رياض السنباطي‏..‏القيمـة والقـمـة..

Friday 3rd of December 2010 04:52:44 PM ,

منارات ,

سناء البيسي
أزيح الستار عن رياض السنباطي عازف العود الشاب الموهوب ممسكا بريشته ليرتجل تقاسيمه بفيضها المتدفق السريع الزاخر حينا.. الهادئ حينا كأنه الهمس الرقيق الرفيق إذا أراد له أن يتسلل عبر براعته في الترويق، متنقلا بخبرة الدارس مع الخيال الخصب والإلهام المسترسل وفهم المقامات، من مقام الرست ليعرج علي مقام البياتي والصبا والعجم..

تقاسيم كأنها السحر خلقة ربنا يطعمها صاحبها بالزخارف أينما يحلو له لتتمايل الرؤوس.. الله.. الحفل كان بمناسبة تغيير اسم نادي الموسيقي الى معهد فؤاد الأول للموسيقي العربية ويحضره فؤاد ملك مصر وحاشيته وكبار القوم..
وما أن بدأت ريشة إلىد إلىمني تقرع الأوتار مرات لتعفق إلىسري بالعود من رقبته لتضيف زخارف تزيد العزف جمالا ورونقا، وما أن بدأ روقان العازف ينجلي ويتجلي في حضور الملك حتي انبثقت ضجة الجارسونات وصولات وجولات تقديم الأطباق والمرطبات فوق موائد الضيوف ليهرب وحي الموسيقي مما أعاق سرد الأنغام الملهمة لساعتها، وأهان الفنان في أوج عطائه فلزم الصمت الفجائي ووضع الريشة جانبا وحمل عوده وقام مغادرا ليس الى البهو الخارجي وإنما الى بيته رأسا ليقدم استقالته من المعهد الملكي مع الصباح التإلى..
محمد رياض السنباطي أعظم وأبرع عازف عود ظهر علي مدى التاريخ.. من كان عندما يجلس الى عوده تشعر كأنه فرقة موسيقية مستقلة.. الذي غادر قاعة يترأسها الملك فؤاد الأب ليعزف بعدها للملك فاروق الابن لتغني على ألحانه أم كلثوم كوكب الشرق في ليلة عيد الفطر مساء الأحد17 سبتمبر1936 في حديقة النادي الأهلي بالجزيرة طقطوقة يا ليلة العيد أنستينا لتحول تشكيل كلمة الكوبليه الأول عند دخول الملك القاعة من هلالك هل علينا الى هلالك هل بعنينا ليتحول المعني احتفاء بالملك الذي هل على الحفل.
ولهذا أنعم فاروق على أم كلثوم بوشاح الكمال لتغدو بموجبه صاحبة العصمة، وليلتها نادى على مصطفي أمين من بين الحاضرين وطلب منه أن يصعد معلنا نبأ حصول أم كلثوم على منحة نيشان الكمال من الملك المفدى.. وكانت أم كلثوم قد غنت في عام1932 في معهد فؤاد للموسيقى العربية أمام الملك فؤاد الذي صفق لها كثيرا خاصة حين غنت له أفديه إن حفظ الهوى وملك الفؤاد.. وقامت بترديد ملك الفؤاد بتوزيعات حنجرتها الذهبية أكثر من مرة، وقد سبب هذا الحفل الملكي أزمة داخل الوسط الفني بسبب عدم دعوة سلطانة الطرب منيرة المهدية للمشاركة،
ووقتها تبارت المجلات الفنية في تناول القضية وأسباب إبعاد الست منيرة واختيار الآنسة أم كلثوم.. وتواكب ألحان السنباطي بصحبة حنجرة أم كلثوم تاريخ مصر منذ عام1936 فيقدمان من كلمات أحمد شوقي بمناسبة تولي فاروق سلطته الدستورية قصيدة مطلعها: الملك بين يديك في إقباله عوذت ملكك بالنبي وآله وفي عيد ميلاد الملك عام1937 يقدمان من أشعار أحمد رامي الأغنية المسجلة التي مطلعها إجمعي يا مصر أزهار الأماني، وبمناسبة زفافه الى فريدة تترنم أم كلثوم بألحان السنباطي أشرقت شمس التهاني تملأ الدنيا بهاء وضياء، وفي ميلاد الأميرة فريال يكتب رامي:
يا ربوع النيل طيبي بالأمــاني أنجب الفاروق للوادي السعيد
واطمأن البال بالميلاد لما نال فاروق المفدى ما أراد
ومن كلمات بديع خيري يلتقي اللحن والصوت ـ أم كلثوم والسنباطي ـ في أغنية الزفة ليلة فرح الإمبراطورة فوزية وإمبراطور إيران الشاهنشاه محمد شهبور، حيث طلبت الملكة نازلي من أم كلثوم أن تزف العروسين بعد أن رأت الخروج عن تقاليد العائلات الكبيرة التي تلجأ في زفة أي عروس إلى فرقة بديعة مصابني أو فرقة ثريا سالم، ووقعت أم كلثوم في حرج شديد حيث كانت قد وضعت مبدأ لا تحيد عنه وهو غناء وصلتها فقط في أي زفاف مع عدم الاشتراك في السير وراء دفوف العروسين للجلوس فوق الكوشة.
ونزولا الى أوامر الأسرة الحاكمة قبلت على أن يكونا أول وآخر عروسين تزفهما، وقد أعدت سريعا للمناسبة الإمبراطورية فستان سواريه من الدانتيل الأسود، وعلمت نازلي ــ كما ذكرت الدكتورة رتيبة الحفني ــ من الخياطة ريتا بأمر اللون الأسود فسارعت تطلب فورا تغيير الأسود إلى البمبي، وكانت أول مرة يبطن فيها فستان غامق باللون الفاتح حتى أنها أصبحت موضة أطلقت عليها ريتا الخياطة اسم موضة ثومة.. وتولد الأميرة فادية عام1943 لتغني أم كلثوم من ألحان السنباطي وأشعار محمود حسن إسماعيل زهرة هلت على فجر الحياة
وتبث الإذاعة بمناسبة عيد ميلاد الملك في11 فبراير1946 أغنية السنباطي بصوت كوكب الشرق الآنسة أم كلثوم أيقظي يا طير نعسان الورود، وتغني أم كلثوم سلوا قلبي لأمير الشعراء أحمد شوقي من ألحان السنباطي بعد أن أضاف لها الشاعر محمد الأسمر خمسة أبيات احتفاء بضيف البلاد الملك عبدالعزيز آل سعود ومضيفه جلالة الملك فاروق لتظل القصيدة تذاع ـ كما جاء في مذكرات المؤرخ عبدالقادر صبري ــ يوميا طوال أيام تشريف عاهل السعودية في مصر وإلى ما بعدها بأيام لتحذف الإضافة من بعدها وكانت بعد البيت الأخير في قصيدة شوقي:
وما للمسلمين سواك حصن إذا ما الضر مسهمو ونابا فأضافت الأبيات:
وكيف ينالهم عـــنـت وفـــــيهـم رضا ملكين بــل روضــين طــابا
إذا الفـــاروق باســم الله نادى رأى عبدالعزيز قـد استجابا
فصن يا ربنا الملكين واحفـظ بلادهما وجنبها الصعابا
همــا فـجــــر العـــروبة أنجـــبته فقــالت يومـــي المرجـــو آبــا
إذا اتحــدت أســود الشرق عــــزت عروبتهم وصار الشرق غابا
ويواكبا معا السنباطي وأم كلثوم أحداث تاريخ مصر لتغني من ألحانه التي بلغت96 طقطوقة وأغنية وقصيدة منبعا منها33 أغنية سياسية ووطنية كان منها طوف وشوف وهي الأغنية الوحيدة التي حضرها السنباطي بنفسه إذ قاد الفرقة الموسيقية أمام جمال عبدالناصر في احتفالات1963 عندما أبدى ناصر لأم كلثوم رغبته في ملاقاته، وغنت من أشعار صالح جودت أيضا بعد الهزيمة من ألحان السنباطي:
انـت النــاصــــر والمنـصــور ابق فـــأنت حـبيـب الشـعــــب
قـــم للشـعــــب وبــدد يأســه واذكـر غـــــده واطــــرح أمســه
وهي أغنية تناشده فيها البقاء في الحكم أذيعت لمدة يومين فقط، وغنت من ألحان السنباطي عند موت عبدالناصر قصيدة لنزار قباني رسالة إلى عبدالناصر وبعدها لم تغن أية أغنية سياسية أو وطنية، هذا مع أن الثورة عندما قامت ألغت جميع الألقاب بما فيها لقبها الملكي صاحبة العصمة فخلع عليها الأصدقاء لقب كوكب الشرق تخفيفا عليها من فقدان التميز، وبلغ الغضب منتهاه بأم كلثوم عندما منعت الإذاعة جميع أغانيها باعتبارها من آثار العهد الملكي، لكن عبدالناصر عندما بلغه الأمر من مصطفي أمين سارع يعيد الكروان إلى سماواته قائلا: إذا كانت أم كلثوم من رموز العهد الماضي فلماذا لا نردم النيل ونهدم الهرم؟!.
وإذا ما كان الفنان كإنسان ينفعل بشخصية حاكم أو رئيس أو ملك فهذا من حقه وليس مطلوبا منه أن يكون معارضا سياسيا، وإنما الفنان هنا يعبر عن انفعاله الخاص الملتزم به أمام فنه وقناعته الخاصة وليس أمام السلطة السياسية، وأعماله الفنية تعبر عن رؤيته في لحظة تاريخية معينة فلا تحسب عليه كمنافق أو معارض، وفي هذا الصدد روي عن أحد العلماء وكان مديرا لمعهد ديني معروف بالقاهرة عندما قرر الملك فؤاد أن يزور المعهد فطلب من مديره أن يأتي في موعد الزيارة بجبة لائقة، وهو ما أغضب العالم ليمتنع عن الذهاب من أصله لمكتبه في الموعد المحدد
وأرسل في الموعد بجبة جديدة مع رسالة تقول: إنكم قد أردتم جبة جديدة فها هي بين أيديكم، وطالما أنكم لم تعتنوا بوجود العالم فإنني لن أحضر الاحتفال.. وربما نجد في هذا التصرف ما يشابهه في عزة نفس موسيقارنا الشامخ رياض السنباطي عندما أراد السادات تكريمه بمنحه جائزة الدولة التقديرية في عام1980، وحدث أن انتظره السنباطي على مدي ساعتين، غادر بعدها قائلا: ابقوا ابعتولي عندما يحضر..وطلب السادات منه الغناء والعزف أمامه في إحدي الحفلات لكنه رفض الأمر مما أثار استياء السادات منه حتي وفاته في9 سبتمبر عام1981 ورغم ذلك منحه السادات التقديرية ووسام الاستحقاق من الطبقة الأولي، والدكتوراه الفخرية عام1977 لدوره الكبير في الحفاظ علي الموسيقي العربية عام1977، وفي العام نفسه1977 حصل رياض السنباطي علي جائزة اليونسكو العالمية باعتباره مبدعا وخلاقا ومؤثرا بموسيقاه في شعوب المنطقة، وهو الوحيد في الوطن العربي الذي نال هذه الجائزة، كما أنه كان واحدا من خمسة فقط في العالم الذين حصلوا عليها.. وأبدا لم يحضر السنباطي حفلة واحدة من حفلات أم كلثوم كمستمع في الصف الأول مثل الشاعر أحمد رامي ليرقب تأثير فنه علي حنجرتها، ولا مثل محمد عبدالوهاب الذي كان يقف خلف الستار يتلمس إعجاب الجمهور بألحانه في لقاء السحاب مع أغنيته لثومة انت عمري..
كان زاهدا في مثل هذا الموقف، ومنذ بدأت معه أم كلثوم كان يفضل الانفراد بصوتها في حجرته الخاصة حيث لا يقطع خلوته ومتعته أحد.
بلبل المنصورة رائد النهضة الكلثومية حارس الموسيقي العربية الصارم الذي ألغى تسجيلا مع إحدى الفرق لضبطه عازفا يدخن.. اللائذ بالصمت لأنه يمتلك بصيرة الأعماق. فن استماع القلب للكلمات. فن تواصل الذهن بجنين الخلق. فن التلقي. فن التوحد في سكون واستغراق يسمع فيه نداء الكلمة وصوت اللحن ونبض الآلات.. وحسبوه بصمته متكبرا، وفات عليهم الخيط الدقيق بين التكبر والكبرياء.. بين الشموخ وعزة النفس لمن لم يتهافت على الظهور ولم يشتر رياء الثناء أو رياء النفوذ أو ابتغاء المنفعة أو اشتهاء المال، بل كان متوحدا عزيزا معتزا..
فنان القيمة والقمة صاحب العطاء الموسيقي بتراثه الخالد، والخالدون كما قال شوقي أربعة: شاعر سار بيته، ورسام ضحك زيته، ونحات نطق حجره، وموسيقي بكي وتره.. ولقد بكي وضحك وعشق ورق وهجر وذاب وأذاب وسهر وأطال السهر وتر رياض السنباطي علي مدي50 عاما قدم فيها1000 لحن و13أوبريت كتب كلماتها أحمد شوقي، ومحمد إقبال، وصالح جودت، وحسين السيد، وأحمد رامي، وبيرم التونسي، ومحمد علي أحمد، وعبدالفتاح مصطفي، ومحمود حسن إسماعيل، ومرسي جميل عزيز، ومأمون الشناوي، وعزيز أباظة، وفتحي قورة، وصلاح جاهين، وأحمد شفيق كامل، ومصطفي عبدالرحمن، وأحمد فتحي، وإبراهيم ناجي وعباس العقاد الذي كتب له أغنية يا نديم الصبوات أقبل الليل فهات والتي أذيعت لأول مرة مساء الأحد14 نوفمبر1943.. ألحان يقول عنها صاحبها: تأثرت بالملحنين القدامى.. بأداء عبده الحامولي ومحمد عثمان وعبدالحي حلمي، وبموسيقى سيد درويش، كما تأثرت بالشيخ محمد رفعت والشيخ علي محمود والشيخ محمد صبح، وكان لهؤلاء جميعا أثرهم في تكويني الفني، وما بين بلد المحبوب لأم كلثوم والثلاثية المقدسة استطاع مع كوكب الشرق سريعا التخلص من جاذبية أسلافه في التلحين لينطلق كالصاروخ في الفضاء الفسيح لهذا الفن العظيم، فن تلحين القصائد الذي فتح له صوت أم كلثوم أبوابا سحرية لم تكن تخطر له علي بال، فتفتحت موهبته ليظل حريصا علي تلبية متطلبات صوتها ويرتفع إلى مستوي الإمكانات العبقرية لهذا الصوت النادر الذي كانت صاحبته بدورها لا تناديه باسمه وإنما بلقب العبقري.. العبقري الذي لم يستخدم جملة موسيقية آتية من أي اتجاه، فموسيقاه نابعة من زخم عطاء عبقريته.. من السنبطة في أوج قدرتها علي الكشف عن أجمل مناطق كل صوت.
والغالبية لا تعرف من السنباطي إلا كلثومياته، مع أن من يغفل ألحانه غير الكلثومية يكون قد أسقط ظلما أكثر من نصف ميراثه الموسيقي الضخم في الموسيقي العربية المعاصرة، فهناك97 أغنية لم تشد بها كوكب الشرق، و12أغنية غناها بنفسه إلى جانب36 معزوفة كانت تبثها الإذاعة المصرية في بداياتها لمدة ساعتين مرتين في الأسبوع أشهرها معزوفة رقصة شنغهاي وعرائس البحر ورحيل الفلك.. وقد لحن لفيروز أغنيتين، ولنجاة ثلاثا، وغنت له أسمهان خمسا منها ليت للبراق عينا، ولسعاد محمد فتح الهوى الشباك، ولشادية تلات شهور ويومين اتنين، ولعبدالحليم لحن الوفاء، ولشريفة فاضل ساعة واحدة، ولصباح راحت ليإلى، ولفايزة أحمد لا ياروح قلبي ولميادة أشواق ولنادرة اعطني الناي وغني، ولنجاح سلام عايز جواباتك ولوردة حاقول لك حاجة وكان ذلك في فترة عامي الخصام بينه وبين أم كلثوم حول أجر التلحين وأغنية يا حبيبي لا تقل ضاع حبي التي لم تنجح جماهيريا، ومحمد قنديل أتحدي، وكانت ثومة ترى مثله أن محمد قنديل أجمل الأصوات المصرية خصوصية على الإطلاق وغنى له وعبدالمطلب شفت حبيبي،
وغنى بنفسه سبع أغنيات من تلحينه منها كل شيء راقص البهجة حولي ها هنا وأيها الشادي.. وظهر رياض السنباطي في ثلاثة أفلام أولها في فيلم الوردة البيضاء بطولة محمد عبدالوهاب وسميرة خلوصي، ولم يتعد ظهوره نصف دقيقة فقط كعازف للعود في التخت المصاحب لمحمد أفندي، حيث يبدي في المشهد الميني اعتراضه وتذمره من تأخر محمد أفندي ليغني بعد أن طال انتظار أفراد التخت، والفيلم الثاني بعنوان حلم الشباب ظهر فيه يقود سيارته وهو يغني قصيدة حلم الشباب، والثالث قام فيه بدور البطولة أمام هدى سلطان لتغني من ألحانه قتلوني يابوي ويشترك معها في دويتو من الغناء السريع الخفيف.. وقد غنت له أم كلثوم على بلد المحبوب وديني زاد وجدي والبعد كاويني علي أسطوانة وكان قد وضعها أصلا لها لفيلم وداد فلم تعجبها ليغنيها عبده السروجي، وندمت بعدها لعدم ظهورها في الفيلم، ويقول السنباطي إنها كانت من أندر هفوات أم كلثوم في تقديرها للألحان.
ورغم ندرة أحاديثه يقول السنباطي عن بداياته: ولدت في الثلاثين من مارس عام1911 ببلدة فارسكور، وفي سن الثامنة رحلت مع والدي إلى المنصورة، وحدث لي ما يحدث لكل هاو للفن.. كنت أهرب من المدرسة إلى دكان نجار من هواة العزف، ولكن معلمي الحقيقي كان أبي ويلتقي السنباطي وهو في الثالثة عشرة بسيد درويش الذي يعجب به فيصحبه إلى حلواني المنصورة الشهير راندو بولو ليعزمه علي الجاتوه والآيس كريم، ويزداد اقتناعه به عندما يغني أمامه أغانيه الشهيرة أنا هويت وانتهيت وضيعت مستقبل حياتي، وأدرك سيد درويش بحاسته الموسيقية أنه أمام موهبة نادرة فأراد أن يصحب رياض معه، لكن الوالد محمد السنباطي لم يكن في استطاعته الابتعاد عن الابن الذي أصبح بلبل الفرقة، ولا يسافر رياض السنباطي في صحبة والده إلى القاهرة إلا في عام1930، ويقول: قبلت في معهد الموسيقي العربية كأستاذ عود وليس كتلميذ، وفرحت لأن هذا سيغطي نفقات دراستي بل سيكون لي راتب، وقد رشحني مدحت عاصم للتعاون مع شركة أسطوانات أوديون لتلحين عدد من الأغنيات لعدة مطربين وكان أول لحن لي مع أم كلثوم النوم يداعب عيون حبيبي وكانت أصعب ألحاني الأطلال.. كنت خائفا من الأداء.. لم أكن واثقا لأول مرة في حياتي من أداء أم كلثوم، ولما أخبرتها بالتليفون بمخاوفي قبل الحفل قالت لي: ماتخفش يا جدع، وحتشوف حاعمل إيه في العمق اللي انت عاوزه وخايف عليه. وطغت الأطلال ولم يعد هناك سواها، لتتضاءل أمامها كل الألحان التي أتت بعدها بما فيها ألحان السنباطي نفسه.
وتلتقي الشهرة مع الحب مع مالكة القلب والدار.. الزوجة.. كوكب عبدالبر المنوفي، من التقي بها في قعدة بمنزل الوجيه حافظ بك بهجت من عشاق الطرب الأصيل، ويبتسم الإعجاب الفوري ليسألها صاحبه: تحبي تسمعي إيه؟ فترد باستحياء وبساطة شديدة: أحب أسمع الجندول، ويأتي رده الدبلوماسي برقة بالغة: والله الجندول دي مش بتاعتي، وأنا مش حافظها أنا حاسمعك حاجة تانية.. وتتلاحق مقدمات وقرارات الإعجاب ليتم الزفاف مساء الأحد الموافق17 مارس1940 الذي تشترك فيه أم كلثوم بالحضور والغناء بوصلتين منها يا طول عذابي واشتياقي.
وينتهي الحفل مع خيوط الفجر بوصلة محمد عبدالمطلب شفت حبيبي وفرحت معاه ده الوصل جميل حلو يا محلاه.. وفي إنصاتي العميق لراوية رياض السنباطي الابنة الكبري للموسيقار التي ولدت كما يحسب والدها السنين في موسم سلوا كؤوس الطلا وهناك شقيقتها رفيعة التي ولدت مع قصيدة كيف مرت على هواك القلوب، وميرفت التي جاءت في عام جددت حبك ليه، ومحمد الذي ولد في موسم سهران لوحدي، وأحمد من ولد مع قصيدة ولد الهدي، وناهد صغرى كريماته من جاءت مع أغنية يا ظالمني.. مع راوية البكرية ألمس حرص والدها على الحس الشعبي في موسيقاه الشعبية وكأنها من تلحين الشعب كله، وكأن البلاد كلها تغني اللحن بصوت واحد متعدد الطبقات مثل أغنيته وحوي يا وحوي وعلي بلد المحبوب التي تمثل الحنين الجارف للديار.. والدها الذي يعود إليه الفضل في تعويد اللسان العامي في الشارع المصري علي نطق المفردات العربية الفصيحة في سلاسة ومرونة لو ظللنا دهرا ندرسها في مراحل التعليم لما استطعنا حمل اللسان علي نطقها بهذه السلامة والسلاسة والفخامة.. الأب ذو المواعيد المقدسة حتى يقال عنه مواعيد سنباطي أكثر من مواعيد إنجليزي، وقد أتي أحد الصحفيين إليه بعد موعده بثلاث دقائق فخرج إليه يقول: أنا مش موجود، وكان إذا لم يجلس إلى عوده يعزف علي جميع الآلات الموسيقية في غرف البيت: الماندولين والبيانو والناي.. وكان مصيفنا الأول في هانوفيل العجمي عندما كان الشاطئ شاغرا ليجلس متأملا بحور الماء والرمال...وأقول لك إيه عن الشوق يا حبيبي. عايزه أعرف لتكون غضبان أو شاغل قلبك إنسان. حيرت قلبي معاك. دليلي احتار وحيرني. أطفئ لظى القلب بشهد الرضاب فإنما الأيام مثل السحاب. لست أنساك وقد أغريتني بفم عذب المناداة رقيق. عودت عيني على رؤياك. من أجل عينيك عشقت الهوي. سهران لوحدي. والموج يناغي النسيم يحكي له قصة هوانا. والقلب يعشق كل جميل. واثق الخطوة يمشي ملكا. ظالم الحسن شهي الكبرياء. أولى بهذا القلب أن يخفق وفي ضرام الحب أن يحرق. ما أضيع اليوم الذي مر بي من غير أن أهوي وأن أعشق. أين مني مجلس أنت به؟! كيف ذاك الحب أمسى خبرا وحديثا من أحاديث الجوى. حتي الجفا محروم منه. أنا اللي أخلصت في ودي وفضلت طول العمر أمين. ياللي كان يشجيك أنيني. بفكر فيك وأنا ناسي. ثورة الشك.أغار من نسمة الجنوب علي محياك يا حبيبي. أكاد أشك فيك وأنت مني. وما أنا بمصدق فيك قولا ولكني شقيت بحسن ظني. كأنما لم يدر طعم الهوى والحب إلا الرجل الفاجر. وإذا ما التأم جرح جد بالتذكار جرح. جرح الأحبة عندي غير ذي ألم. هجرتك. قصة الأمس. قصة هوايا. يالذكراك التي عاشت بها روحي علي الوهم سنينا. ذكرياتي عشت فيها بيقين وهي قرب ووصال. اذكريني كلما الفجر بدا. يصعب علي أقول لك كان وأفكرك بليالي زمان وأوصف في جنتها وأصور. حديث الروح. يا فؤادي لا تسل أين الهوي. يقول الناس إنك خنت عهدي ولم تحفظ هواي ولم تصني. أجبني إذا سألتك هل صحيح حديث الناس. خنت؟!.. ألم تخني؟!.. هجرتك والأسي يدمي فؤادي وصنت كرامتي من قبل حبي. لما انت ناوية تهاجريني أمال دموعك كانت ليه؟!.
أروح لمين وأقول يا مين ينصفني منك؟! وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا. لا يا حبيبي. أنا لن أعود اليك. لسه فاكر قلبي يديلك أمان. أراك عصي الدمع شيمتك الصبر. آه من قيدك أدمي معصمي. يا حبيبي كل شيء بقضاء ما بأيدينا خلقنا تعساء. ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم بعدما عز اللقاء، فإذا أنكر خل خله وتلاقينا لقاء الغرباء. ومضى كل إلى غايته لا تقل شئنا فإن الحظ شاء. فتعلم كيف تنسى وتعلم كيف تعفو. أقبل الليل. ويسهر المصباح والأقداح والذكرى معي وعيون الليل يخبو نورها في أدمعي.. الحب كده!
وبصوته الرباني المعطر بالموهبة الخصوصي بنعومة الحرير وملمس الابتهال ورهبة المحلق في دعائه لخالقه يغني السنباطي ما لم تستطعه جميع الحناجر التي خلع عليها ألحانه. تنساب العبارات والعبرات في الأعماق وعلي الأسطح عندما يغني حاشدا مجامع حرقته ولوعته وورعه وصلاته ونسكه وتقواه ليرفع رسالته الوجدانية في خشوع للسماء: إله الكون سامحني أنا حيران..
عن الاهرام