داود گباي .. شخصية عالقة في الذاكرة العراقية

داود گباي .. شخصية عالقة في الذاكرة العراقية

مازن لطيف
مثلما نجد بوابات أضرحة أولياء الله مخضبة بالحناء نذرا أو أمل بشفاعة أو عرفان في رد طلب وأداء نذر، فأن باب عيادة الدكتور (كبايه) كانت تتسم بالأمر عينه بالنسبة للعامة، ولاسيما في مدينة العمارة. وحينما رحل إلى بغداد، كانت جموع "أهل العمارة" على موعد مع حافلة خشبية منذ العام 1965 يعلن قائدها (كبايه..كبايه)، مساء كل يوم خميس في وسط العمارة، ويشرع بتسجيل الناس ليغادروا بهم الجمعة مبكرا. وتذهب الجموع الى بغداد لمعايدة بركة الدكتور كبايه والعودة أدراجها مساءً مكللة بالشفاء المؤزر بعد علاج نذهب الى أنه يبدأ من إيمان العامة بقدراته الطبيب الروحية واعتقادهم بملكاته ويقينهم المسبق بالشفاء. ولم يستحصل منهم مبالغ ولاسيما فقراءهم، بل بالعكس كان يقدم لهم الدواء مجانا في أكثر الأحيان.

كل العراقيين في العقود التي سبقت انقلاب البعث يتذكرون بشغف تلك الشخصية الألمعية التي كادت أن تكون أسطوريه في القدرة على إشفاء الناس من أمراض عضال، حتى نسجت حولها قصص الإعجاز وأنواع الخرافات، وكاد الرجل غير راغب أن يتبوأ مقام الأولية والصالحين، في مجتمع يئن الفاقة بكل شيء.
فما تزال الاجيال تتناقل اخباره وافضاله على ابناء أهل العمارة، حيث كان داود يملك بيتاً من طابقين في منطقة التوراة في المدينة، حيث يشغل الطابق الاول هو وشقيقته اما الطابق الثاني كان يشغله كعيادة لمعالجة المرضى حيث يأتون من قرى العمارة من الحلفاية ومسعيدة والميمونة والطوّيل والمجر وحتى هور الحويزة .وكان يقدم لهم بالمجان المبيت في بيته تلطفا وكرما عراقيا.
ومازال كبار السن في العمارة يتذكرون كيف التقى الدكتور داود في احدى مقاهي العمارة برجل ومعه طفلته التي كانت فاقدة للبصر وكان كباي حديث العمل في مجال إختصاصه ،و لم يمضي سوى سنتين على إجازته كطبيب، وكانت الطفلة عمياء منذ الولادة ولاينفع معها علاج .حيث قال له كباي انه يمكن علاجها ويعيد النظر اليها ، واجريت لها عملية مجاناً ،وتكللت بالنجاح وعاد للطفلة نظرها ومنذ ذلك الحين أشاع شهرة ونسجت قصص عن كرامات الدكتور داود كباي في المدينة.
أشتهر الدكتور داود كباي(1915-2003) في بغداد والعمارة بأسم (داود كبايه). واسم كباي "GABBAY" جاء من مهنة الجابي بالعبرية، وهي مهنة من يقوم بجباية التبرعات للكنيس أو المعبد اليهودي، ويقوم بادارة حساباته. واسم عائلته كباي تداوله اليهود السفرديم الشرقيون وليس الإشكناز الغربيين،وثمة عائلة كباي ببلدان الشرق الاوسط مثل ايران والهند وقد يكون اصل عائلة كباي من اصل عراقي حدث وأن نزحوا شرقاً منذ العهود القديمة.
تخرج الدكتور داود من الكلية الطبية العراقية في دورتها الخامسة العام 1938.
ولم ينجح علميا كطبيب بقدر نجاحه الإجتماعي، وحببه في قلوب الناس. حيث أنتقل الى بغداد عام 1964 ،وأفتتح عيادته في منطقة البتاوبن.
ولا نستغرب شغفه بالعمارة وأهلها، فالوجود اليهودي قديم فيها، والنبي العزير(عزرا) أحد دالات القدسية لهذا المكان. ونعلم من ان جمعية الإتحاد اليهودي(الإليانس) فتحت أول مدرسة للبنات في العمارة عام 1910، ولم نسمع أن بادر لذلك الفعل الحضاري الخير سلطان الترك أو باشا مندوب عنه أو رجل ميسور أو إقطاعي مترع بما كسبه من الفلاحين، أو معمم دين من مسيري الأوقاف أو جامعي الزكاة والخمس..
وبعد إنتقاله الى بغداد ،استقر في دار جديدة واصبح مقراً لعيادته وواصل اهل العمارة الحضور الى عيادته الجديدة. وقد تعرض كباي عام 1961 الى مداهمة بيته في بغداد من طرف رجال الامن بذريعة انه جاسوس لاسرائيل وتم مصادرة امواله (واحد وعشرون ألف دينار عراقي) الموجودة في الدار .
وتم توقيفه عدة ايام حتى اخرج بعدها بكفالة ، مما دفعه أن يذهب الى وزارة الدفاع حيث مقر الزعيم عبد الكريم قاسم .
وكان كباي زميله في الدراسة وبعد استقبال حار ومقابلته حميمة للزعيم وحوار خواطر وذكريات عن ايام المدرسة ، تساءل الزعيم عن حاجته فأستل وصل المصادرة ليريه إياه. وسرعان ما بادر الزعيم الى كتابة ملاحظة على الورقة ،وأوعز الى مرافقه وصفي طاهر وسلمه قصاصة من الورق كتب عليها " يعاد المبلغ الى الدكتور داود فانا اعرفه ولايمكن ان يتجسس على الدولة".
بعد انقلاب البعث على السلطة عام 1968 بدأت المضايقات الشرسة للدكتور كباي حيث اوقف عن الخدمة في وزارة الصحة بحجة انه كان يصف مادة الكورتيزون الى مرضاه واعتقل في قصر النهاية عام 1969 من تلك السنة السوداء بالنسبة ليهود العراق وأحرارهم على العموم، حيث تعرضوا لابشع حملة وزجو في السجون واعدم عدد منهم ومن ضمنهم شباب لم يبلغوا السن القانوني .
لقد عانى كباي واجبر على تحمل عطش شديد اضطر ان يشرب من جراءها بوله!.كل تلك المآسي دفعته أن يهرب من العراق سيراً على الاقدام من قصر النهاية ثم سافر إلى إيران ثم وصل الى لندن وقام بممارسة مهنته بصورة شخصية لليهود المقيمين في لندن لانه لم يعد يهتم بتحصيل التأهيل الانكليزي لممارسة الطب في لندن، وكان يعمل طبيب احتياط في بعض العيادات البريطانية من أجل ديمومة العيش.
كان الكثير من العراقيين والعرب يأخذونه بصورة شخصية للتشاور مع الاطباء في شارع هارلي ، ويذكر المرحوم يعقوب يوسف كوريه انه التقى به عام 1974 في لندن وذكر له انه احد مرضاه الذين يعالجهم في بغداد وتشكر منه وذكر له بمرارة انه أودع اموالاً أمانة عند بعض معارفه الذين أنكروها عليه تباعا.
كان كباي ينفث الحسرة في لندن عن الطريقة غير اللائقة التي لاقاها في وطنه العراق ، وعادة ما أعاد على مسامع ملتقيه الذكرى الطيبة وخواطر عن طيب الناس، التي انقطعت عام 1969 بعد وطأة غمة البعث، وانتهت بعدما اجبر قسراً للتوقف عن مهنة الطب ولم يرغب قطعاً بالعودة الى العراق.
وتذكرنا سيرته بالمرحوم علي الوردي الذي نبذ عن الأداء في نفس الفترة 1970، وهكذا مكث الدكتور داود على الهامش ومات منسيا، فرحمة الله ترعاه.