من بغداد الى القاهرة مع طه حسين

Sunday 17th of June 2012 06:42:35 PM ,

ذاكرة عراقية ,

د. حياة شرارة
اديبة عراقية راحلة
".. يا ناس، ارحمونا وارحموا انفسكم يرحمكم الله. انني في آخر ايامي، اودعكم بكثير من الالم وقليل من الامل" انها صيحة تنطلق من حنجرة عميد الادب العربي وهو في اواخر حياته. ويرتد صداها كطعنة سكين في نفسي وانا اقرأها في المقابلة التي اجراها معه الاستاذ غالي شكري ونشرها تحت عنوان "ماذا بقى من طه حسين؟" ويجتاحني الالم واشعر بارتعاشة استياء تسري في عروقي ووجع يمسك باوتار قلبي وبعد هنيهة اتساءل، نعم ماذا بقي من طه حسين في ادراكي وفكري ومشاعري؟

وللكآبة الوان وافجعها
ان تبصر الفيلسوف الحر مكتئبا
وألوذ بالصمت وتشرد افكاري الى بداياتها الضائعة وتحوم في الزمن المنصرم الذي يلفه ضباب الاعوام الطويلة ويحجب رؤياي الواضحة له وتحاول الامساك بتلك الايام والاعوام المتفلتة من ذاكرتي واذا بها تقودني ببطء وتقف بي على مشارف عهد الصبا وتومئ الى الينابيع التي انتهلت منها معارفي واشعر على غير وعي مني بفرحة طفولية تسري بين جوانحي. فما احلاك وما اجملك يا اعوام الظما الاولى الى رحاب المعرفة! وما اشد اندفاعك وحماسك! وما اوسع امالك وامانيك!.
وها اناذي اجدني – وقد عادت بي المخيلة الى بداية الدرب الطويل، وكأنها طير من طيور الحكايات الاسطورية او دليل من ادلائها الخرافيين الذين ينهبون فيافي الزمن ويتنقلون بخفة حتى يوصلون المربد الى مبتغاه. نعم. ما اشبهها بهدهد سليمان الذي حمل كتابا منه الى ملكة سبأ وبالجن الذين اتوا بعرشها الى قصره قبل ان تصل اليه.. واتطلع من خلال الصبا الدارسة حيث حملتني الذاكرة واجتهد في تشكيل معالم بيئة الالوان لها. واذا شفتاي تفتران عن ابتسامة رضا وغبطة وهما تبصران رحلة التجوال والتطواف في بطون الكتب والدواوين التي اقبلت عليها بنهم بعد انتهاء مرحلة الدراسة الابتدائية.
اجل كانت نقطة البدء التي طالما تاقت روحي اليها وانا اسمع من حولي اسماء طه حسين والمنفلوطي وسلامة موسى وجبران وغيرهم ممن يحق لشقيقتي الكبريين ان تطالعا كتبهما لان كلا منهما اكبر مني بسنتين، بينما انا اقصر منهما باعا في الفهم لانني مازلت في المدرسة الابتدائية وهما اجتازتا هذه المرحلة.
وكنت انظر اليهما نظرة يشوبها الحسد لان سني يحرمني مما يجيزه لهما. حقا ان السنة والسنتين تشكل فوارق بين صغار السن غير انها تضعف وتتلاشى كلما كبر عمرهم حتى لايكاد العقد من الاعوام يعني شيئا في بعض الاحيان. لذلك كنت ارى في المرحلة الابتدائية عقبة كاداء تقف حائلا بين طموحاتي وتطلعاتي. ولكن ما باليد حيلة فعلي ان اتذرع بالصبر وانتظر الشهور وهي تجرجر اذيالها حتى ينطوي عام آخر وانا اكتفي بالسمع والاصغاء الى ما يتحدث به الكبار من حديث الادب والفن والعلم والسياسة.
واحصل اخيرا على شهادة الابتدائية ولم تكن الشهادة بحد ذاتها تهمني البتة ولم تكن الدراسة تروق لي عموماً لان موادها اشبه بالقيود التي تغل حيوية فكري وامانيه وتحصر المعرفة ضمن اطر واسيجه ذات مساحة محددة ولكنني كنت مع ذلك ادرس على نحو جيد ايمانا مني بان لابد مما ليس منه بد.
لقد تنفست الصعداء الان حيث اصبحت مرحلة الابتدائية بين عشية وضحاها اثرا بعد عين وانسلخت من حياتي. واذا بي لا اقبل فقط على قراءة تلك الكتب التي راودت ذهني، بل كنت انكب عليها انكبابا واعتكف عليها اعتكاف الناسك في صومعته، فاقضي سحابة يومي من العطلة الصيفية بين صفحاتها، تملؤني نشوة روحية غامرة وتخالجني مشاعر رقراقة حلوة يحسها المء لدى تحقيق حلمه المنشود وامانيه المؤملة بعد ان طال انتظاره لها ولا سيما اذا كان الانسان ما يزال في مستهل عمره غض الاهاب لين العود.
وهكذا اخذ ذلك التوق العارم الذي يمور بين جوانحي يجد سبيله الى الوجود والنماء.
كان بي عطش الى قراءة المنفلوطي، فهو البداية الشيقة التي تحلق بي في اجواء الخيال والمشاعر الجياشة والدموع الحارة. واقبلت على مطالعة "العبرات" و"النظرات" و"الفضيلة او بول وفرجيني" ابحر على صفحاتها الرومانسية واحداثها المثيرة الممتعة المؤثرة وهي تمد اشرعتها وتطويها امام بصري، وكانت العبرات تخنقني احيانا وانا اشارك البطل او البطلة مآساتهما والامهما المبرحة ولكنني اتمالك نفسي واظهر من الجلد والعزيمة ما يليق بفتاة رابطة الجاش لا "صبية" تذرف الدمع حزنا وغما لمجرد انها تطالع قصة مفجعة، فالدموع ضعف وخور لا تليق إلا بالاطفال وليست من شيم الكبار في شيء.
وهكذا اخذت اتعود اثناء رحلتي مع المنفلوطي على حبس دموعي وكبت مشاعري والمحافظة على مظهري الهادئ وانا ارى الشدائد والكوارث امام عيني وقد درجت على ذلك لا في القصص والروايات وحدها، بل حين تنزل بي المحن وتلم بي الملمات والتي عرفتها في سن مبكرة ايضا.
ويسلمني كتاب الى كتاب ويوصلني اديب الى اديب حتى انتهى الى طه حسين، واقرأ "الايام" وتنحفر صورته بخطوط عميقة في ذهني اشبه بالصورة المنحوتة بمنقاش وتهز مأساة حرمانه من نور الحياة، قبل ان يعي الدنيا ويرى الناس والطبيعة والتراب والماء، خوالج نفسي واغمض عيني ويكتنفني الظلام واتخيل انني لن ارى وجه امي وابي واخوتي ومعارفنا والنخيل والشجل وكل ما يحف بنا من ملكوت السماء والارض واشعر بانتفاضة هلع موجعة ترج طوايا نفسي واحس بطعم الحنظل في فمي وحرارة نار الغضى في اوصالي وصلاة الصخر يتوسدها بدني ويصيح صوت داخلي في روحي، رباه ما افظع ذلك واشد هوله، واحمده واشكره لانني سوية الخلقة، وافتح عيني ويزول ذلك الكابوس الثقيل الذي جثم على ذهني بضع دقائق واتنفس ملء صدري ويمثل امامي شخص طه حسين فلا ارى فيه مجرد اديب عظيم بل اراه ماردا عملاقا لا يختلف في قوته عن هرقل او شمشون الجبار، لقد قهر دياجير الظلام التي تلبدت كالغيوم في سماء حياته وتحول وسطها الى نار موقدة لا تكف عن بث النور والدفء لكل من يتطلع اليها او يدنو منها، فيا للاعجوبة التي يستطيع ان يصنعها الانسان اذا انضمت جوانحه على ارادة صارمة وقوة صلبة! وقد تأتت هذه الارادة والقوة لكاتبنا فخط اسمه بحروف المانشيت في تاريخ ادبنا.
وتثير "الايام" شوقي للاستزادة من ادبه والاغتراف من معارفه الثرة وتمتد يدي الى كتبه واحدا تلو الآخر "حافظ وشوقي" "المعذبون في الارض" حتى تصل الى "دعاء الكروان" ويستوقفني "دعاء الكروان" بقصته الشجية واقول بدل "لبيك لبيك ايها الطائر العزيز!" "لبيك لبيك ايها الكتاب العزيز" ويتردد صوت الكروان في سمعي مغنيا احزان النفس الانسانية ومذكرا بقوة الانسان الرهيبة فاذا بروحي تنحب لمأساة الفتاة البائسة وقد تهشم قلبها شظايا وهي تصدع صاغرة الى امر امها التي تقودها محطمة الفؤاد هي الاخرى الى حتفها.
وتصل صورة اخرى لطه حسين من كتاب "في الادب الجاهلي" صورة التأثر الصامد المتحدي الذي خاض في سبيله معارك ادبية حامية وعرف المحاكم والنيابة دفاعا عن هذا الكتاب، وقد هزت محاكمته بسبب "في الادب الجاهلي" مصر عام 1926، بل وسرت هذه الهزة الى عالم الفكر في الاقطار العربية فالتهب حماسة لطه حسين ولنهجه الجديد في دراسة الادب العربي. ومع اني لم افهم كل ما انطوى عليه الكتاب من دراسة للادب وتاريخه والجاهلين ولغتهم واشعارهم وغيرها من المواضيع ولكن ذلك الدوي الذي احدثه الكتاب اثار خيالي الذي يعشق التمرد والصمود فكيف اذا كانا قد صدرا عن كاتب مثل طه حسين.
لا ادري لماذا يطيب للمرء اذا اعجب باديب او مفكر ان يراه بشخصه الحي بلحمه ودمه وكأن ذلك يلبي حاجة داخلية له وكأن ثمة خيط يربط بين ادبه وصورته التي خلق عليها. بل وقد تحدوه الرغبة لسماع حديثه ومبادلته بضع عبارات ان وجد الى ذلك سبيلا. وهذا ما كنت احسه ازاء كاتبنا الكبير. وتدور عجلة السنين وتتحقق هذه الامنية على غير انتظار ولا توقع مني واتتني الفرصة لرؤيته.
كنت في دمشق صيف 1956 وعلمت ان اجتماعا كبيرا يعقد في الملعب البلدي تكريما لذكرى عدنان المالكي وقد دعي اليه رعيل من كبار الشعراء والكتاب ومنهم طه حسين والجواهري. اقيم الاجتماع عصرا وحضره حشد غفير من الناس رغم ان الوقت كان في شهر رمضان ومعظم الجمهور صائم.
كان طه حسين جالسا مع ضيوف الشرف وتوالى الشعراء والادباء على المنبر لالقاء قصائدهم وخطاباتهم. وكان وجهه يعبر عن الرضا والارتياح وترتسم عليه ابتسامة وادعة حين يسمع ما يروقه من ابيات وكلمات او يتخذ مظهر المصغي الاعتيادي حينما يكون الحديث مألوفا لا شيء فيه يلفت المستمع.
لم يصرفني هذا الجو المتأجج الذي اجتاح الملعب البلدي عن النظر الى طه حسين في تلك الاثناء. وكنت ارى دوما ابتسامة عريضة تشيع على شفتيه تنم على السرور والاعجاب والفرح وكأنه يشعر بنشوة روحية داخلية يفصح عنها محياه. وقد روي عنه انه قال بعد انتهاء الاجتماع ان القصيدة تنطوي على عنفوان الشعر القديم وقوته. ولعل خياله حمله في الملعب البلدي الى الماضي السحيق وذكره بايام سوق عكاظ وغيره من اسواق الشعر حيث كان الانسجام والتلاحم يسودان بين الشاعر وافراد القبيلة ويقوم التفاعل مع بعضهما بعضا ويشعران بينهما بوحدة وتداخل قويين رغم تفوق الشاعر وتميزه عنهم بملكته المبدعة.
وتشاء الظروف الا تقتصر رؤيتي لطه حسين على هذا الاجتماع وان اراه واسمعه عن كثب واجلس بين صفوف طلابه ومن صاروا اساتذة منهم ايضا. فقد سافرت الى مصر عام 1956 لاكمال دراستي في جامعة القاهرة على متن اول طائرة اقلعت الى مصر بعد فتح مطار القاهرة مباشرة بعد اغلاقه على اثر العدوان الثلاثي. كان الظلام يخيم على المدينة حتى ليلة فتح المطار، فالنوافذ والمصابيح الكهربائية مغلفة بورق داكن اللون سميك كيلا تظهر الانوار ليلا مخافة قصف الطائرات. وكان فتح المطار اشارة الى زوال الخطر فعادت القاهرة الى وضعها الطبيعي المألوف وانتهت فترة التعتيم واخذت الاضواء تغمر المدينة بألقها وسطوعها وفتحت الجامعة ابوابها بعد غلقها ما ينيف على الشهر وتوافد الطلبة اليها.
من طبيعة المصريين الترحيب بالضيف بكلمات لا تخلو من المبالغة لمن لم يعتد على سماعها غير انها جرت على السنتهم مجرى العادة وغدت مألوفة الاستعمال في حديثهم ولا يلتفت إلا الزائر الجديد الى مدح الغلو فيها ومع ذلك يشعر بشيء من الاعجاب والاستغراب لدى سماعها ويبتسم على غير ارادة منه لروح الفجاءة والخفة والاسراف فيها. وعندما التقيت اول مصري وربما كان ذلك في المطار او الفندق قال لي مرحباً " نورت مصر" – ومصى تعني عندهم القاهرة – واجبته مبتسمة لقد نورت مصر حقاً، اشارة مني الى ان ذلك اول يوم اضاءت فيه المدينة انوارها.
ذهبت في اليوم التالي الى جامعة القاهرة لتقديم اوراق القبول واكمال المعاملة. وقد تم كل شيء بيسر وسهولة وسرعة لم اكن اتوقعها. كان الدكتور فريد عميد كلية الاداب قد سبق له ودرس خمس سنوات في دار المعلمين في بغداد وتركت تلك الاعوام انطباعات حلوة لطيفة في نفسه. وقد اخبرني هو بذلك بانه يكن الود والحب للعراقيين ويطيب له ان يقدم يد المساعدة لهم. ووجدت منه عناية ولطفا طيلة مدة وجودي في الجامعة وكان يقوم بتدريسنا موضوع جغرافية انكلترا باللغة الانكليزية في الصف الاول.
لم اشعر في الجامعة، على عكس ما توقعت، ان البلاد خارجة لتوها من هزة العدوان الثلاثي (انكلترا، فرنسا، اسرائيل) التي تركت في نفوسنا صدى عميقا من الاستياء واثارت فينا حماسة وطنية لا توصف. كنت اظن ان حديث الطلبة سيدور حوله ويستقطب اهتمامهم واذا الشيء الوحيد الذي خلفه في نفوسهم هو ـاخرهم عن الدراسة بسببه. وقد كانوا مشغولين عنه وعن احداثه مقبلين بجد وحرص على الدراسة والقراءة وحضور المحاضرات والتحضير لها. كان الطلبة العرب وحدهم هم المعنيين بالحديث عن العدوان والسياسة. واتذكر حدثا مهما آخر لفت نظري بان الطلبة لم يحفلوا به وظلوا يتابعون المحاضرات كان شيئا لم يجر في الجامعة. فقد افتتح مؤتمر دول عدم الانحياز في القاعة الكبرى في جامعة القاهرة وحضره عبد الناصر واركان الدولة والهيئات الحكومية والشخصيات الدولية. وكانت حركة عدم الانحياز في اوج عنفوانها بعد نيل كثير من دول العالم الثالث استقلالها وانعقاد مؤتمرها الاول في باندونغ. ولذلك كان للمؤتمر وزنه الثقيل وصداه التأريخي العميق في الحياة السياسية. وكانت حركة وضجة غير اعتياديتين تشهدهما قاعة الجامعة الكبرى ويرتد صداهما الى قاعات المحاضرات ولكن جرت الدراسة بشكلها الاعتيادي ولم يغادر مقاعد الدراسة ويحضر المؤتمر سوى بعض الطلبة العرب وكنت من ضمنهم، إذ وجدت فيها فرصة قلما تتاح للمرء فكيف يمكنني ان افوتها. وبقيت هذه اللا مبالاة بالاحداث السياسية موضع استغرابي حتى قامت ثورة 14 تموز وكان شهر تموز فترة عطلة طبعا ولكن حماسة الناس للثورة كانت تثير دهشتي ايضا فقد اخذوا يوزعون "الشربات" تعبيرا عن فرحتهم وسرورهم ويغادرون محلات عملهم ويتجمهرون في الاماكن التي يوجد فيها راديو لسماع آخر نشرة انباء وكانوا يبدون القلق بسبب عدم القاء القبض على نوري السعيد وهروبه في اليوم الاول، وكانت موضع اهتمامهم كما لو انها تمس حياتهم الخاصة.
سرعان ما غمرتني الجامعة في جوها العلمي وحياتها الثقافية الغنية. فكنت اسرع الى المكتبة صباحا لحجز كتاب توجد منه نسخة او نسختان ولا يعطى للاستعارة الخارجية ولا يستطيع الظفر بقراءته إلا من يبكر الى المكتبة ويحجزه باسمه ويعود الى قراءته بعد انتهاء ساعات المحاضرات، لأن الاعتماد على المصادر الخارجية هي اساس الامتحان.
لم يكن الذهاب الى المحاضرات واجبا على الطلبة فلا يسجل غياب ولا حضور ان قاعات الدراسة مشرعة ابوابها لمن يشاء التردد عليها من رغبة وطواعية، ولا شان لها بمن يعزف عنها او يتماهل في الاختلاف اليها، فلا حساب ولا عقاب للطالب الخامل فهو الذي يعاقب نفسه بنفسه ويخسر بدلا من ان ينتفع وتفوته معارف لا قبل له بتحصيلها لان المناهج مشرعة ابوابها ايضا. لا تحدها حدود كتاب واحد ولا محاضرات استاذ واحد، واساسها المعرفة الواسعة الشاملة التي تتطلب المطالعة والتفكير والادراك. ولابد للطالب من الغوص في بطون الكتب والتعرف على اراء الاساتذة ومعلوماتهم الوافرة كي يؤدي الامتحان. اما العوم على السطح فلن يجدي عنه فتيلا ولن يوصله الى غايته وسيظل قعيد مكانه، معللا نفسه بما يطيب له من الاسباب والظروف تبريرا لاخفاقه، او قد يظل على هامش المعرفة مزودا عقله بالحد الادنى منها الذي يسعفه في اجتياز الامتحان، غير ان الصعوبة كانت تواجه الجديين من الطلبة، الذين يريدون الاغتراف من ينابيع المعرفة ما وسعهم الى ذلك سبيلا. تتطلع الى جدول المحاضرات وتتملكك الحيرة: الى محاضرة اي استاذ تذهب، فهذا وذاك محاضراتهما قيمة ولكنها تلقى في نفس الساعة، وعليك ان تسرع الى محاضرة فلان قبل خمس او عشر دقائق لتجد لنفسك مقعدا تجلس فيه وإلا قضيت الوقت واقفاً ان لم يجزلك زملاؤك مكانا، وعصرا تلقى محاضرات لطلبة الدراسات العليا من اساتذة جهابذة ولابد من الاختلاف الى بعضها، وثمة اطروحات قيمة تناقش، تسجلها الاذاعة احيانا لاهميتها، ولا محيد من الاستماع ولو الى قسم منها والافادة منها. ولا محيص لك اذا اردت الاحاطة بجزء من ذلك ومتابعة دراستك اليومية المطلوبة منك، ان تقنن وقتك وتقيد منه افادة قصوى فلا مجال لاضاعته في الثرثرة والتواني والاحاديث اللا مجدية وإلا اضعت فرصا سانحة لن تواتيك فيما بعد. ولابد من الاختيار هنا كذلك، لانك لن تفلح بالاحاطة بكل ما تتوق اليه نفسك وما يصبو اليه فكرك. ولكن اضطرارك للاختيار لن يكون مثبطا لعزيمتك، بل محفراً لطاقتك الكامنة لتبرز وتظهر بكل امكاناتها ولتهبك تلك المتعة الفكرية والراح النفسية وذلك الشعور العميق بانسانيتك وبانك لست مجرد كائن حي يدب على الارض يأكل ويشرب وينام ويعمل وإنما له عالمه الروحي الذي يريد الارتواء ويطلب الزاد ويروم ارضاء حاجته ايضا.
كنت احضر دروسنا في القسم الانكليزي صباحا وكان الاساتذة كلهم من المصريين بعد ان انسحب الاساتذة الانكليز من الجامعة اثر تاميم قناة السويس، ولكن ذلك لم يؤد الى هبوط المستوى العلمي وكان يرأس القسم الدكتور المعروف رشاد رشدي ويدرسنا مادة الشعر وكان الاساتذة ضليعين في اختصاصاتهم سواء في اللغة او الادب وعلى اطلاع باحدث الكتب الصادرة في الخارج عن مواضيعهم اما مادة اللغة العربية فتولى اهمية خصوصية فكانت الدكتورة سهير القلماوي تلقي لنا المحاضرات عن الادب العربي. اما عصرا فكنت احضر مناقشات شهادات الدكتوراه والماجستير والمحاضرات التي يلقيها طه حسين في القسم العربي. كان يلقي بعضها في قاعة مدرجة واسعة وبعضها الاخر في حجرة لصف اعتيادي تقتصر عادة على حضور طلبة الماجستير والدكتوراه.
غير ان الحضور لم يقتصر على طلبة الدراسات العليا وانما يحضرها عدد من اساتذة القسم العربي كسهير القلماوي والخشاب وشوقي ضيف اضافة الى بعض محبي الادب، وقاعات المحاضرات كما ذكرت سابقا مفتوحة ابوابها لمن يشاء. غير ان قاعة الدكتور طه حسين تختلف عن بقية صفوف الدراسة بجو من الاجلال والمهابة يحيط به الحاضرون وجوده عفوياً فيشعر المرء فعلا انه داخل حرم له قدسيه حيث يسود صمت مطبق ولا ترى سوى اذاناً مصغية وانفاسا مكتومة وعيونا منتبهة يقظة ووجوه الحاضرين شاخصة باهتمام الى المحاضر الجالس قبالتها بجسمه النحيل ونظارتيه السوداوين ويديه المشبوكة اصابعهما ببعضهما بعضا في قبضة واحدة متوترة وهو يلقي محاضرته وكأنه يتلو صفحات من كتبه ولا يتصور المرء انه يرتجل بهذا التدفق واليسر والتلقائية لو لم يره مائلا امامه والمستمعون منشدون اليه، يصغون بتفكير وتمعن في كل ما يقوله. ورغم هالة التعظيم التي يحاط بها فانك لا تشعر بوجود حاجز بينك وبينه، فنفسه قريبة اليك قرب الهواء والماء منك، تبث الدفء فيك كنهار يشع نوراً وحرارة. اسلوبه ينساب متسلسلا كالجدول الجاري، نبرة صوته هادئة عذبة الجرس يعلق بها السمع عن طوع واعجاب. لعل هذا الابتعاد عن التعقيد والغموض هو الذي يدنيك منك ويمحو المسافات التي اقامها خيالك بينك وبينه وإذا اسلوبه اشبه بعصا موسى السحرية يمحو بلمح البصر تلك المسافات ولا تشعر إلا انك تجلس قبالة انسان يملأ منك السمع ويمتع الفكر.
يبدو احيانا وكانه يحدثك عن امور بديهية لها طبيعة الاشياء المألوفة غير انه يكشف لك عن شيء جديد فيها. شيء لم يخطر لك ببال وتظمأ له نفسك فتجد فيه نكهة لم تتذوقها من قبل واموراً كنت غافلا عنها ووضوحا وبساطة قصر عنها تفكيرك وتظل الى جنبه مصغياً مستمتعاً بذلك التجديد في فكره وحديثه.
كنت اداوم على الحضور وذات يوم وصلت متأخرة بضع دقائق عن محاضرته لطلبة الدراسات العليا ووقفت مترددة امام الباب الموصود، هل ادخل ام اعود ادراجي؟ وعز علي ان ارجع واحرم نفسي من الاستماع اليه. لا يجد المر غضاضة في دخول المحاضرات اذا تأخر عن ميعادها لدى الاساتذة الاخرين فهو شيء مالوف بل بوسعك الانصراف إذا لم ترق لك. اما في محاضرة طه حسين فالامر يختلف كل الاختلاف، انه ينبو عن الذوق السليم واللياقة. غير انني رغم معرفتي بها قررت ان لا اتخلف عن سماعه، ففتحت الباب بهدوء ودخلت وسرت دون ان احدث صوتا تقريبا ولكن الالحاظ اشرابت الي وحدجتني بنظرة يشوبها الاستياء والامتعاظ واشعرتني انني اتيت عملا غير مستساغ فكان دخولي اشبه باقتحام مكان لا يجوز اقتحامه فتملكني الخجل وتركز كل همي في ان اصل الى مقعد فارغ اشغله لأتوارى عن اعين النظارة. واجتزت الغرفة حتى اخرها حيث توجد بعض الكراسي الخالية وجلست وانا ما زلت اشعر بوخز تلك النظرات التي سددت الي. وما هي الا دقائق معدودة حتى نسيت كل هذا واندمجت في حديثه العذب. غير انني لم انس حادثة دخولي المتأخر تلك حتى الان وقد احسست بانها عمل اخرق بعد إقدامي عليه مباشرة.
لم تكن الاجواء الفكرية في القاهرة وقفا على الكتب والمحاضرات، بل كانت لها امتداداتها الرحبة ما دامت الحياة الثقافية في القاهرة متشعبة واسعة غنية وتختلط فيها المعرفة بالترويج عن النفس والتسلية الممتعة للعقل والقلب. وذات ليلة كانت دار الاوبرا تستضيف فرقة رقص اسبانية، فقرر نفر من الطلاب والطالبات العراقيات، وانا معهم، ان نذهب اليها وقداتي الحريق على دار الاوبرا قبل عشر سنوات تقريبا والتي تم تشييدها على الطراز الكلاسيكي قبل ما ينيف على مائة عام في احدى المناسبات المهمة للدولة، ان سقفها وجدرانها ومعمارها نموذج لذلك الفن وتعتبر من دور الاوبرا الشهيرة في العالم. لما انتهى الشطر الاول من الحلقة فتحت الانوار لفترة الاستراحة.
وما ان جالت عيوننا في الحاضرين حتى الفينا طه حسين وزوجه جالسين في إحدى المقصورات، وخطر ببال بعضنا ان نذهب اليه ونتحدث معه وتردد قسم منا حيث كان يشعر بالارتباك والخجل من اقحام انفسنا عليه، غير ان واحدا منا وكان اكثرنا جرأة، حسم الامر بلا اخذ ورد واصطحبنا اليه بثبات وبادر في الكلام معه فاخبره بننا طلبة من العراق وعبر له عن اعجابنا بادبه وشخصه واننا لم نستطع ان نمنع انفسنا من القاء التحية عليه والتحدث معه بضع كلمات حين وقعت ابصارنا عليه.
لاح السرور على محياه وقال انني مبتهج بهذه المبادرة الطيبة من جانبكم وقد استشفيت فيها الروح العراقية التي تجل الادب والادباء وتعرف قدرهم. وطلبنا منه ان ناخذ معه بعض لصور فلبى طلبنا ثم انصرفنا لشأننا. شعرنا بالفرح لتلك الفرصة السانحة واخذنا نتكلم ونعلق بروح الطلبة الجذلة الصاخبة يقاطع بعضنا بعضا في الحديث وكانت نفوسنا لا تخلو من شيء من العجب لان احدا غيرنا لم يقبل على تحيته وكيف يحضر حفلة لفرقة رقص وهو لايرى شيئاً. ولكن اي عجب في ذلك؟ اليست الموسيقى مصاحبة للرقص، اليس في سماعها متعة للسمع والقلب، الم يعتد على الذهاب الى المسارح في فرنسا؟ بلى، بلى، انه لكذلك، فمتطلباته الروحية وذوقه السليم يمليان عليه ان يستمتع بنتاج الفن ما وجد الى ذلك سبيلا.
مضت السنون وانطوت صورة طه حسين الشخصية في ناظري غير انها بقيت ماثلة في ثنايا ذهني، تطل علي كلما جلست مع كتاب من كتبه استعيد قراءته مجددا بعد ان طوى الزمن محتواها من ذاكرتي او كاد، واجد فيها المتعة الفكرية نفسها التي وجدتها عندما كنت اقرأها او اسمع شتاتاً منها وهو يتلوها على الحاضرين او حين يأخذ بيد القارئ والاديب برفق ولين ليحبب اليهما الادب العربي القديم بعد ان الغى نفورهما منه وضيقهما به ويبسط لهما في "حديث الاربعاء" قصائد الشعراء وما يقصدون اليه من معنى وما نتطوي عليه من صور رائعة ويشرح لهما ما كان مستغلقا عصي الفهم عليهما فيزول الغموض والابهام ويتجلى كل شيء بحلته الجميلة. واذا كان رفيقا بنا لينأ معنا عندما تقتضي الامور ذلك فهو صارم معنا شديد علينا عندما يرى اننا نضل سواء السبيل فيخيل الينا ان الكتابة شيء سهل هين فتسمعه يخاطبنا في "خصام ونقد" انه يريد "للاديب ان يكون عصيا ابيا لا يكتب لينشر في الصحف بل ينشر في الصحف لانه كتب.. ومعنى هذا كله اني اريد للادب ان يكون قبل كل شيء وعلى رغم كل شيء مقاومة بادق ما لهذه الكلمة من معنى، مقاومة للنفس التي تكره الجهد وتضيق بالعناء وتنوء بالمشقات.." نعم، الادب مقاومة، مقاومة في مختلف مضارب الحياة ابتداء من اعمق اعماق النفس وامتداداً الى دنيا الله الواسعة التي ندب ونتحرك على رقعة صغيرة منها. ويذكرني قوله هذا بمقالات "حديث الاثنين" لسانت بيق التي كان ينشر مقالا منها كل يوم اثنين ويستعير لكتابته من المكتبة الوطنية في باريس اكثر من خمسة وعشرين كتابا في الاسبوع ! لربما اراد ان يذكرنا بشيء من هذا القبيل في حياتنا الادبية.
لا اريد ان استطرد في الحديث عن الغزارة التي تزخر بها كتاب طه لانني ساجد نفسي سائره في سبيل لن ادرك له نهاية وما خطر لي على بال في ان امضي في شعابه. ولكن صيحة طه حسين ".. يا ناس، ارحمونا وارحموا انفسكم يرحمكم الله.. انني في آخر ايامي، اودعكم بكثير من الالم وقليل من الامل" تعود ترن في اذني والتي اطلقها حين سأله غالي شكري عن كتابه "على هامش السيرة" وانه من جملة ما قيل عنه انه "تحول بهذا الكتاب من النقد الادبي الى الاساطير" واتذكر العديد مما جعله يحس بالمرارة وهو يرى بعد ان اصبح طاعنا في السن الشروخ والتصدعات في كل ما بناه وما بذل حشاشة نفسه له. فها هو يتحدث بالم عن الجامعة التي اسهم في اقامتها على اساس رصين: "الجامعة كانت في زماننا محرابا للفكر، كانت قدس اقداس الحرية، اسع الان انها تحولت الى شيء شبيه بالمدارس الثانوية او المدارس المهنية المتوسطة، دعنا من هذا الموضوع، ساعدهم الله." واستغرق في التأمل والتفكير في كل ما يعاني منه وما يوجع شيخوخته وما وهبه لنا من عطاء غني ثر واردد "ماذا بقي من طه حسين" في ادراكي وفكري ومشاعري" واسمع رجع الصدى من بقاع تفصلني عنها بيد وبيد ومن زمان احتواه التاريخ في قرارة لجته، ومع ذلك فقد جاء الصدى جليا بينا ليقول لي بوضوح وصراحة: لقد بقي الكثير الكثير ولكن عليك ان تعودي الى الينابيع الاولى وتنتهلي منها كما انتهلت بالامس، فلا غنى لك ولا لغيرك عنها وما عرفت الارتواء منها في يوم من الايام ولعلك لن تعرفيه.
عن مجلة الاقلام العدد الاول (كانون الثاني 1988)