما قال الرصافي، حرة طليقة من كل قيد، لم يرم من وراءها إلى غاية خاصة، ولا أراد بها اقناع مخالف أو إرضاء موافق، وهذه الخواطر كتبت بأسلوب مشوق وطريف، فيه تركيز عميق، وفيه تحد وإثارة، وهي تفتح آفاقاً جديدة للتفكير مع ما اتسم به أسلوب الرصافي من متانة العبارة وسهولتها في آن واحد.
الزهاوي:
ومن مزايا صفوة ان روح المؤرخ تتألق فيه دائماً، ففي محاضرة له عن «جميل صدقي الزهاوي» ألقاها في ديوان الكوفة بلندن (مارس (اذار) 1996) قال:
«في 12 مارس (آذار) 1937، أقيم حفل تأبيني للزهاوي حضره رئيس الوزراء وجميع الشخصيات المهمة في العراق، وأنشد علي الجارم، وشفيق جبري، وعبد الحسين الأزري، وفؤاد الخطيب، والاخطل الصغير (بشارة الخوري) قصائد في رثاء الزهاوي. وكان من حسن حظي، أن اصطحبني والدي لحضور هذه الحفلة التي أقيمت في قاعة سينما الملك غازي، وكنت في الصف الثاني المتوسط، وبدأت أتذوق الأدب العربي وما أزال احتفظ بمنهج الحفلة الذي وجدته بين أوراقي التي حملتها من بغداد..».