من اصدارات المدى..فاعلية الرؤيا وهاجسية الذات  في..(زهرة البرتقال)

من اصدارات المدى..فاعلية الرؤيا وهاجسية الذات في..(زهرة البرتقال)

زهير الجبوري
في قراءة متأنية لتجربة د. عبد الكريم راضي جعفر الشعرية الاخيرة، أجدني أمام قناعات افترضتها لحظة قراءتي مجموعته الشعرية (زهرة البرتقال / 2013)، هي أننا أمام احتكام مرن لبعض المعايير الفنية التي نفرض عليها تطبيقنا النقدي ازاء ما يتمتع به الشاعر من حبكة أكاديمية رصينة

(كونه واحد من أساتذة الأدب العربي الذين لهم باع طويل في العراق)، وما يكتبه من قصائد مشبعة بأحاسيس ذاتية / فطرية، وهذا التناظر بين الطرفين يبرهن لنا حقيقة الذات الفاعلة والمنتجة، الذات التي جعلت كتاباته الشعرية محطة شروع لإسقاطات ذهنية /شعورية، وبناء الصور المحكمة بموهبة ذاتية بعيدا عن الدرس الاكاديمي الذي يعيشه منذ زمن طويل..
لو قمنا بقراءة افتراضية، وبدلالات مفتوحة في المجموعة هذه، فإننا سنغور بتفاصيل الرؤيا الهائمة والمتشاكلة مع الذاتي والشعوري والذوقي، مستلمهمين انفتاحات الشاعر على تغلغلاته المتنوعة لكل ذلك، لاأعرف إن كان ذلك قد جاء عن قصدية البناء الشعري، أم عن اسقاطات استجاب لها لحظة الشعور بها، مع التنوع الحاصل بين القصائد ذات البناء الوزني (التفعيلي)، وبين بنية القصيدة النثرية المفتوحة، لأن وحدة المعنى ودلالته تنطوي على المضمون، نتذكر مقولة الفيلسوف الايطالي (كروتشه) عندما قال (كل قصيدة جنس في حد ذاتها)..
في ضوء ما قرأناه من قصائد متنوعة في (زهرة البرتقال)، فقد احتكمنا على تجربة الشاعر انه وريث النزعة الحداثية التي جاءت على أيدي شعراء العقد الستيني في العراق، حيث الاجواء المشحونة بأحاسيس رومانسية ووجدانية وهاجسية، كلها تذوب بنسقية الجملة الشعرية الغنائية، كما اشعر بأن القصيدة وحدها التي تمكنت من كشف خفايا الدكتور عبد الكريم راضي جعفر عندما اوضحت عن كونه كائنا رقراقا وشديد الحساسية مع الاشياء، لذا تكشف نصوصه.. ارتباطه ارتباطا وثيقا بالامكنة وبالشخوص وبالكائنات الاخرى، وبالعبارات الشعورية المتداولة، وغيرها..
وليس غريبا ان نعترف (ان التجربة الشعرية الحديثة هي تجربة مثقفة، فيها درجة عالية من الوعي والتصميم والصناعة دون ان يعي ذلك إلغاء لشرط الأصالة والموهبة والصدق الشخصي).. عندما تعمل القصيدة على مشهديات اسقاطية مستساغة من الواقع وتأثيراته المفروضة، فإنها تدخل في زعزعة الثابت الكامن في داخل الشاعر لتثيره وتعبر عن حقيقة شعرية،ولعلنا كشفنا ذلك في المجموعة هذه لإبراز الخصائص الواعية والمضمونية في كل قصيدة، بل وتشكل الحضور الكبير لدى الآخر/ المتلقي..
ومن صميم تجربة الشاعر، اتسمت بعض القصائد بميزات بنائية مكثفة، فيها من المهارات الفنية ما يسمى بـ(قصيدة الضربة)، وهذه تنتمي الى القصيدة القصيرة (وهي قصيدة تكشف عن وحدة الانطباع وتكون مشحونة بتوتر عال، وتحمل الكثير من السمات النقية الذاتية للقصيدة الغنائية).. باعتقاد خاص ـ بعيداً عن السياقات الاجرائية / التطبيقية ـ ألمس ان هناك تلقائية استسلم لها الشاعر، فهي وإن اوقعته بنمطية سلسة في صياغة نصوص شعرية بالمستوى الذي قرأناه، تقف عند ابتكارات صورية هائمة مع ذاته، ومن خلال الاسترخاء الحاصل في اللّغة الشعرية في (زهرة البرتقال)، فإنها ايضا اعتمدت على سياقات تناصية، لذا فالقصيدة عند (د. عبد الكريم) التقاط لحركة حضورية، حركة يقتنص خلالها لحظة التشكل للحالة الشعرية..

(في الجانب التطبيقي):
من خلال التنوع في الموضوعات التي تحملها القصائد، والطريقة التي اشرنا اليها في تعدد آليات الكتابة الشعرية، فقد ارتأينا ان نمسك ببعض الثيمات الاساسية الطافحة في المجموعة، منها ما يكشف عن الامساك بمفردات حسية تجاه الآخر (المهدى اليه)، ومنها ما يتمتع برؤيا شاملة لكل الاشياء المحيطة بالشاعر..
ففي القصائد (احتفل بالقبعة الجديدة ونم في ظلال قمر قديم.. و رذاذ الشتاء الدافئ.. ومطر.. رياض احمد / الولد نام.. وموسى كريدي.. وأمي.. أبي، وغيرها)، تظهر الاهداءات بوصفها شكلا من اشكال القصيدة الشعرية، ومنها ما تحمل العنونة ذاتها (ثريا النص)، لتشكل عتبة نصية واضحة..
في قصيدة (احتفل بالقبعة الجديدة) المهداة الى الراحل القاص (محمود عبد الوهاب)، نقرأ فعل الحوار الداخلي الذي سحبه النص بإحساس غنائي ملموس:
قلت مرة:
ارتق زهرة للندى
وأمسح الحزن، إنّ الذي يرتّق البسمة الممرعة، سيد من رفيف الكروم، والخفة الوادعة
(ثم بعدها): يا سيد القص، كانت لك امرأة في الشذا،
تفتح الشمس والأغنية (ص19).
نجد مثل المقطع الذي أمامنا صعود حدة الآخر عبر مقاطع شعرية مفعمة بنداءات الغائب (المهدى اليه)، لذا جاءت كلمة (سيد) و(يا سيد) سبع مرات لتؤكد سيرته وبعض آثاره الابداعية، لكن بهيمنة القصيدة وشروطها اللّغوية المطلوبة..
اما ما يخص نمط القصيدة القصيرة في المجموعة، فقد تنوعت موضوعاتها وتوظيفاتها الدلالية، فهي بالرغم من وضوح لغتها وما تحمله من تجليات ذاتية بائنة، فقد تجانست بقصدية البناء وفضاءات المعنى مع القصائد الاخرى، لذا جاءت القصائد (رائحة الندى البهي.. صباح الخير.. دم القلب.. الحضن. اشّاه.. زهر البرتقال.. افتتاح.. زهراء.. المفاتيح.. عشق عتيق.. ورقة عيد اولى، الوجع.، وغيرها)، لتبين الامكانية التي يتمتع بها الشاعر في هذا اللّون، ونمسك بمهارة البناء الجملي فيها، فهي قصائد لا تميل الى التفلسف واللّعب اللّغوي / الذهني، انما تبتز العواطف وتثير الشجن عبر شواهد دلالية ضاربة، نقرأ في قصيدة (عشق قديم):
أول البحر، رملة يافعة
وأول النار، نفحة من رحم الندى،
وأول القلب رعشة من خطى دافئة.. فلتكن في اوّل الخطو
بعض عشق قديم (ص87).
كما نقرأ في قصيدة (دم القلب): (أنت، ايتها الواقفة بين الندى، والنهار: اذبحي دم قلبي.. أكن نخلة.. من نخيل الجنوب)(187).
وايضا في قصيدة (الوجع): (حلمتك طفلة، على كتف الروح / وحين كبرت، انعتقت اوردتي / ثمّ.. ذبت فيك / آه! أنا وجع البكاء)(195).
هذه القصائد (وهي انموذج للعديد من القصائد الاخرى)، تشكل اللّون الشعري المختزل الذي يعطي معنى مكتملاً بعيداً عن الترهلات الفضفاضة، انما الامساك بوحدة الموضوع بجمل مضغوطة، وكانت العبارات الأخيرة قد اعطت فعل الاكتمال للضربة الشعرية..
في حين تقف الرؤيا الشاملة في قصائد (زهرة البرتقال) على قدر كبير من الاسماء التي تمتعت بعنوانات واضحة، وعلى الامكنة والحالات الشعورية، وما الى ذلك، وحين تبرز النصوص بالشكل الذي قرأناه، فإن ذلك يؤكد الحالات التأثرية (السنتمالتية) التي تتأجج لحظتها لتشكل نصا شعرياً، فـ(علي / زهراء/ حسين/ ازدهار/ علياء/ محمد حسين/ بريمر/ كريم/ موسى كريدي) شخوص واقعية، لكنها نصوص شعرية عند الشاعر، لأنها احتكمت الى الضرورة الفنية للّغة الشعرية التي تناولت الاسماء هذه، وكذا الحال في الامكنة (العشب / شجرة/ المنزل/ بيروت)، وايضا في الحالات الشعورية(سهران/ وجع/ التهجي/ رفيف / شهقة /سكران/ من الدفء البارد)..
(زهرة البرتقال)، مجموعة تكشف عن قراءة مفتوحة.. قراءة مليئة بالشواهد والمشاهد وتحتكم الى سياقات متعددة الجوانب (النفسية / الاجتماعية/ الزمانية / المكانية)، طرحت نفسها بوعي ثقافي مشحون بفطرية من قبل (د.عبد الكريم راضي جعفر)، وكأن النص الشعري عند يمثل هاجساً حياتيا قلقا، ولشدة تمسكه بمفرداته اليومية وسلوكياته الخاصة، فقد شكلت عنده مشروعا شعريا تكرس بالتجربة التي امامنا..