من تراث الراحل الهرمزي..مائدة نزهت.. اللحن العراقي الجميل

Wednesday 6th of November 2013 08:18:20 PM ,

عراقيون ,

عندما نكتب عن المطربة مائدة نزهت فهذا يعني إننا نكتب عن الفن النسوي الغنائي في العراق ، وإذا عددنا أسماء الرواد العظام فإن إسمها يرد في أحاسيسنا، وإذهاننا ومشاعرنا. يذكرنا صوتها بأيام الخمسينيات الى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. فهو الصوت المتميز مابين الأصوات العراقية . ولدت مائدة جاسم محمد عزاوي في بغداد – الكرخ عام 1937

وهي واحدة من اربعة بنات وولد واحد لأمهم وأبيهم وهم ( حسنية، بدرية، سامية، مائدة ، خلف ) . وكان والدها جاسم ضابطاَ في الجيش العراقي ينتقل مع عائلته حسب مكان عمله من منطقة الى أخرى في بغداد.حفظت الأجزاء الأولى من القرآن الكريم عند الملاية (الكتاتيب) وهي لما تزل طفلة صغيرة، ثم دخلت مدرسة الرصافة الإبتدائية، وشاركت لأول مرة في الأناشيد المدرسية ، كان ذلك بداية اربعينيات القرن الماضي، وبسبب القيود الإجتماعية الصارمة حينذاك فلم يكن لها بد لممارسة هواياتها في الغناء ,لكن المتنفس الوحيد الذي في متناولها لإظهار حلاوة وعذوبة صوتها هو المناسبات الدينية والقبولات النسائية التي كانت تشارك فيها مع نساء منطقتها، وبسبب النظرة المنحطة المتخلفة للفن في ذلك الوقت ، فإنها لم تستطع دراسة الفن والموسيقى .
أظهرت إبداعاَ مبكرا في أداء أغاني فريد الأطرش وأم كلثوم وأسمهان وفتحية أحمد وليلى مراد . عندما طلبت الأذاعة العراقية أصواتاَ غنائية في مطلع الخمسينيات تقدمت مائدة الى الأختبار أمام لجنة من كبار المختصين بالغناء و المقام العراقي بتشجيع من منير بشير وخزعل مهدي . غنت للفنانة سليمة مراد وزكية جورج فنجحت بإقتدار ، وأصبحت مطربة في الإذاعة .
أول من لحن لها هو الملحن ناظم نعيم أغنية تقول كلماتها
( الروح محتارة والدمع يتجارة,
والكلب عل محبوب ما تنطفي ناره.
لاجفن عيني غفه ولا لهب كلبي إنطفه ,
والواشي بيه إشتفه مني إخذ ثاره,
والكلب عل المحبوب ما تنطفي ناره)
لكن هذه الأغنية لم تنل حظها من الإنتشار ولم تثر إنتباه الجمهور الى هذا الصوت الجميل إذ كانت تجربتها الأولى , لكن أغنية (أصيحن آه التوبة ) التي لحنها أحمد الخليل رفعتها الى مصاف المطربات. في الإذاعة تعرفت على شاعري الأغنية سيف الدين ولائي ,وجودت التميمي، وقد شجع هذا النجاح أحمد الخليل فلحن لها (يلي تريدون الهوى، فد يوم أتمنى، كلب اليهواك،كالو حلو، همي وهم غيري, البصرة التي كتبت كلماتها فتاة دجلة..) لمع نجم الفنانةمائدة فتقاطر عليها الملحنون وكتاب الأغاني لما تملكه من صوت رائع ومساحة واسعة، فالى جانب الملحنين المذكورين لحن لها علاء كامل ، رضا علي ( حمد يحمود) ، عباس جميل (كلما امر على الدرب، ياكاتم الأسرار) ، خزعل مهدي, محمد نوشي وسمير بغدادي ( أم الفستان الأحمر ) , أما أهم الشعراء الذين كتبوا كلمات أغانيها فهم شاكر حسن , نعمت العبيدي , هلال عاصم(دور بينا)وزهير الدجيلي (سنبل الديرة) لحنها ياسين الراوي ,ومحمد حسن الكرخي (كتب لها حرام) لحنها رضا علي , وسألت عنك لفاروق هلال كما غنت (جاني من حسن مكتوب ) في فلم الدكتور حسن .
وعندما فتحت أبواب التلفزيون العراقي عام 1956 وهو أول محطة تلفزيون عربية ,كانت مائدة نزهت من أوائل المتقدمين للغناء والظهور من على شاشة التلفزيون . وبعد هذا النجاح الباهرإبتعدت مائدة عن الإذاعة في الفترة (1955-1957) بسبب مشاكل إدارية, لكن عادت بعد توسلات أحمد الخليل ووديع خندة (سمير بغدادي) الذي تزوجها لاحقاَ بتاريخ 8-3-1958. مع عودة مائدة الى الإذاعة بدأت مرحلة جديدة وجدية في هندسة مسيرتها الفنية ، إذ بدأ نشاطها الفني يستقر بصورة تدريجية وجدية في هندسة مسيرتها الفنية على نتاج أفضل وأكثر إتزاناَ وأحسن تهذيبا وأكثردقة وإنتظاما بفضل تعاون زوجها معها لحن لها وديع خندة (نسمات بلادي, عطر الفجر) ثم سافرا سوية الى الإتحاد السوفيتي, فالتقيا بكبار الفنانين الروس، وقاموا بتوزيع جديد للأغاني، وقامت هي بتسجيل بعض من اغانيها على إسطوانات.
غنت على أنغام عود منير بشير أغنية (ينبعة الريحان )وهي من التراث العراقي القديم ثم لحن لها طالب القرةغولي وغيرة من عمالقة الملحنين ( بيا عين جيتو تشوفوني، شلون شلون، إنت إنت ، قدك المياس,تجونة لو نجيكم، يم الفستان الأحمر شبيدي على اليحجون، أحبك لا ، حاصودة ، يناري، يا حافر البير) ، ومن أشهر الأغاني التي لحنها كوكب حمزة هي (همه ثلاثة للمدارس يروحون) من إيقاع الهيوة. كما غنت (إسألوه لا تسألوني إسألوه, مزعلت منه علي زعلوه) التي لحنها رضا علي ويبدو إنها كانت رسالة عتاب لزوجها .
ولحن لها علاء كامل (دور بينا يا عشك)من كلمات هلال عاصم , وغير ذلك كثير ومن الألحان الكويتية غنت(كفاية ما وصل منك) كما غنت مربع أحباب كلبي, وأبوذيات وعتابات وسويحليات, وبستات مثل يابو عباية جاسبي, بمحاسنك وبهاك, وكتب لها الشاعر حسين علي (دجلة وفرات)، إن زواجها من وديع خندة (سمير بغدادي)مهد لها السبيل للتقدم والتطور معاَفعاشا ثنائياَمتكاملاَ ، وأنجبا وتفرغا للحياة. ترعرعت مائدة في بيئة فنية’،لها صوت متميز عريض عرفت به منذ الطفولة. غنت في أشهر الملاهي والنوادي الليلية (ضمن ذلك الإذاعة العراقية1952)، وعرفت أيضاَ بمطاولتها وإجادتها للغناء الريفي , فغنت الهجع وهو وزن ريفي راقص تشتهر به المطربات الغجريات .
سجل التلفزيون الكثير من أغانيها وذلك بعد إستيراد أجهزة التسجيل. إن صوت مائدة نزهت نقل الأغنية العراقية من التقليد الى التجديد وفكان صوتاَ يتوقد عاطفة وإحساساَ، زاخر بالحيوية، كما أنها كانت تختار نصوص أغانيها، فهي تصر على الخصوصية العراقية .
شاركت في العديد من الحفلات في الكويت ،وسجل لها التلفزيون الكويتي عدة اغاني ولقاءات فنية. كما تعاونت مع عدد من أشهر الملحنين على الساحة الغنائية. ولعل أشهر أغنية قدمتها هي أغنية (داير مدارج بحر) تغنت فيها لجزيرة فليكا ، وغنت لبعض الأصوات العربية (ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد، لقد زادني مسراك وجد على وجد) وهي من كلمات عبد الله ابن الدمينة، والحان أحمد الزنجباري.
أحدثت مائدة إنعطافاَجديداَ ومهماَ في مسيرة لأغنية العراقية حيث نقلتها من عالمها الحزين الى مزاج الحداثة, فأحدث إنقلاباَ وتبدلاَ في طبقة الفن العراقي .
إن السامع يحس في صوت مائدة نزهة نبرة بالغة الرقي والتهذيب والدقة ,نابعة من إنوثة الصوت الطاغية والحنان الشفاف في طاقة هذا الصوت ،بقوة وزخم متميز , فلم يبق صوتها حكر على الحان زوجها وديع خندة .
تتميز فنانتنا بالدقة والحرص على فنها حتى إنه بدى غريباَعلى من زاملها , فهي دؤوبة على الحضور والإلتزام بمواعيد التمارين اليومية ضمن الدوام المستمر في فرقة التراث الموسيقي العراقي التي أسسها منير بشير أوائل السبعينات من القرن الماضي . وكانت مدركة لأهمية هذه التمارين نظراَ لخبرتها الطويلة في الغناء. عبرت في غناءها عن روح المدينة, فهي حلقة حية في سلسلة الغناء البغدادي فكانت تصر على تعابيرها البغدادية, فقد قدم لها الملحن طالب القرةغولي (لايا هوى ) وأغنية (جذاب) فغنتها (كذاب) وكانت مصرة على ذلك رغم إعتراض الشاعر والملحن، فغناها الملحن على عوده المنفرد وأبدع في ذلك أيما إبداع . ولقدكانت حريصة على الأغنية الحديثة المعبرة وعلى الجانب الفكري والحضاري للأغنية الحديثة والإعتبارات البنائية المتماسكة في كل الحان اغانيها التي إعتمدت, فيها على كثير من الملحنين ، فأدتها بإتقان زاخر بالفن, فهي مطربة الأغنية العراقية الحديثة. في فرقة التراث الموسيقي العراقي كان العود والناي والقانون والإيقاع هي الات الفرقة ، وكانت مائدة نزهت قد أدت المقامات العراقية بصوت وأداء رائع بعد أن أشرف على تدريبها مطرب المقامات العراقي حسين الأعظمي، وبذلك فهي أول المؤديات اللواتي أدين المقام بأصوله، وبدقة كاملة وبعراقته ومضامينه التعبيرية, فحملت التراث العراقي الرائع تجوب به العالم مشاركة في المهرجانات الفنية الدولية ، وبنجاح منقطع النظير .
نجحت الى أبعد حدود النجاح بأدائها. وقد غنت مقام الحويزاوي باسلوب مغاير لما إشتهر به محمد القبانجي حين غنى (لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم وحملوها وسارت بالهوى الإبل ، ياحادي العيس عرج كي أودعهم ، ياحادي العيس في ترحالك الأجل) لكن مائدة نزهت غنته بقصيدة حافظ جميل وباسلوب متميز. (ومن جوى ألم في النفس نخفيه.. وأعظم بلواك من هم تعانيه). غنت الحويزاوي بدقة وحسب الأصول التقليدية للمسارات اللحنية التراثية, لكن المطرب يوسف عمر لم يكن مقتنعاَ بالأداء النسائي للمقام, فهو يعتبره غناءَ ذكورياَ على الرغم من أن أداء مائدة كان باسلوب وتعبير عصريين ساعدها في ذلك تجربتها العميقة في الغناء عامة ، بالإضافة الى تعلمها غناءالمقامات الفرعية التي مكنتها من تادية أروع وأصعب المقامات باسلوب علمي. غنت مقام حكيمي بأداء رائع، و للشاعر عبد المجيد الملا غنت الحويزاوي وكالتالي :-
يامن هواه أعزه وأذلني
كيف الوصول الـى وصالك دلني
واصلتني حتى ملكت حشاشتي
ورجعت من بعد الوصال هجرتني
الهجرمن بعد الوصال خطيئة
ياليت قبل الوصول قد أعلمتني
غنت مائدة نزهت للزعيم الخالد عبد الكريم قاسم بمناسبة سلامته من الإعتداء عليه ومحاولة إغتياله في منطقة رأس القرية بشارع الرشيد, اغنية ( الحمدلله عل سلامة..قائدنه ترف اعلامه..اقوى من رصاص العدوان..خاب الظالم واحلامه) .
إن قدرة مائدة العالية على تأدية مختلف الألحان وبضمنها المقامات جعلها في مصاف المطربين والفنانين الرائعين الكبار, وكان يمكنها أن تضاعف من إبداعها لو إستمرت في الغناء، لكنها فجأة قررت إعتزال الغناء في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي وبدون تراجع، وبذلك فقد الوسط الفني صوتاَ قديراَ جميلاَ حمل التراث الغنائي سواء في العراق او خارجه، إذاعة وتلفزيونا ومهرجانات.. ولأنها حفظت القرآن، وهي طفلة صغيرة، فقد إنصرفت الى العبادة ثم حجت وكرست باقي حياتها للعبادة والتقوى. حاولت سحب تسجيلاتها من الإذاعة والتلفزيون لكن محاولاتها باءت بالفشل والرفض. سافرت الى عمان مع إبنتها رولا .
بكائية: مطلع القرن الحلي نظمت احدى محطات الاذاعة في العراق إستفتاءاَ لترشيح اجمل صوت غنائي نسائي عراقي خلال القرن الماضي ، توقعنا أن مائدة نزهت ستستحوذ على أصوات المستفتين.لكن النتيجة كانت مخيبة للآمال، فلم ينصفها المشاركون ولا غرابة، لأن هؤلاء لم يكونوا يعرفوا الجواهري ولا مصطفى جواد وجواد سليم او فائق حسن ولا غائب طعمة فرمان ولا بقية رموز العراق، فقد عاشوا سنين سوداء وفقدوا خلالها حرية التفكير وممارسة الثقافة والمعرفة.

عن كتاب خواطر الأيام الصادر
عام 1985