ثورة السليمانية ضد معاهدة 1930

Sunday 9th of February 2014 06:34:14 PM ,

ذاكرة عراقية ,

■ د. عبد الرحمن ادريس البياتي
قررت وزارة عبد المحسن السعدون الرابعة سنة 1929 الدخول في مفاوضات مع الجانب البريطاني للوصول الى تسوية العلاقات العراقية – البريطانية على اساس إنهاء الانتداب والحصول على المطالب العراقية عن طريق المفاوضات الثنائية بين الجانبين. وبعد شوط من اللقاءات ما لبثت ان تعكرت تلك المفاوضات وتوترت العلاقات في ظل جو سياسي متشنج خلال تلك الحقبة.

لم تصل المفاوضات مع الجانب البريطاني الى نتيجة حاسمة إلا بعد تشكيل وزارة جديدة برئاسة نوري السعيد في 23 آذار 1930 والذي سعى في 3 نيسان من العام نفسه، للوصول الى صيغة مناسبة للتفاهم حول إبرام معاهدة مع الجانب البريطاني، بدعم من الملك فيصل الاول.
أثارت مسألة عقد معاهدة جديدة مع السلطات البريطانية حفيظة الكرد، الذين خشوا على الضمانات التي اُقرت لهم في المعاهدتين السابقتين، وتوقعوا إن بابرام المعاهدة الجديدة، ستهمل أيضاً الضمانات التي أوصت بها لهم عصبة الامم. وزدادت المعارضة الكردية للتوجهات الحكومية الجديدة، لاسيما بعد أن علمت بعض الشخصيات الكردية بعدم وجود اية إشارة في المعاهدة الجديدة تؤمن الضمانات التي حددت لهم سابقاً، فنشطت ردود الافعال الكردية، وتم إصدار منشورات إحتجاجية من قبل بعض الجمعيات العلنية والسرية، وكثرت الالتماسات والمذكرات لعدد من الشخصيات وزعماء العشائر الكردية، وجهت أغلبها الى المندوب السامي البريطاني وعصبة الامم.
درس المندوب السامي البريطاني المستجدات على الساحة الكردية مع الملك فيصل الاول ورئيس الوزراء العراقي وعدد من المستشارين، وأعد معهم التدابير التي من شأنها أن تزيل المخاوف الكردية، كان من بينها وضع قانون لاستعمال اللغة الكردية، في الوقت الذي أنشىء فيه مكتب في وزارة الداخلية ببغداد، يعمل لترجمة القوانين والانظمة والاوامر الرسمية الى اللغة الكردية، علاوة على وضع المدارس الكردية في اربيل والسليمانية وكركوك تحت إدارة مفتش واحد، وعين معاون مدير الداخلية العام من الشخصيات الكردية.
نشرت الحكومة العراقية بياناً في 1 نيسان 1930، أشارت فيه الى تقديم لائحة قانونية ستعرض على مجلس الامة في اجتماعه القادم، وذلك لجعل اللغة الكردية لغة رسمية في المناطق الكردية إستناداً الى المادة السابعة عشرة من القانون الاساسي، وأكد البيان على ان الحكومة عازمة على إنتهاج خطة " تنطبق على روح الوعود التي سبق ان وعد بها الكرد في العراق".
حاول المسؤولون البريطانيون ومن خلال التنسيق مع الحكومة العراقية، إرضاء الكرد وإعطائهم التطمينات التي تؤكد سعي الحكومة العراقية للقيام بالاصلاحات المتوافقة مع المطالب الكردية في ذلك الشأن، وفي العشرين من مايس 1930 إلتقى المندوب السامي البريطاني بالملك فيصل الاول وتباحثا في شأن المسألة الكردية، ووضع الكرد، وإمتيازاتهم في كردستان العراق، وكانت النقطة الرئيسة التي أكد عليها المندوب السامي هي ضرورة قيام الحكومة العراقية بتنفيذ ما عليها من إلتزامات تجاه الكرد، مشيراً الى ان الحفاظ على الهوية والعادات القومية الكردية من الاسباب التي تؤدي الى كسب الكرد وتقوي أواصر إرتباطهم بالعراق، كما واشاد بالسياسة العراقية المعلنة تجاه الكرد التي لا تحتاج سوى السرعة في التنفيذ. ومن جهته أكد الملك فيصل الاول انه يتفق مع أفكار وتطلعات المندوب السامي، إلا إنه لا يطمأن لنشاطات بعض الجماعات السياسية الكردية التي تلحق الاذى بالعراق والكرد أنفسهم، وإستطرد قائلاً أنّ وجود مثل تلك الجماعات يعرض العلاقات العراقية مع دول الجوار للخطر، الامر الذي وافقه عليه المندوب السامي أيضاً، مما جعله يؤيد الاجراءات المتشددة احياناً لقمع الاضطرابات التي تثير مثل ذلك الامر، غير انه دعا الى ضرورة التمييز بين الجمعيات السياسية والجماعات المتورطة في نشاطات من تلك التي تخوف منها الملك فيصل، وبين الجمعيات والجماعات الاخرى التي تدافع عن مصالح الكرد باسلوب معتدل وضمن الوحدة العراقية، ولاقت أفكار المندوب السامي إستحسان الملك فيصل بصورة كاملة.
وفي محاولة لتهدئة الاوضاع في جزء مهم من كردستان العراق، تم تعيين الشخصية الكردية المعروفة، توفيق وهبي، متصرفاً على السليمانية في مايس 1930، الاجراء الذي لاقى إستحساناً واضحاً في السليمانية. وباستمرار المطالبات كانت الاوساط الكردية، قد عبرت عن عدم إقتناعها بما تحقق لها من إنجازات، واخذت تتطلع الى تعيين عدد من الموظفين الكرد في مناطق كردية اخرى غير السليمانية. وإذا ما نظرنا الى تلك المطالب لوجدنا ان اغلبها كانت تتلائم وطموحات الكرد انذاك وتحمل في طياتها الرغبة بالحكم الذاتي أو الرغبة بالتمتع بنوع من اللامركزية " لتحقيق الأوضاع السلمية في العراق، فضلاً عن إزدهار وسعادة الكرد في كردستان الجنوبية " ، إلا إن ذلك لا ينفي وجود الطابع الأنفصالي الذي سعى إليه بعض القوميين الكرد، والذي أقلق السلطات البريطانية والعراقية على حدٍ سواء، وفرض تعاملاً حذراً مع مثل تلك التوجهات التي تؤثر على طبيعة ونظام الحكم المركزي، ومن الجدير بالذكر انه كان هناك تيارٌ مؤيدٌ للوحدة العراقية ومناهضٌ للمطالب الإنفصالية التي كان يطرحها بعضهم، ولا سيّما في مدينة السليمانية ، تمثل ذلك بظهور منشورات وزعت في السليمانية بتاريخ 19 آب 1930 ، تضمنت دعوة بعض الزعماء الكرد لإتخاذ سبيل المصالحة الوطنية والتخلي عن كل ما يعكر صفوها، ونددت ببعض المضابط التي رفعت الى المندوب السامي البريطاني والحكومة العراقية، ودعت الكرد للتركيز على عامل الدين، دون الحسابات القومية المتطرفة. وإذا ما فرضنا صحة تلك الدعوات، كونها تستند الى الوثائق الرسمية العائدة الى تلك الحقبة، فأن أحداث السليمانية منذ 6 ايلول 1930، والتي سيتم التطرق الى تفاصيلها في نهاية هذا المبحث، تجعلنا نشكك، في مصدر تلك الدعوات، لكونها لا تتفق ومعطيات ذلك الواقع، وبدت كأنها أستخدمت من قبل اشخاص معينين بدعم ومساندة جهات متنفذة داخل مدينة السليمانية لمناهضة كل ما يعترض سبيل الخطط المرسومة للسلطات المركزية في تلك المناطق، دون ان ننفي وجود بعض الشخصيات الكردية التي كانت أهدافها تتطابق مع توجهات الحكومة المركزية في بغداد، لاسيما منهم التجار وعدد من المتنفذين والنواب. في الوقت الذي كان فيه بعضهم يحسبون أنفسهم حلفاء لبريطانيا، إنطلاقاً من إفتراض قد يكون ساذجاً أحياناً، هو ان ذلك سيسهل من تحقيق بعض المكاسب القومية لهم.
لم يكن الكرد وحدهم المعارضين لمعاهدة 1930، إذ تلقاها الرأي العام العراقي بعدم الارتياح، واعتبرها صكاً إنتدابياً مغلفاً، صيغت فقراتها وموادها لتصب في مصلحة السياسة البريطانية في العراق، وعدها الكثيرون وسيلة لتنفيذ مآرب الحكومة البريطانية على أرض الرافدين وعلى حساب الحكومة العراقية، كما إنها منحت البريطانيين إمتيازات بدون مقابل. وقبل ابرام تلك المعاهدة في 30 حزيران 1930 نشطت بعض الشخصيات الكردية وقدمت عدة برقيات ومذكرات الى المندوب السامي البريطاني ( فرنسيس همفريز) طالبة فيها بضمان الحقوق الكردية ضمن إحدى بنود المعاهدة، ففي 20 كانون الثاني 1930 بعث الوزير الكردي محمد امين زكي رسالة الى الملك فيصل الاول مع صورة منها الى المندوب السامي البريطاني، اكد فيها على ضرورة إيجاد الحل المناسب للمسألة الكردية. كما وجه النائب عن أربيل انذاك ، معروف جياووك في الجلسة المنعقدة بتاريخ 13 شباط 1930 لمجلس النواب العراقي سؤالاً الى رئيس الوزراء ناجي السويدي، ضمنه إستفساراً عن مضمون المعاهدة التي تنوي الحكومة العراقية إبرامها مع الجانب البريطاني، ومصير الشروط التي اقرتها العصبة بالنسبة لحقوق الكرد وايدتها الحكومة انذاك. وعلق رئيس الوزراء العراقي بدوره على إستفسار النائب، مشيراً الى ان الحكومة العراقية سارت وفق اسس سليمة في مسألة إدارة شؤون الدولة، وتطميناً لمخاوف النائب، تساءل رئيس الوزراء عن الاسباب التي تدعو الى الشك في حسن نية الحكومة من مسألة تطبيق الشروط والالتزامات التي اقرتها عصبة الامم. لم يكتف جياووك بذلك بل إشترك مع النائب الكردي عن كركوك، محمد فتاح الجاف، بتقديم مذكرة في الخامس من نيسان 1930 الى المندوب السامي البريطاني، تناولت موضوع المعاهدة والموقف الكردي إزائها، فضلاً عن تأكيدها ضرورة مراعاة الحقوق الكردية التي يأتي في مقدمتها إستخدام اللغة الكردية ومسالة تدريسها في المناطق الكردية، ومنح الكرد إدارة واسعة في مناطقهم، علاوة على المطالبة بأبقاء كردستان العراق تحت الاشراف البريطاني لمدة خمسة عشر عاماً، وفي حالة حصول أي تغيير في إدارة العراق فيجب ان يمنح الكرد الحكم الذاتي. وفي السياق نفسه رفع ستة من النواب الكرد مذكرة اخرى الى رئيس الوزراء العراقي الذي رفعها بدوره الى المندوب السامي للاطلاع عليها، تضمنت عدداً من المطالب السابقة كان من أبرزها الحصول على الحكم الذاتي.
لم تكن الاجراءات التي إتخذتها السلطات البريطانية والعراقية كفيلة بارضاء القيادات الكردية، وبدأت الاحداث في السليمانية تسير بأتجاه ينم عن قرب حدوث إضطراب فيها. إذ كانت هناك مجموعتان تعملان بأساليب مستقلة داخل مدينة السليمانية، مجموعة متشددة تابعة للشيخ محمود الحفيد الذي كان في المنفى، ولكن أتباعه كانوا كثر في المدينة وضواحيها، ومجموعة اخرى تابعة للشيخ قادر الحفيد اخو الشيخ محمود، أعضائها من المتنورين. وأشارت الوثائق البريطانية الى ان المجموعة الثانية التي تضم أعضاء من " ذوي التفكير الحر " كانت " مجموعة معتدلة وان قائدها الشيخ قادر كان تواقاً لبقاء الحركة ضمن الحدود الدستورية على الرغم من إعتراض بعض أتباعه ".
ولمعالجة الوضع المتأزم في بعض مناطق كردستان العراق، قرر المندوب السامي البريطاني تأليف وفد مشترك، ضم كل من وكيله، الميجر يونغ، ووكيل رئيس الوزراء العراقي، جعفر العسكري، لزيارة المنطقة الكردية وإظهار النيات الحسنة تجاه الكرد، والحرص على تنفيذ توصيات عصبة الامم بحقهم. سافر الوفد صباح يوم الجمعة الموافق 8 آب 1930 الى كركوك، وكان بمعيته وزير الداخلية العراقي، جميل المدفعي، ووزير العدلية ، جمال بابان، حيث إلتقى الوفد بدائرة المتصرفية ، وجهاء وشيوخ المدينة، وسرعان ما أذاع الوكيلان البريطاني والعراقي بياناً أظهرا فيه إستعداد حكومتيهما لوضع لائحة اللغة الكردية في المناطق الكردية موضع التنفيذ ، وأموراً اخرى تخص القضاء والادارة، فضلاً عن تأكيد الاجراءات التي اتخذت في سبيل إرضاء الكرد، منها تعيين خبير في الشؤون الكردية للألوية الشمالية، وتأسيس دائرة للترجمة تعمل خصيصاً في مجال الترجمة والنشر باللغة الكردية، علاوة على تعيين مفتشٍ عامٍ للمعارف في المناطق الكردية. وأعرب الوكيل البريطاني عن إنتهاج سياسة مطابقة لسياسة الحكومة العراقية في عموم مناطق العراق، واشار الى ان السبب في عدم ذكر البلاد الكردية في المعاهدة الجديدة يعود الى ان الحكومتان العراقية والبريطانية قد " رأتا إن ذلك غير ضروري، بالنظر الى كون الحكومة العراقية قد قررت أن تستمر في المستقبل على السياسة نفسها التي لُخصت لكم الآن... وفيما يتعلق بالحكومة البريطانية فأن إهتمامها الوحيد ينصب على تأمين إنشاء دولة عراقية حرة ومستقلة، تربطها بها اواصر الاعتراف بالجميل والشكر، وتنتسب واياها الى عصبة الامم، وهي [ الحكومة البريطانية] سوف لا تعضد أية حركة يظهر لها بأنها لا تتفق مع هذه السياسة، كالميل الى الانفصال الكردي مثلاً "، وأشار يونغ أيضاً الى ان الحكومة البريطانية تشجع " الوطنية الكردية " ولكن ليس لإرباك الحكومة العراقية او إرباك جارتيها إيران وتركيا.
قابلت بعض الشخصيات الكردية هناك تلك التصريحات باستحسان، وأعربت عن إرتياحها الى ما جاء فيها من تأكيد لبعض الضمانات، في الوقت الذي لم يستحسن التركمان في كركوك التأكيدات التي أشارت الى جعل اللغة الكردية اللغة الرسمية في المدينة التي يعدّون الكرد فيها أقلية.
غادر الوفد كركوك متوجهاً الى اربيل في 9 آب 1930، وهناك في ديوان المتصرفية اجتمع مع الأعيان ورؤساء العشائر، إذ ألقيت الكلمات وتبودلت الاسئلة بين الجانبين، أكدت خلالها الشخصيات الكردية من قبيل خضر بك باشا واحمد بك، فضلاً عن معروف جياووك واسماعيل الرواندزي عن تأييدها لمطالب أهالي السليمانية ومساندتها لها. وفي السليمانية التي زارها الوفد في اليوم التالي (10 آب) عبر عدد من الشخصيات الكردية عن إمتعاضهم من السياسة التي تنفذها الحكومة العراقية، وطالب بعضهم بالاستقلال تحت الوصاية البريطانية، أو تحت إشراف عصبة الامم. وكانت مدينة السليمانية قد خضعت لحملة أمنية مكثفة تخللتها نشر عدد من المفارز العسكرية في شوارع المدينة قبل وصول الوفد إليها. إلا إن ذلك لم يمنع وجهائها من مناقشة الامر بجدية مع ممثلي الحكومة المركزية الذين سعوا وبدعم من السلطات البريطانية الى تقريب وجهات النظر بين الطرفين وتهدئة الاوضاع، في مدة كانت حرجة للحكومة العراقية. وقد اظهرت الاحداث إصرار ممثلي الكرد في السليمانية على جميع مطالبهم ، مما عقد الأمور وزادها إحراجاً خروج عدد من طلاب المدارس للتظاهر امام الوفد في سراي الحكومة بدعم من جمعيات وشخصيات مثقفة في المدينة، شاركهم فيها بعض انصار الشيخ قادر الحفيد.
أكد وكيل المندوب السامي البريطاني في بيانه امام ممثلي أهالي السليمانية، ان الحكومة البريطانية مقتنعة تماماً بأداء الحكومة العراقية التي سيكون عليها مراعاة الوعود التي اعطيت للكرد من قبل العصبة، وان الهدف المهم في هذه المرحلة هو تأسيس دولة عراقية حرة ومستقلة، تكون عضوة معها في عصبة الامم، وأية حركة لا تتوافق مع هذه السياسة فأن السلطات البريطانية لا تنظر إليها بارتياح. واشار الى ان بعض الجهات اللامسؤولة تشيع بان الحكومة البريطانية تشجع الحركة القومية الكردية، في الوقت الذي وجدت السلطات البريطانية المختصة، أن ذلك ليس مربكاً للحكومة العراقية حسب بل للجوار الاقليمي لها أيضاً " وإذا تصور احد انه يستطيع الحصول على تشجيع من فخامة المندوب السامي أو مني على تلك السياسة فأنه يرتكب خطأ كبيراً " وختم الوكيل حديثه بأن الحكومتين البريطانية والعراقية تودان إحراز تقدم سلمي لعراق موحد جامعٍ لكل العناصر المختلفة فيه.
ومن جهتها اكدت عصبة الامم ان الكرد قد فسروا القرارات التي توصل إليها مجلس العصبة في 16 كانون الاول 1925 تفسيراً خاطئاً، كما أوصت لجنة الانتدابات الدائمة، المجلس بأن " ترد عريضة وجوه الكرد " الذين طالبوا تشكيل حكومة كردية تحت إشراف العصبة، وأن يطلب من الدولة المنتدبة، بعد ان وجد ان بعض الحقوق التي منحت للكرد قد تلكأ تنفيذها، أن تلاحظ فيما اذا كانت التدابير التشريعية والادارية التي تضمن للكرد الوضعية " التي هم اهل لها، ينظر إليها بنظر الإعتبار ، وتوضع موضع التنفيذ دون تباطؤ او نقص "، وان ينظر في حكمة إشتراط إتخاذ تدابير تضمن للكرد بقاء مثل هذه الوضعية إذا ما تخلص العراق نهائياً من الانتداب البريطاني.
كان الجانب البريطاني ميالاً الى تهدئة الأوضاع في كردستان العراق، فهو من جهة ضغط على الحكومة العراقية الى حدٍ ما للتساهل بشأن بعض القرارات التي تخص الكرد " ولتنفيذ وعودها التي سبق وان اعطتها للكرد "، ومن جهة اخرى ساند بعض توجهات الحكومة، وأخذ يعطي صوراً إيجابية عنها امام المحافل الدولية لتسهيل مهمة إستقلال العراق ودخوله العصبة.
لم يكتف الكرد بقرار عصبة الامم، وأستمروا في تقديم الاحتجاجات الى المندوب السامي وعصبة الامم، وترسخت مخاوفهم بعد نشر المعاهدة بصيغتها النهائية، فبادرت مجموعة من الشخصيات الكردية في السليمانية، الى إرسال برقية في تموز 1930 الى وزير المستعمرات البريطاني طالبوه فيها إدخال الضمانات التي منحت للكرد ضمن بنود المعاهدة، وفي السليمانية أيضاً شارك متصرفها، توفيق وهبي، في حملة لمقاطعة الانتخابات، الامر الذي قاد الى إعتقاله بعد إقالته من منصبه، فضلاً عن إعتقال عدد من موقعي طلبات الالتماس التي ارسلت الى المسؤولين البريطانيين وعصبة الامم. ومما لا شك فيه انه عندما لا تبرهن الحكومة المركزية عن سعيها الصادق لتنفيذ ما عليها من إلتزامات تجاه المواطنين، يكون التشكي والإحتجاج مشروعاً، بغض النظر عن مدى الأستغلال الخارجي وتطلعات بعض القيادات المحلية للأنفصال، والعكس صحيح أيضاً.
تطورت الاحداث دراماتيكياً في كردستان العراق بعد تلك المطالبات التي لم تقف عند حدود الضمانات التي تحفظ الحقوق الكردية، بل تجسدت أخيراً في الدعوة لتشكيل حكومة كردية مستقلة تحت الاشراف البريطاني او عصبة الامم، الامر الذي اقلق الحكومة العراقية التي راحت تشك بدور عدد من الضباط البريطانيين العاملين في المناطق الكردية. وكانت نتائج تلك المتغيرات هي التي حددت طبيعة تعامل السلطات المركزية مع كردستان، وهي نفسها التي كادت ان تؤثر على مصير البلاد بشكل عام خلال تلك الحقبة، سرعان ما إنتهت بإستخدام القوة العسكرية وهذا ما نبينه لاحقاً في هذا الفصل.
لاشك إن الحكومة العراقية آنذاك كانت تقع تحت ضغوط ومخاوف عديدة إرتبط بعضها بالجانب التركي الذي كان يقف ضد أي إمتياز جديد يمنح للكرد من شأنه ان يشجع أو يؤثر في كرد تركيا. ومن ناحية اخرى فأن إستمرار إرسال برقيات الاحتجاج وقيام التظاهرات التي تتخللها اعمال عنف كان سيؤثر سلباً على قبول العراق عضواً في عصبة الامم، الذي بدوره كان سيعرقل تحقيق الأستقلال المنشود.
كانت هناك مسألتان مهمتان على صعيد الأوضاع الداخلية في مدينة السليمانية، خلال شهر آب عام 1930، أختصت الاولى بعزل توفيق وهبي من منصبه متصرفاً للواء، فيما إرتبطت الثانية بتعيين احمد بك توفيق بك خلفاً لوهبي الذي ادى عزله واستدعاؤه الى بغداد الى إرسال مجموعة من الإحتجاجات الى السلطات المركزية، وكشفت المصادر عن مشاعر الإمتعاض التي أصابت المدينة، حال وصول الأخبار عن تعيين احمد بك توفيق بك بدلاً عن وهبي، وذلك لكون أنّ العديد من المواطنين هناك كانوا يعدونه (أحمد بك) مدعوماً من السلطات البريطانية، إلا إن السلطات الحكومية كانت مصرة على إنهاء حالة الفوضى في السليمانية، وسعت الى " شق صفوف القوميين الكرد بخلق فرع من بشدر مناصر لها في المدينة "، ولعل اول دليل على نجاح ذلك التوجه هو إنسحاب محمود صالح بك، النائب السابق والصديق الشخصي لاحمد بك توفيق بك، من تجمع الشيخ قادر الحفيد الذي وجد في إبعاد وهبي حركة موجهة ضده.
وبقدر تعلق الامر بمدينة السليمانية، فقد بدأت التحضيرات الرسمية لانتخاب الهيئة التفتيشية فيها بتاريخ 5 أيلول 1930، وذلك لعدة اسباب حددها وكيل متصرف السليمانية انذاك، منها التأثير الايجابي الذي تركته زيارة الوفد المشترك ( البريطاني – العراقي) الى المنطقة في 9-10 آب 1930، ورغبة عدد غير قليل من الأعيان والتجار لإجراء تلك الانتخابات، كما إن إجراءها في مقر اللواء كان يسهل من عملية إنجازها في باقي أقضية اللواء ، هذا فضلاً عن إن مغادرة توفيق وهبي الى بغداد في 20 آب 1930 وإلتحاق المقدم عزت افندي بوحدته العسكرية، قد أضعف كثيراً الجهة المعارضة للإنتخابات، والتي أصبح بعض عناصرها راغباً في المشاركة في إنتخاب نواب للواء السليمانية.
إستعداداً لاجراء الانتخابات في السليمانية اعلن وكيل المتصرف المستر ألبان، بأن الانتخابات حرة وليس هناك ما يجبر احداً على الاشتراك فيها إن لم يرغب في ذلك، وفي الوقت نفسه أكد انه لا يحق لاحد أن يمنع الراغبين من استعمال حقهم بالمشاركة، بأي طريقة كانت، وان أي فعل يصب في إعاقة الراغبين من إستعمال حريتهم في ذلك، سواء بالقوة أو الارهاب أو التهديد " يعد جرماً خطيراً، ومن واجب الحكومة حماية المنتخبين منه ".
لم تكن تلك الاجراءات كفيلة بمنع الاضطرابات، ففي الساعة العاشرة من صباح يوم السبت الموافق السادس من أيلول 1930، حضر عدد من الشخصيات الكردية للإجتماع في ديوان المتصرفية، وباشروا بالتصويت لانتخاب الهيئة التفتيشية في ظل إجراءات أمنية مشددة إتخذت في السوق وقرب السراي، وبحسب التقرير الذي رفعه وكيل متصرف السليمانية، فان عدد الشرطة قد بلغ المائة رجل جهز أغلبهم بالعصي وذلك لعدم ظهور أي علامة تدل على القلق في البلدة خلال تلك الاوقات. وبينما كانت تجري عملية الانتخاب، علمت الشرطة بوجود عدد من الاشخاص كان من بينهم الشاعر فائق بيكه سى كور، كانوا قد جمعوا عدداً من تلاميذ المدارس والأهالي، وأجبروا اصحاب المحال على إقفال محلاتهم والخروج الى الشارع، حتى إحتشد عدد من المعارضين للمعاهدة وللأجراءات الانتخابية قدرته المصادر البريطانية بنحو 2000 الى 2300 شخص، ساروا في تظاهرة إتجهت نحو السراي، فأعترض سبيلهم رجال الشرطة لابعادهم عن مقر الحكومة في السليمانية، فكان ذلك دافعاً لوقوع صدام لم تتمكن الشرطة من السيطرة على مجرياته، لاسيما بعد أن إزدادت حشود المتظاهرين، فطلبت مساعدة الجيش، الامر الذي أوقع عدد من الاصابات بين قتيل وجريح، كما ألقي القبض على عدد من الاشخاص، فضلاً عن الخسائر المادية التي وقعت جراء تلك الاحداث. وكان من بين المعتقلين شخصيات كردية معروفة لها مكانتها في المجتمع الكردي من قبيل الشيخ قادر الحفيد وميرزا توفيق القزاز ورمزي افندي وعزمي بك بابان وعبد الرحمن اغا عثمان وفائق بك بابان ممن ارسلوا الى سجن كركوك في ليلة 6/7 أيلول عام 1930.
إستؤنفت الانتخابات في السليمانية يوم 15 أيلول 1930، تحت الحراسة العسكرية، بعد ان أجلت جراء الحوادث الاخيرة، فشارك على أثرها مندوبوا السليمانية في جلسة إفتتاح المجلس النيابي، التي صادفت في الاول من تشرين الثاني 1930. اما في أربيل والمناطق الكردية في كركوك والموصل، فقد اجريت الانتخابات دون أية حوادث تذكر.
لا ينكر إن إنتشار الافكار القومية بين الكرد وابرام معاهدة 1930 مع بريطانيا كانتا من بين الدوافع التي أدت الى قيام التظاهرات التي عمت مدينة السليمانية، في الخامس من أيلول 1930، وإذا كان الجانب الكردي قد إختار الطريق الذي عبر فيه عن رفضه للواقع الذي كان سائداً خلال تلك الحقبة، واعتبر المظاهرة( السلمية ) حق مشروع للتعبير عن إستيائه، فأن الجانب البريطاني برر إستخدام الجيش وإعتقال الزعماء الكرد، بأن الأمور خلال أحداث السليمانية أصبحت خارج سيطرة الشرطة، الامر الذي استوجب تدخل الجيش، وانه كان من الضروري إعطاء الاوامر لاطلاق النار وتفريق المتظاهرين. وأكد منتشاشفيلي قيام بعض المتظاهرين بأقتحام مشجب للأسلحة في المدينة والاستيلاء عليه، مما دعا السلطات المحلية لاستدعاء الجيش.
ولابد من الاشارة الى ان البريطانيين لم يكونوا بعيدين عن طبيعة الاحداث التي ضربت السليمانية في أيلول 1930، وراحوا يراقبون تداعياتها عن كثب، ففي تقريره أشار ضابط الخدمة الخاصة في السليمانية الى ان السيدة حفصة زاده النقيب ( حفصة خانم)، زوجة الشيخ قادر، سعت الى قيادة مظاهرة نسائية يرتدين فيها ملابس ملطخة بالدم، تعبيراً عن الحزن والاستنكار وقسوة النظام، وكانت السيدة حفصة قد قدمت رسالة الى ضابط الخدمة الخاصة في السليمانية، ضمنتها بعض الرسائل التي وردت إليها من بعض الشخصيات الكردية التي اكدت حرصها على تقديم المساعدة بكل الوسائل لمساندة قضيتهم الأساسية. الأمر الذي جعل المسؤول البريطاني يعتقد بقرب حدوث تمرد كبير تشارك فيه عدد من العشائر الكردية التي يمكن لها ان تجنح للهدوء " إذا ما إستطاع المندوب السامي البريطـاني إخبـارها بأن تحقيقـاً رسمياً سيجري في احداث يوم 6 أيلول 1930 ". لقد حاول المسؤول البريطاني في السليمانية حث قيادته على إتخاذ موقف تطمأن به الكرد، وتحاول من خلاله تهدئة الاوضاع بصورة أو بأخرى ، إلا ان تلك المحاولة لم تسفر عن نتائج ملموسة.
وعلق بعضهم على أحداث 6 أيلول 1930 في السليمانية مشيراً الى أهميتها التاريخية، كونها عبرت عن تحولٍ عميق في الحركة الكردية من حيث الطبيعة والقواعد والقيادات، إذ لاول مرة في التاريخ الكردي الحديث " ينفرد المثقفون والكسبة الكرد بتصدر إنتفاضة شعبية بدلاً من رجال الدين والامراء الكرد "، إنتقل على أثرها مركز ثقل الحركة الكردية وقيادتها من الريف الى المدينة.
لم يكتف الكرد بما آلت إليه الأمور خلال تلك الحقبة، وإستمروا بارسال البرقيات الإحتجاجية الى المندوب السامي وعصبة الامم، ففي 7 أيلول 1930 وجهت السيدة حفصة خانم عريضة الى عصبة الامم والحكومة البريطانية، دونت فيها مطالب الكرد، التي وعدت العصبة بتحقيقها لهم، وبعض وقائع الاحداث ليوم 6 أيلول 1930. كما بعثت أيضاً برسالة الى آمر قوات الليفي في السليمانية، أشارت فيها الى تعرض الكرد للقتل والاعتقال من قبل الشرطة، وحذرت من مسألة خرق القانون وتحطيم السلم في البلاد، إذا ما تعرضن النساء وزوجات الاشراف للاعتقال أيضاً.