السنباطي الرقيق وإذاعة ماركوني

Friday 3rd of December 2010 04:46:01 PM ,

منارات ,

انتشر المذياع أول ما انتشر في الشرق العربي في مصر ، ثم إنتقل منها إلى جميع الأقطار العربية ، فقد تأسست في القاهرة منذ العام 1932 عدة إذاعات خاصة كان يملكها عدد من المستثمرين الذين كان هدفهم الربح أكثر من تقديم الأعمال الفنية والثقافية ، وظلت هذه الإذاعات الخاصة الآخذة بالإزدياد تعمل دون رقيب أو حسيب أو وازع من ضمير ، وتستأثر بالشارع حتى العام 1934 ،

عندما قررت الحكومة المصرية وضع حد لهذه الفوضى في الإذاعات ، فأنشأت في بداية الأمر شركة مساهمة ، إستطاعت أن تنال لوحدها حقوق إستغلال الإذاعة في مصر من مخترعها الإيطإلى (ماركوني) . فأقامت أجهزتها الفنية في مكان قريب من العاصمة (جبل المقطم) وإبتنت استوديوهات البث في شارع علوي بك في القاهرة . وكان يمثل الحكومة في مجلس إدارة هذه الإذاعة (مصطفى بك رضى) عازف القانون المعروف ، المقرّب من الملك فؤاد الأول ، و الأستاذ (محمد فتحي) شقيق الشاعر الرومانسي (أحمد فتحي) و الأستاذ (مدحت عاصم) الموسيقي المثقف و المشهور جداً في الأوساط الفنية والثقافية.
إفتتحت الإذاعة رسمياً و باشرت عملها في مايو/ 1934 تحت إسم (إذاعة ماركوني من القاهرة) ثم إستبدل الإسم عند نهاية العقد في العام 1936 بإسم (إذاعة المملكة المصرية من القاهرة) . وكما حدث بالنسبة للحاكي- فونوغراف عند ظهوره في أواخر القرن الماضي (الكاتب يقصد القرن التاسع عشر) ، حدث بالنسبة لأجهزة الإستماع (المذياع – الراديو) إذ أقبل الناس على إقتناء هذه الأجهزة ، ليستمعوا إلى برامج إذاعة ماركوني ، وهم قابعون في منازلهم حول الأجهزة السحرية ، ولم يقتصر شراء هذه الأجهزة على الشعب العربي في مصر فحسب ، بل تعدى ذلك إلى جميع الأقطار العربية المجاورة منذ بدأت إذاعة ماركوني القوية ببث برامجها ، إذ ظلت هذه الإذاعة مع إذاعة القدس التي إفتتحها البريطانيون المستعمرون في القدس عام 1935 الإذاعتين الوحيدتين في المنطقة العربية ، ، وإذا علمنا أن إذاعة بيروت (راديو الشرق) وإذاعة دمشق الضعيفتين قد أنشأهما الفرنسيين في العام 1940 . وأن إذاعة راديو الشرق في العام نفسه تقريباً ، أدركنا أن الإقبال على شراء أجهزة الإستماع الذي بدأ تقريباً منذ منتصف الثلاثينيات كان بهدف الإستماع إلى الإذاعتين العربيتين الوحيدتين القائمتين آنذاك ( قبل قيام الإذاعة الأخرى في العام 1940) وهما إذاعة ماركوني من القاهرة وإذاعة القدس من فلسطين.
لم تجد إذاعة ماركوني في إذاعة القدس مزاحماً فعالاً ، وكان من الطبيعي أن تستقطب هذه بالفعاليات الثقافية و الفنية والقيمة الجماهيرية العربية طوال سنوات ، وأن تتأثر إعلامياً بما تبثه من برامج فنية وإجتماعية و ثقافية وسياسية ، إلى أن تمكنت إذاعة الشرق الأدنى البريطانية من مزاحمتها بعض الشيء منذ العام 1941.
إستقطبت إذاعة ماركوني منذ ولادتها مختلف الفنانين ، وأتاحت الفرصة أمام المواهب الشابة دون إستثناء ، فنبغ منهم من نبغ ، و توارى منهم من لم يستطع أن يثبت وجوده . وقد نال المشاهير من أمثال (منيرة المهدية ونادرة الشامية وفتحية أحمد و مطربة العواطف ملك وبخاصة أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب و صالح عبد الحي و الشيخ أمين حسنين) حصة الأسد من البرامج ، كذلك إعتبر كل من (عبد الغني السيد و أحمد عبد القادر و نجاة علي و رجاء عبده و عبده السروجي و محمد بخيت و محمد صادق) من الأوائل الذين تحق لهم الأفضلية على من يليهم . أما رياض السنباطي فقد نال إمتيازاً خاصاً بفضل مصطفى بك مدير معهد الموسيقى العربية الذي كان يُدرس فيه ، وبفضل مدحت عاصم عضو مجلس إدارة الإذاعة للقضايا الموسيقية ، عندما أتاحا له فرصة العمر في الأداء العلني كمطرب ، وفي التلحين لغيره .
و مدحت عاصم هو الذي شجع المطرب آنذاك فريد الأطرش ليغني من إذاعة ماركوني في العام 1936 لحنين لمدحت عاصم ( كرهت حبك ) و ( ميمي أنا السعيد في غرامي ) . يقول السنباطي عن بدية تعامله مع الإذاعة ما يلي :
" وذات يوم طلبتني الإذاعة ، والإذاعة في رأيي لها باب ضيق ، إذا نجح الفنان في الدخول منه .. وهذا الدخول يتطلب أشياء كثيرة . فأنت قد تدخل منه لأنك ممتاز فعلاً في فنك ، وقد تدخل منه لأنك محسوب من المحاسيب ، و قد تدخل منه لأنك لا تستطيع الغناء و لاتمتاز في ناحية من النواحي .. و كذلك تدرك في النهاية أن الجميع متساوون . و يستولي عليك شعور بعدم الرضى .. وأنا شخصياً كانت لي تجربة كبيرة ، فعندما تقدمت لها بأغنيتي التي سمعتها أم كلثوم في إحدى الإذاعات الخاصة فقدرتها ، وأعني بها (ياريتك حبيبي) كانت الإذاعة تعاملني معاملة الفنان المبتدئ الناشئ ... وعلى الرغم من مرور السنين الطويلة التي تطور فيها إنتاجي ، فإن المسئولين في الإذاعة لم يدركوا هذا التطوّر .. وهذا وضع سيء للفنانين ...".
إن المرارة المختفية وراء هذا القول الذي أدلى به السنباطي في العام 1954 يدل دلالة قاطعة على أن الإمتيازات التي قدمت له من قبل (مصطفى بك رضا) و (مدحت عاصم) إنحصرت فقط على دخوله من الباب الإذاعي الضيق كما وصفه .
كانت حصيلة استقطاب الإذاعة للفنانين والمطربين ، هو التنافس بين الأعلام وغير الأعلام على مدى سنوات ، و إنعكس هذا على العطاء الفني بأبعاده ، فإشتهر فنانون مغمورون ، من أمثال : فريد الأطرش وأسمهان و إبراهيم حمودة و محمد عبد المطلب و إرتفع فنانون من مصاف النخبة من الأعلام ، كرياض السنباطي و محمود الشريف وتوارت نجوم لم تستطع أن تساير الركب المتطلع إلى الأمام ، من أمثال منيرة المهدية ، ونادرة الشامية ، ووإنطفأ مطربون ، كان يمكن لهم لو إستمروا أن يلمعوا أكثر كمحمد بخيت ، وعبد اللطيف البنا . و الإذاعة تعامل الجميع بإستثناء محمد عبد الوهاب وأم كلثوم بتسعيرة واحدة ساوت فيها بين النخبة المتميزة من الملحنين و الملحنين العاديين الذين دخلوا أبواب الإذاعة كمحاسيب لا يملكون من الفن حتى إسمه . و الزمن لايعترف بالوقوف ، وقوافل الفنانين مستمرة في مسيرتها ، لا يعيقها عائق من أجل الوصول إلى الهدف اللانهائي في الحياة الموسيقية.
إن الإقبال على الإستماع لإذاعة القاهرة دفع بهذه الإذاعة إلى إصدار مجلة إسبوعية تحت إسم (الراديو المصري) ، وهذه المجلة كانت تنشر إلى جانب البرامج المقرر إذاعتها اسبوعياً نصوصاً للأغاني الجديدة المتميزة ، وتعليقات مختلفة ، وأبوابها منوعة في الثقافة الفنية الخفيفة ، و في الأدب القصصي المصري و العالمي . ونظرة واحدة إلى أحد الأعداد الصادرة آنذاك ، وإلى البرامج الأسبوعية التي تتضمنها تكفي للتعرف على الأسماء التي لمعت في دنيا الطرب و التلحين ، وأشهر تلك الأسماء هي : محمد عبد الوهاب الذي كان حتى تلك الفترة مقلاً في التلحين لغيره ، و محمد القصبجي و زكريا أحمد اللذين استقطبا بألحانهما جل المطربين و المطربات ، ثم رياض السنباطي و محمود الشريف وعزت الجاهلي . أما المطربون و المطربات الذين لحن لهم كل هؤلاء ولمعت أسماؤهم عن طريق تلك الألحان فهم : أم كلثوم ، فتحية أحمد ، نادرة الشامية ، نجاة علي ، رجاء عبده ، سعاد زكي ، أسمهان ، ليلى مراد ، عبد الغني السيد ، أحمد عبد القادر ، محمد بخيت ، عبده السروجي ، إبراهيم حموده ، محمد عبد المطلب ، حورية حسن ، صالح عبد الحي ، وغيرهم . وتكاد القائمة لا تنتهي كلما أوغلنا قدماً في تقليب أعداد المجلة الصادرة في أواخر الثلاثينيات . و لكن ماذا عن الفترة الواقعة بين عامي 1934 و 1936 ؟ ... ماذا عن نشاط السنباطي خلال هذين العامين كمطرب وملحن ؟
استطاع السنباطي بصوته الرقيق الناعم أن أن يتبوأ مكانة خاصة في إذاعة ماركوني ، من خلال ما كان يقدمه من وصلات غنائية ، وكانت الوصلة الغنائية تقدم في السهرة على دفعتين ، الأولى في مستهل السهرة قبل الأخبار الرئيسية ، والثانية بعدها ، وكان يقدم هذه الوصلة حسب الظروف مرة أو مرتين في الشهر ، وكان يغني في كل وصلةعلى الطريقة المتبعة في الوصلات الغنائية ، فيستهل الحفلة بمقطوعة موسيقية تراثية أو موضوعة من تإلىفه أو بمقدمة الأغنية التي سيغني ، ومن ثم ينفرد بالعزف على العود ليقدم إرتجالاته (تقاسيم) ، تنتهي بالعودة إلى المقدمة الموسيقية التي تعاد مرتين ، والتي لا يكاد ينتهي أداؤها حتى يبدأ عازف القانون إرتجالاته ، وهكذا يتعاقب أعضاء التخت الشرقي البارزون في تقديم إرتجالاتهم الموسيقية ، حتى إذا إنتهوا من ذلك يبدأ الغناء بالليإلى (الغناء بكلمة يا ليل) التي يختمها بموإلىا (موال) ، أو يكتفي بالليإلى ، وفي كلتا الحالتين تعود الفرقة (التخت الشرقي) لتؤدي مقدمة الأغنية الموسيقية عدداً من المرات ، لترسيخ نغمة المقام في ذهن المستمع ، إيذاناً بتقديم الأغنية الأساسية في الوصلة الأولى ، التي تكون عادة دوراً أو مونولوجاً أو قصيدة . ولما كان ما لحنه السنباطي من أدوار لا يعتد به وغير معروف أو مدوّن ، فإن ما كان يقدمه إنحصر على القصيدة أو المونولوج بالنسبة للوصلة الأولى ، وقصيدة أخرى و أغنية خفيفة (طقطوقة) بالنسبة للوصلة الثانية . و كان يحلو له أن يغني بعض ألحانه التي أعطى للمطربين و المطربات ، وإن كان يفضل دائماً أن يعطي جديداً ، وخير مثال على ما أوردناه هو التسجيل الأثري لوصلة غنى فيها قصيدة الزهرة ، وإتبع فيها ما ذكرناه آنفاً .
أشهر الأغاني التي غنى في الإذاعة منذ تأسيسها في العام 1934 ، أغنية (يا ريتك حبيتني زي ما حبيتك) و قصيدة (مفادير في جفنيك) لأحمد شوقي ، التي غناها أمام شوقي قبل أن يغنيها فيما بعد محمد عبد الوهاب ، و يقول السنباطي: أن أحمد شوقي سأله عن معنى إحدى الكلمات في القصيدة ، فلم يعرف ، وعندها قال لي شوقي : إياك أن تلحن أي كلمة دون أن تعرف معناها . ويقول السنباطي أنه عمل بهذه النصيحة منذ ذلك التاريخ ، فلم يلحن كلاماً أو شعراً إلا إذا إستوثق من المعنى تماماً .
أدلى السنباطي بذلك في الحديث التلفزيوني الخاص بتلفزيون الكويت . علماً أن السنباطي إلتقى بشوقي في العام 1931عندما غنى من تلحينه قصيدته الشهيرة (مقادير من جفنيك) في المعهد الموسيقي .
وكذلك غنى من شعر علي محمود طه قصيدة ( يا مشرق البسمات) ، ومن شعر عباس محمود العقاد (يا نديم البوات) ، ومن شعر أحمد فتحي قصيدة (همسات) و موال (ياريت ودادي يصون قلبك القاسي) ، وقد سُجل هذا الموال فيما بعد بصوت المطرب عبد الغني السيد ...
وفي هذه الفترة من حياته إرتبط بصداقة وطيدة مع محمد القصبجي الذي وجد فيه صدى لألحانه وإسلوبه في التلحين ، مع تباين واضح في معالم الشخصية الفنية . وتعود علاقة القصبجي بالسنباطي إلى الفترة التي كان يلتقي فيها الشيخ علي القصبجي بالشيخ محمد السنباطي ، غير أن الصداقة توطدت بين الإثنين منذ أخذ القصبجي يزكي السنباطي في مجالسه و يمتدح فنه و أخلاقه ، وفي رأي النقاد أن القصبجي كان عاملاً مؤثراً و فاعلاً في حياة السنباطي ، وفي إقبال أم كلثوم وغيرها على ألحانه.
كذلك الأمر بالنسبة للشيخ زكريا أحمد الذي تعاون مع السنباطي منذ أن بدأت أم كلثوم بالتعاون معه ، وإن شاب هذه العلاقة الفتور(علاقة أم كلثوم بزكريا) على الرغم من قدمها بسبب التباين الكبير في أخلاقهما من جهة ، ولتفضيل أم كلثوم السنباطي على زكريا في الأعمال الكبيرة ، وما نقوله عن زكريا أحمد بالنسبة لعامل التفضيل عند أم كلثوم سرى فيما بعد على القصبجي أيضاً ، فدب الجفاء بين زكريا و القصبجي من جهة و السنباطي من جهة ثانية ، ويروي السنباطي تفاصيل ذلك فيقول :
" ..... لم يكن شيء يقف في وجه أم كلثوم .. كانت في بداية شهرتها ، وكل ما تقدمه يلقى نجاحاً منقطع النظير ... في ذلك الوقت بدأت ألحن لها .. كان هناك الله يرحمه الشيخ زكريا و محمد القصبجي يلحنان لها . وعندما إندمجت معها جداً إبتعدت قليلاً عنهما ، فزعلا..... أنا حاولت كثيراً أن أصلح ذات البين ..بقا الأمور المإلىة ...الخ ...
لم يكن هناك فائدة ... كانت الله يرحمها عند إصرار فريد من نوعه ، عندما تصر لا تراجع فيه أبداً ".