جسارة التعبير لدى نجيب المانع

Sunday 7th of July 2013 08:27:14 PM ,

ملحق اوراق ,

قراءة: قحطان جاسم جواد
من الكتب المهمة للروائي الراحل نجيب المانع كتاب بعنوان (جسارة التعبير) وهو من الكتب التي صدرت بعد رحيله وحرره وكتبه زوج اخته سميرة المانع الكاتب المعروف صلاح نيازي. وقد صدر الكتاب عن دار الشؤون الثقافية ويقع في 144 صفحة من القطع الكبير.

الكتاب بمثابة وفاء للروائي المانع على ما قدمه من اسهامات ادبية وهو من جيل الخمسينات ثم غادر العراق واستقر في مدينة الضباب ومات فيها في 30/ 10/ 1991 وقد مات وحيدا بالسكته القلبية ، مات على كرسي ويضع ساقا على ساق كعادته، ورأسه يميل الى اليسار، وعلى صدره كتاب ويده اليمنى على فخذه الايمن ويده اليسرى مرفوعة الى الامام قليلا وكانه يهم بتناول سيكارة. انسجام تام بين جسده والصمت يجعل من الموت اغفاءة مجرد اغفاءه سعيدة. وقال الطبيب حين عاينه على هذه الشاكلة انه مات قبل 24 ساعة!
يقول صلاح نيازي عن المانع (مامن احد يستطيع ان يوجز نجيب، أو ان يختصره بكلمات او الوان او باي ايقاع، انه الوحيد الذي كان قادرا على اختصار نفسه. اغفاءه ممتلئه بالسكون. كتب مقالات عن بروست على صدره. وفي التسجيل شريط لمختارات من شعره ريكله باللغة الانكليزية. وفي الجانب الاخر مقطوعات دينية لباخ، وعلى الارض كتب معلمة، قطع فيها بعض شوط. هذا هو نجيب المانع كما اختصر نفسه. ازمان في زمن ولقاءات في غرفة واحدة. انهار في قدح، وجبال في تمثال. الاف الكتب والاف الاسطوانات. لم ار في حياتي غرفة مكتظة بانسجام، اكتظاظ الاطفال في الاعياد كغرفة نجيب كان يقرأ كمن يقرأ مصيره في بوليصة. من ذا مثله يمتلك تلك الاذن التي تخزن الاف الالحان؟ لم ار في حياتي يتيما ذاهلا، كما رايت في غرفة نجيب.. كلها يتامى مذهولة صامته. الكتب والاسطوانات وكانها انقطعت عن التنفس والنبض، ولا تعرف كيف تنقذ عاشقها من السكته القلبية السريعة. شلت مرة واحدة ولا تدري كيف تمشي اليه وتقبله على وفائه الابدي لها. حتى ساعة تعطلت بعد وفاته على الساعة الثانية يوم 31 تشرين اول !)
وفي مكان اخر يقول نيازي عن نجيب:ـ
انه نخله من البصرة منقوعة بالماء، وراسها ملهب بالشمس. عاطفته كذلك منقوعة بالماء وعقله مشبوب، متصلان منفصلان كجذور النخلة وعروقها. يقرأ شكسبير باكبار وتدمع عينه لسقط زند المعري، يحلق مع ماريا كلاس زدتيرخ فيشر ديكاو ولا يذوب الا مع صوت ام كلثوم، يتمعن بمقالات جون رسكن ولا يتغذى الا من الجاحظ , لايهمه من كل الفلسفات الاكرامة الفرد، لاتهمة هوية النص، بقدر علاماته الابداعية الفارقة، وهو فوق الخرازات المذهبية والدينية بل يهمه الانسان.
الكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات كتبت في اوقات متباينة جمعها صلاح نيازي لتظهر في هذا الكتاب. وتتضمن 26 مقالة متفرقة بدأها بمقالة (بعض الحرية في كثرة الاسئلة وبعض العبودية في كثرة الاجوبة) ومقالة (المواضيع الوديعة التي يخيف الناس بها الناس)، ومقالة (الرضا عن النفس او الذات هل هو مرض عربي) ومقالة (الميوعة العاطفية في الاداب والفنون) و مقالة (الاحسان الخشن) و مقالة(ادهاش المنتجات العلمية مرة واحدة وادهاش المنتجات الفنية الوف المرات) ومقالة (كلمات تحيا وكلمات تموت) ومقالة (ازدهار كتب السيرة هذه الايام) و(خريفية الاشياء) و(اسطورة العمق بلا سطوح) و(الى المسرح ايها الادباء العرب كي تخرجوا من ذواتكم) و(تراجع المقالة الادبية امام زحف البحث) و(حذاء فان كوخ وكرسيه وغليونه) و(انصاف المخبولين – عالم صاموئيل بيكت) و (الكسل اللاجسماني) و (سايكولوجية الكتابة لمطبوع يعيش لساعتين) و(السرقات الادبية حتى تكون اسهاما وحتى تكون نهبا).
في مقالته (مواضيع وديعة يخيف الناس بها الناس) يؤكد نجيب المانع ان الاصطدامات الفخمة تخيف الناس من الموضوع المطروح مثلا (الفلسفة) حين يسمع بها اي شخص يعتقد انها ارض جرداء مخوفة محرقة ليس فيها ماء. لكن الواقع يقول المانع انها ارض معشوشبه نضرة ملاى بالازاهير والرياض. فلماذا تخفينا القضايا الفكرية المصاغة الذ صياغة والمنتمية الى اروع مافي تراث الانسانية بينما لاتخيفنا رواية بوليسية او مغامراتية يقع فيها القتل كل عشرين صفحة!
ويدعو المانع كل القراء برجاء مفاده الى ان يقلب بضع صفحات من كتاب ديكارت (مقالة في المنهج) فاذا او جدها اشد عسرا في الفهم من مقالة اقتصادية فاني مدين له بالاعتذار العميق! ان افخم الكتابات واروع الالحان واسمى التصاوير ايسرها فهما وتناولا.
وفي مقالة الرضا عن الذات هل هو مرض عربي يؤكد المانع ان الشعراء العرب يفخرون بانفسهم الى حد الرضا وكأن كل واحد منهم يقول (انا وحدي على صواب وكل الاخرين على خطأ من يتجاسر فيتحداني سينال عقابا قاسيا) وهذا لايجوز لان الرضا عن الذات هنا في شكلها الديكتاتوري تمنع النقد عنها من الاخرين فمثلا مصطفى صادق الرافعي. يقول: كل من ينقدني اضعه (على السفود) كما فعل مع العقاد. بالرغم من ان كتاب السفود تافه وخالِ من الذوق على حد تعبير المانع!
وفي مقالة عن الميوعة العاطفية في الاداب والفنون يقول المانع ان الميوعة العاطفية تعني التعبير الفضفاض الطنان المغالي فيه لتغليف شعور اعتيادي اواقل. والميوعة خداع لفظي يحاول صاحبه ان يعلن فيه عن ثراء احساسه وهو فقير الاحساس. ومن احد مقاييس الميوعة في الفن هو الموقف من المال فاذا كانت غاية العمل الفني هي الحصول على اكبر كمية من المال باقصر الطرق وبمجرد دغدغة المشاعر واثارة الغرائز كما في مسرحيات سيدتي الجميلة او ايفيتا او كلاهوما التي تختلف عن فن الاوبرا. وهي اعمال ميوعة جعلت الملايين يدفعون اموالهم بدون الحصول على متعة فكرية. وكذلك اغنيات مادونا والفيس برسلي المليئة بالصراخ والمشبعة بالميوعة العاطفية على عكس الكثير من الاغاني الملتزمة والجميلة. ويبدو أن مقولة العملة الرديئة تطرد الجيدة هو صحيح تماما.
وبخصوص الادهاش يقول في مقالته (ادهاش المنتجات العلمية مرة واحدة وادهاش المنتجات الفنية مئات الوف المرات) بالرغم من ان المعرفة العلمية تقلل من الادهاش وتفسر غوامضه، فاننا نحتاج الى الادهاش الدائم في الفنون لان فيها بحثا وراء ماليس نحن، ذلك ان غاية الحياة الانسانية هي مضاعفة الحياة، ومضاعفة الحياة تعني ان الانسان يعيش حيوات متنوعة ومتعددة اذا اندهش لشعر الشعراء وموسيقى الموسيقيين ورسم الرساميين فالادهاش دعوة الى الحضور، حيث لانكون والوجود في المكان الذي نحن غائبون عنه. والادهاش استشراف لاحاسيس لم نعهدها من قبل او هي كامنة لدينا يقوم العمل الفنيب بايقاظها فتحياها.
ويستغرب المانع من كتب السيرة الشخصية في الادب والفنون وزيادتها المضطردة ويرجع سبب زيادتها الى بهاتة الحياة الراهنة وغياب العمالقة في الغرب. ففي الساحة الفرنسية غاب اشخاص مثل اندريه مالرو وبروست وسارتر وكامو، وانبرى الكتاب يبحثون في التراث محاولين الاستفادة من روحية الحنين الى الماضي. وفي روسيا هناك عودة لاتنتهي الى الكاشفين الكبار امثال تولستوي ودوستوفيسكي وغوغول وبوشكين ، وقل الشيء نفسه على امريكا حيث نرى سيرة ذاتية عن همنغواي وهنري جيمس ولنكولن وجعفر سون.
السيرة ميدان (يقول المانع) يجود فيه الكشاف الجوال في افئدة غيره وعقولهم وايامهم تجوال العالم مع حنان وتجوال الحنون مع موضوعية الناظر نظرة القاضي الذي يضع نفسه موضع المتهم مع رغبته الصادقة في اصدار حكم عادل مدركا ان جوهر العدالة ان يكون الحكم غير مشوب بالرغبة في الانتقام.اذ ان البشر خطاة على درجات مختلفات من الخطيئة وليست خطيئة الغرور الناجم عن الثقة المطلقة ببراءة الذات قليلة الخطر على من يتعامل مع الناس الاحياء منهم والاموات.
في مقاله (خريفية الاشياء) يعتقد ان الخريف هو وحده بين الفصول متواضع ولا يطلب الكثير، فالربيع مغرور، والصيف وقح، والشتاء شرير) في حين ان الخريف يعطي كل شيء للارض والريح والفصول.
ويؤكد المانع ان اعظم الكتابات هي خريفية الظلال، خريفية المطامح، خريفية الالحان، فمسرحيات شيخوف وغالبية قصصه خريفية. ملك شكسبير (لير) كائن خريفي . شعر ت. س. اليوت خريف لامماحكة ولا محاولة للرد على النفي الكامن في عنجهية التوكيد القارس. كذلك شعر بودلير خريفي.وهل هناك (يقول المانع) روح خريفية اعجب من شعر المعري، البريء من التودد للناس ، البريء من التودد لمن فوق الناس، البريء من العطاء لمن لايحتاج ان يعطى. اوبرات فاجنر خريفية من اولها الى اخرها. هاملت عود خريفي مجرد من الاوراق والازهار لايستجيب لحب اوليفيا ولا يستجيب للدفء البشري الكاذب.
والروح الخريفية ليست حزنا او يأسا بل يكمن فيها فرح عجيب هو فرح الرضا، لا الرضا عن انجازات الذات بل رضا الناظر الى الدنيا بحنان.
كتاب "جسارة التعبير" كتاب ممتع وجدير بالقراءة لما يضمه من اراء واقوال وتجارب عاشها الروائي نجيب المانع.