أيام دخول الأسطوانات و الراديو إلى بغداد

Sunday 24th of November 2013 08:24:07 PM ,

ذاكرة عراقية ,

لم يعرف الجمهور البغدادي من وسائل الترفيه والتسلية سوى النزهات في البساتين والحدائق في المناسبات. وكانت النزهة محظورة على النساء حتى وقت متأخر من أعوام الثلاثينات, لكن وسائل التسلية واللهو كانت مباحة للرجال , الأ أنها كانت حتى منتصف العشرينات مقتصرة على المقاهي ومايقدم فيها من حفلات غنائية وموسيقية. لقد دخل الفونوغراف (الصندوق المغني) بغداد في عام 1893.

وهو صندوق كان يذيع الأسطوانات الموسيقية (أم السيم) كما كانت تسمى في أول ظهورها وقبل أن تظهر الأسطوانات الأن بشكلها البلاستيكي بعد عام 1925. وبدخول السينما الى بغداد عام 1911 بات الراديو يظهر في الحياة العامة من خلال صالات السينما ولكن بشكل محدود. ويمكن القول ان التلغراف الذي دخل بغداد عام 1861 والفونوغراف (الصندوق المغني) 1893، والفوتوغراف (التصوير) عام 1895 والتلفون والسينما 1911 والكهرباء 1917

كل هذه الوسائل الحديثة لم تصل الى العامة أو تدخل حياتهم أنما اقتصر استعمالها على النخبة من الحكام العثمانيين او البريطانيين وأداراتهم الحكومية.
ولم يقترب منها العامة أو تقترب منهم الأ بعد عام 1925. أي بعد مرور مايقارب السنوات الثلاث على تشكيل الحكومة العراقية بزعامة الأسرة الهاشمية، والبدء بتأسيس دولة حديثة كانت باعتراف الملك فيصل الأول، رحمه الله، من أصعب المهام التي عاشها نظرا لكون الملل والنحل العراقية متفرقة ويصعب جمعها وقيادها، كما قال في رسائله المتألمة على أحوال
العراق.
الراديو
دخول الراديو الى بغداد عام 1927 غير بعض الأحوال، رغم ان وجود الراديو لم يكن شائعا، فيما كان ينظر اليه الكثيرون على أنه سحر من الجن , وأن هذا الجن المتكلم القابع في هذا الصندوق من أعاجيب ذاك الزمن , فيما اعتبره بعض رجال الدين شيئا محرما هو وصندوق الآغاني والفوتوغراف (التصوير)، فمثل هذه الأمور - كما يقولون - هي تجديف في الدين ولعب بعقول الناس وإلهاء لها لإبعادها عن أمور دينها ودنياها وحرام تدخل البيوت.
لكن المدنية بوسائلها الحديثة مثل الطوفان، لا أحد يقف في وجهها، فسرعان ما انتشرت هذه الوسائل في غضون عشرة أعوام بعد الأحتلال البريطاني للعراق. وما ان حل عام 1936 حتى تم افتتاح <دار الاذاعة العراقية اللاسلكية> من بغداد بأجهزة بث من شركة ماركوني ورغم أن بث هذه الأذاعة كان يغطي وسط بغداد في البداية ثم شمل بغداد وبعض أطرافها بعد ثلاث سنوات. فإن تأسيسها كان حدثا كبيرا ساهم في تغير ثقافة المجتمع البغدادي وأثر تأثيرا كبيرا في أنماط التفكير. وجعل بغداد تدخل عصر الاذاعة.
أسطوانات بيضافون
قبل تأسيس دار الاذاعة العراقية التي بثت حفلات غنائية احيتها مطربات مثل صديقة الملاية وزهور حسين وعفيفة اسكندر عام 1936 كان بعض البغداديين يستمعون الى الاغاني إما مباشرة، في حفلات المقاهي والحدائق أو من أسطوانات الفونوغراف ومن ثم الكرامفون المستوردة والتي كان أقتناؤها مقتصرا على علية القوم وبعض المقاهي المتميزة.
لكن حدثا مهما حدث عام 1925 حين اعلنت شركة بيضافون انتاج اسطوانات لجميع مطربات ومطربي بغداد المشهورين ثم الأخرين من مطربي ومطربات العراق في البصرة والناصرية والموصل، وقد نشرت الشركة هذا الأعلان في الصحف البغدادية الصادرة أنذاك. يقول اعلانها:
تعلن شركة بيضافون كومباني أبو غزال لأصحابها بطرس وجبران بيضا.
أنها رأت محبي الطرب في العراق وضواحيها محرومين من كل مايبعث للنفس سرورها وللقلب أنتعاشه , وبعد درس الأسباب تبين لها أن هناك سببين وجيهين:
1 عدم وجود اسطوانات غناء من القراء العراقيين الممتازين.
غلاء الفونوغرافات.
وعليه أخذت(اشترت) أصوات أشهر المطربين العراقيين ومن بينهم مطرب العراق السيد محمد القبانجي ومطرب الموصل السيد سلمان الموصلاوي. وانشات لها محلا في خان دلة ببغداد لبيع الجملة والمفرد، وكذلك فونغرافات بقيمة 50 روبية (1920).
إعلان إذاعة لمحبي الطرب من مدير مدرسة !
<ما اطول النهار على الكاسبين والعاملين في سبيل تنازع البقاء، وما امر هذه الحياة واعظم متاعبها اذا لم يكن هناك مايبدل هذا العناء باللذة وذلك الياس بالامل، وتلك المرارة بالحلاوة، فاذا اردت ذلك فاقصد قهوة الشابندر قرب الاكسكخانة كل ليلة فان هناك اعظم جوق موسيقي يصدح بانواع الالات والالحان، سيما وان ريع بعض الليالي خاصة لمدرسة التفيض الاهلية، فلاشك في انك لاتبالي بتطمين اذواقك مقابل <اربع انات> مع قيمة القهوة>.
التوقيع مدير مدرسة التفيض الاهلية ـ جريدة العراق 1926
الأغنية الفاحشة
لقد انتشر استخدام الفونوغراف في بغداد في منتصف العشرينات. وكان عاما 1926 - 1927 عامي انتشار الاسطوانات في بغداد بعد قيام شركة بيضافون بانتاج اسطوانات لاشهر مطربات ومطربي ذاك الزمان، لكن بعض المطربين والمطربات ومنتجي الاسطوانات غير المرخصة راحوا يصدرونها باصوات عراقية متنوعة ودخلت للاسواق شركات صغيرة مختلفة، وراح هواة الطرب يتداولون اسطوانات تحمل اغاني عراقية (خلاعية وجنسية)، وما اشبه اليوم بالبارحة!

هيموني هالبنات!!
في ذاك الوقت من عام 1926 صدر الحكم القضائي في بغداد بما يسمى بقضية <الأسطوانات المنافية للأداب> ونشر الاعلان التالي في الجرايد:
<نظرت محكمة الجزاء في العاصمة في الدعوى المقامة ضد المغنية جليلة وزملائها, بناء على نشرهم الأغاني المخالفة للآداب في اسطوانات الغرامفون واصدرت الحكم بالحبس العادي لمدة ثمانية ايام على جليلة وعشرة ايام على المغني اسماعيل أمين وخمسة عشر يوما على جليل خليل وعلى كل من داود عزرا حكاك وحسن ابراهيم بغرامة 100 روبية ومصادرة الأسطوانات وهي الممنوعة على غناء <هيموني هالبنات> وذلك وفقا للمادة 203وبدلالة المادتين 54 و 25 من قانون العقوبات البغدادي <التوقيع الحاكم..
يرقص من شدة الألم
شاعت أغنية الملهى مثلما شاعت مظاهر الفرجة والتظاهر بالأعراس بمظاهر الرقص الهزلي والتشبه بالراقصات من قبل الذكور. ورغم ان زفة العريس هي جزء من تقاليد الزواج العريقة في محلات بغداد، حيث يقوم ابناء المحلة وأقرباء العريس بزفه في ليلة الدخلة في جمع يقتصر على الرجال، يسير في أحياء المحلة مرددا أصوات الصلوات التقليدية وراء العريس الذي يتقبل مايحصل له من مداعبات في تلك الليلة، الأ انه بعد عام 1925 دخلت صورأخرى على هذا المشهد منها وجود فرقة موسيقية يكون <الدمام> أحد آلاتها الرئيسية ووجود راقص هزلي بهيئة ومكياج امرأة يتمايل أمام الزفة , لكن هذا الراقص لايسلم في أغلب الأحوال من المتاعب والمفاجآت وهذا ماحصل بالضبط ل <علي بن السيد احمد> من محلة حمام المالح في بغداد كما تفيد سجلات الشرطة انذاك. حيث يقول المحضر:
ان عليا بن السيد أحمد من سكان محلة حمام المالح أخبر الشرطة بأنه بينما كان قد أعد نفسه للذهاب الى الزفة ووضع على جسده القطن وبعض الأصباغ استعدادا للرقص الهزلي في الزفة، جاء الشخص المدعو مكي ابو الشيلمان ورمى على جسده عودا من الثقاب، فاشتعل القطن وسبب حرق جسده فنقل الى المستشفى الملكي وهو يرقص من شدة الألم بعد أن كان يرقص من شدة الفرح!!
حين افتتح أول صف لتعليم العزف على العود.. ومقهى الشط كان أشهر المقاهي
ظل مقهى الشط في ذاكرة البغداديين، من اشهر مقاهي بغداد خلال مائة وثمانين سنة مضت منذ نهاية الحكم العثماني والفترة الاولى من الاحتلال البريطاني حتى العهد الملكي، ففي اربعينات ذاك القرن وقبل ان يختفي هذا المقهى، كان في مقدمة مقاهي النخبة البغدادية في الرصافة. يقع عند مدخل جامع الخفافين في منطقة المصبغة المطلة على دجلة على بعد قريب من جهة المدرسة المستنصرية المطلة على النهر والتي تحولت الى (جمرك بغداد!)، وهو ايضا مجاور لمقهى الخفافين الاقدم منه عمرا والذي مضى عليه اكثر من 300 عام.
مقهى المنوعات
موقع (مقهى الشط) على شط دجلة اعطاه اسمه، فاصبح موقعا اجتماعيا وترفيهيا وسياحيا، فالمقهى كان طابقا علويا وآخر سفليا، مما جعله مهنيا عبارة عن مقهيين كل واحد لمالك. فالسفلي يعود الى الحاج علي، اما العلوي الذي اصبح ملهى (تياترو) فكان يعود الى حسن صفو، وهما شخصيتان معروفتان في اوساط المقاهي البغدادية ومن روادها ايضا وما اكثرهم في ذاك الوقت! حيث كان المقهى المكان الثاني بعد البيت يأوي اليها البغداديون في حياتهم اليومية،
كان سقف المقهى من الخشب، يستند الى اعمدة خشبية ذات طلعة وشرفة تمتدان الى امام لتشرفا اكثر على نهر دجلة> حيث يكون النهر دائما في متناول نظر الجالس يمتع بصره باجواء شط دجلة وحركته الحافلة بالصيادين ووسائط النقل النهري من قفف ومهيلات وزوارق صيد واكلاك تنقل الخضراوات والفواكة واصوات الطيور والصيادين وغنائهم، والسقائين والعابرين من هذه الضفة الى الاخرى. فنهر دجلة شريان الحياة في بغداد الممتدة على ضفتيه، وما اكثر غضبه عليها حين يفيض فتغرق محلاتها بطوفان مياهه.
مصدر الأخبار والمعلومات
ترتسم على جدران مقهى الشط نقوش وزخارف بغدادية، فيما يجلس الزبائن على(دكات) درجات من الطوف المبني باللبن (بكسر اللام والباء) وهو الطابوق قبل حرقه بالنار وفخره.وتفرش فوقها حصران (جمع حصير).
كان يدير هذا او هذه المقهى، اثنا عشر عاملا من العمال المهرة في خدمة الزبائن. واصبح واحدهم بمرور الزمن على معرفة بجميع الزبائن الذين يرتادون المقهى، يعرف مواقيت مجيء وذهاب هذا وذاك، واخبار الميتين والاحياء منهم واخبار المدينة وما يتداوله الزبائن من حكايات، والاحوال التجارية، ومن ربح ومن خسرمنهم, ومن تزوج ومن طلق، واصبح كل عامل يعرف طلبات كل زبون ومايحب ان يشرب، ومقدار السكر في قدح الشاي او من دونه، حتى يمكن القول ان مقهى الشط كان مصدر الاخبار والمعلومات للكثير من رواده. فناقل الخبر غالبا ما يبدأ روايته بأنه سمع ذلك في المقهى.
وفي الليل يضاء مقهى الشط بالفوانيس (اللوكسات) المستوردة من المانيا، وهي كبيرة الحجم لايوجد مثلها في بغداد غير القليل، ويختص بإضائتها عامل من العمال دون غيره.
كان يلتقي فيه - كما يقول المؤرخ فخري الزبيدي - وجوه بغداد المعروفة انذاك امثال عبد القادر باشا الخضيري وهو صاحب مراكب ترسو اما م المقهى وقاسم باشا وحسن باشا والحاج علي الجلبي وعبد القادر دلة صاحب خان دلة وهو من اشهر خانات بغداد وابراهيم صالح شكر والشاعران الرصافي والزهاوي في بعض الاوقات.
انفجرت فيه قنبلة
يقول المؤرخ عباس بغدادي عنه انه كان ملتقى جماعة من الادباء والفقهاء البغداديين ايضا، ويذكر اسماء نخبة منهم، ولم يتركوا ارتيادها الا بعد ذلك اليوم الذي انفجرت فيه قنبلة صغيرة في ركنهم الذي كانوا يجلسون فيه. ايامها(في اواخر الاربعينات) كان الوضع في بغداد متوترا بسبب خطط خفية تدفع اليهود للهجرة فكثرت الاعمال العدائية ضدهم لغرض دفعهم الى الهجرة الى اسرائيل. وكان بعض اليهود يرتادون هذه المقهى خصوصا فرقة الجالغي البغدادي التي يشكل اليهود اغلب عازفيها.
ففي ليالي رمضان وبالاخص ليالي الشتاء كان المقهى التحتاني يشهد سهرات الغناء التي يشارك فيها (الجالغي البغدادي) الذي يقوده قارئ المقام اليهودي يوسف حورش ونخبة من الموسيقيين منهم صالح الكويتي ويوسف بتو وعزوري وجميعهم من اليهود. فيما كان الجمهور يقبل على قارئي المقام احمد زيدان ورشيد القندرجي الذي كان صوته وهو يغني يسمع في الكرخ حيث الضفة الأخرى من النهر.
اما المقهى الفوقاني ومسرحه الذي يشهد حفلات التياترو الراقصة مرتين يوميا عصرا ومساء فهذه الحفلات تحييها اشهر راقصات ومغنيات ذاك الزمان امثال طيرة وفريدة وغيرهما. فمقهى الشط من المقاهي القليلة التي كان يسمح لها بالبقاء مفتوحة صباحا ومساء ايام شهر رمضان، وكانت كل مؤونتها من شاي وسكر ونومي بصرة واخشاب وتبغ تحصل عليها مجانا من زبائنها التجار الموسرين.
إعلان مهم للجمهور الكريم
بما ان الموسيقى هي من ابدع الفنون الجميلة التي ننافس بها ابناء العصر القديم والحديث، وهي لغة الروح التي تملأها لذة وطربا، اعلن للعموم اني علي مصطفى العواد الشهير باني مستعد لتعليم الضرب بالعود - في المسافرخانة (الفندق) التي هي بجوار قهوة الشط من الساعة الرابعة الى الساعة التاسعة عربية، فعلى عشاق الطرب ان يشرفوا هذا المحل فيجدوا مايسرهم من حسن التعليم باسرع وقت (المعلم علي مصطفى، العواد الشهير 1918).

عن جريدة القبس الكويتية
تقرير اعده زهير الدجيلي عام 2006