من أشهر المحاكمات السياسية في العراق الحديث

Sunday 20th of May 2012 08:09:02 PM ,

ذاكرة عراقية ,

د. مؤيد الونداوي
باحث ومؤرخ
القسم الاول 1921- 1939 أولا: اشهر المحاكمات السياسية في العهد الملكي 1920- 1939
واجه الاحتلال البريطاني للعراق 1914-1918 مقاومة عراقية عنيفة تجلت عبر صور مختلفة أهمها عندما تطوع الاف من العراقيين للقتال، وتعد معركة الشعيبة (1915) النموذج البارز في هذا الميدان إذ تقدم المقاتلتين، عدد من رجال الدين وشيوخ القبائل من بينهم المرجع الكبير الحبوبي والشيخ محمود الحفيد.

وتعد ثورة عام 1920 الصورة الأولى للمقاومة العراقية للاحتلال، وكانت السبب في ان يعترف البريطانيون بوجوب منح العراق حق تشكيل حكومته الوطنية، وهكذا جاء تشكيل اول حكومة عراقية في 25 تشرين اول 1920، برئاسة عبد الرحمن النقيب.
بعد ذلك التاريخ ولغاية عام 1932 وهي السنة التي نال فيها العراق استقلاله التام واصبح عضوا في عصبة، كان العراق قد اصبح قيد الانتداب والوصاية البريطانية بموجب قرارات عصبة الامم، البريطانيون من جانبهم قدموا الكثير من مقاومي الاحتلال للمحاكم العسكرية البريطانية، والتي قضت بالحكم عليهم بالإعدام والسجن أو النفي خارج البلاد، وتعد قضية الشيخ ضاري المحمود والحكم عليه بالإعدام واحدة من اشهر المحاكم السياسية المبكرة التي شهدها العراق الحديث، على الرغم من ان المندوب السامي السير بيرسي كوكس كان قد اصدر عفوا عاما عن جميع المشاركين بتلك الثورة وذلك في 30 مايس 1921.
وتعد قضية اغتيال وزير الداخلية توفيق بك الخالدي بتاريخ 22 شباط 1924 اول جريمة اغتيال سياسي في تاريخ العراق الحديث، على وفق ما أرخه لنا السيد عبد الرزاق الحسني، وقعت الجريمة عندما كان الضحية متجها الى منزله مساء ذلك اليوم، ولقد قيل الكثير عن دوافع هذه الجريمة والاشخاص الذين حرضوا عليها، وقد ذكرت اسماء مسؤولين كانوا على راس الحكم في العراق، منهم الملك فيصل الاول وجعفر العسكري ونوري باشا، إذ قيل في حينه ان المغدور كان من انصار الجمهورية، وكان يتطلع الى ان يحكم العراق عراقي، ولهذا تم الاتفاق على التخلص منه عبر تكليف شاكر القره غولي الذي اختبأ في منزل عبد الحميد كنه القريب من منزل الخالدي، ومنه انطلق ونفذ جريمته.
قيل أيضا ان القومين العرب قابلو الاغتيال بالغبطة والسرور وعلى راسهم ياسين الهاشمي لكون الخالدي كان من دعاة الاتحاديين وكان عضوا بارزا في الحزب الحر العراقي المعروف عنه موالاته للإنكليز، ولهذا فقد تم تكليف عبد الله محمد سرية بتنفيذ عملية الاغتيال وقد نفذها بمساعدة القره غولي، وهذا ما أسر به الى الحسني في عام 1941 عندما كان الرجلان معتقلين بعد وقوع احداث 1941.
لم يسجل التاريخ العراقي الحديث تورط الملك فيصل الاول بأي جريمة من هذا النوع، وعلى أية حال لم يهتم احد في متابعة هذه الجريمة وتقديم الجناة للمحاكمة.
القضية الاهم التي اتخذت شكلا سياسيا وعرفت باسم قضية الرسائل السرية التي تم توزيعها وايصال نسخ منها الى الملك فيصل والتي ثبت بعد التحقيق ان وراءها مزاحم بك الباججي، احداث القضية التي حصلت وقائعها 1931 وكان الباججي قد احتل اكثر من منصب وزاري قبل ذلك التاريخ وقد وجه له الاتهام بانه وراء كتابة تلك الرسائل التي تعرضت الى الذات الملكية وقد نظر لمحاكمته على انها محاكمة سياسية غير انه كانت هنالك وكما يبدو لنا دوافع شخصية وعائلية ايضا لم يكشف عنها التاريخ بعد وقد اطلعنا عليها من خلال مطالعتنا لبعض الوثائق البريطانية.
تمت تسوية المشكلة بين الباججي والملك بهدوء ونقل الباججي للعمل في السلك الدبلوماسي إذ امضى حوالي 18 عاما في أوربا قبل ان يعود ويتولى رئاسة الوزارة عام 1948.
خلال السنوات 1921-1936 وقعت احداث كثيرة سببتها احداث وشخصيات سياسية وزعامات عشائرية اتخذت شكل الثورات العشائرية وهي ثورات كانت تقف وراء الكثير منها اسباب ودوافع سياسية، غير أن أيا من الاشخاص والجماعات التي حرضت عليها لم يتم تقديمه الى المحاكم، وقد كان من بين الاساليب التي اتبعتها الحكومات في معالجة مثل هكذا مشاكل أعمال التأديب والنفي والاقامة الجبرية والفصل من الوظيفة أو الدراسة والعفو وفي هذا المجال هنالك العشرات من الامثلة التي تؤكد ما ذهبنا اليه هنا ولا مجال لذكرها أذ هي ليست هدف هذا الموضوع غير ان أهم تلك الثورات العشائرية كانت ثورات عشائر الفرات الاوسط وثورة خوام العبد العباس وثورات الشيخ محمود الحفيد وثورة بارزان وقضية الآثوريين وهي جميعها احداث خلالها سقط صرعى وجرحى الكثير من الاشخاص الحكوميين والعسكريين والمدنيين مع اتلاف ونهب للكثير من الممتلكات العامة.
في عام 1936 وقعت جريمة مروعة وذلك عندما أقدم عدد من الضباط المشاركين في اول انقلاب عسكري نفذه الجيش العراقي وقاده الزعيم بكر صدقي بتنفيذ عملية اغتيال الفريق جعفر العسكري وزير الدفاع في حكومة ياسين الهاشمي. لم تكن هنالك نية اصلا لدى من ساهم في تخطيط وتنفيذ الانقلاب تنفيذ جريمة كهذه بقدر ما اجبرتهم تطورات الاحداث ان ينفذوها عندما قرر العسكري سلوك مسلك التفاوض معهم من اجل انهاء المشكلة، غير ان من ارتكب الجريمة وهم خمسة ضباط كانوا قد قرروا تنفيذها اعتقادا منهم ان اغتيال العسكري سيفتح الطريق لنجاح تنفيذ العملية الانقلابية وهذا ما حصل فعلا.
حاولت الحكومة المدفعية التي تشكلت بعد مقتل بكر صدقي تقديم القتلة الى المحاكمة غير ان قانون العفو العام الذي استصدرته وزارة حكمت سليمان في 1 مايس 1937 حال دون ذلك، ولم يقدم للمحاكمة منفذو هذه الجريمة على الرغم من اعترافهم بارتكابها
كما شهدت المرحلة التي اعقبت نجاح الانقلاب وتشكيل الحكومة الجديدة برئاسة حكمت سليمان عددا من الاغتيالات السياسية شملت ضياء يونس الموصلي، سكرتير مجلس الوزراء في حكومة ياسين الهاشمي وذلك في كانون الثاني 1937 كما عثر على علي رضا الجعفري شقيق جعفر باشا ذبيحا في منزله في اذار 1937 ونفذها نائب العريف محمد عبد الله التلعفري، بينما نجا مولود باشا مخلص من الاغتيال في شباط 1937.
لم ينجُ بكر صدقي طويلا إذ بتاريخ 11 اب 1938 تم اغتياله وبصحبته المقدم محمد علي جواد امر القوة الجوية. عملية الاغتيال تمت في حديقة مطار الموصل بينما كان بكر صدقي بالطريق إلى تركيا، خطة الاغتيال رتبها عدد من ضباط الجيش لم يتم تقديم اي منهم للمحاكمة بسبب حاجة الاوضاع الداخلية من أجل تسوية الموضوع وغلق الملف.
تعد محاكمة رئيس الوزراء حكمت سليمان والذي تولى منصبه هذا بعد تنفيذ بكر صدقي انقلابه الشهير عام 1936 واحدة من أشهر المحاكمات. بتاريخ 6 اذار 1939 ..
أعلنت الحكومة وكان وقتها يرأسها نوري باشا السعيد عن وجود مؤامرة تهدد ام البلاد واستقرارها وقد وجهت الاتهام الى حكمت سليمان بانه وراء تدبير هذه المؤامرة ومعه عدد من الضباط.
كان السعيد لا يزال ناقما على حكمت سليمان ودوره في احداث انقلاب 1936 الذي نجم عنه مقتل جعفر باشا الذي كان متزوجا من شقيقة نوري السعيد، فضلا عن كون نوري هو نفسه قد غادر العراق طواعية خوفا على حياته من بكر صدقي واعوانه واستقر في القاهرة محرضا ضد المساهمين في ذلك الانقلاب.
الحقائق التاريخية تؤكد عدم وجود مؤامرة من تدبير حكمت سليمان وان القضية لم تكن سوى عملية ملفقة دبرها نوري السعيد من اجل الانتقام من حكمت سليمان والذي تم تقديمه للمحاكمة والتي بدورها أصدرت حكما بإعدامه.
أطراف عديدة تدخلت من اجل انقاذ رأس حكت سليمان من حبل المشنقة وكان من بين من تدخل السفير البريطاني في بغداد، ونصح بعدم تنفيذ الحكم قناعة منه بان القضية بمجملها عملية سياسية دبرها نوري السعيد وبالتالي ليس من مصلحة حاضر العراق ومستقبله ان يتم تنفيذ هذا الحكم وكان السفير يرى بأن تنفيذ الحكم قد يفتح الباب واسعا لمزيد من التصفيات السياسية لاحقا. في النهاية اجبر حكمت سليمان على البقاء في السجن لبضع سنين ثم اعفي عنه ليقضي بقية حياته بعيدا عن عالم السياسة العراقية.
مقتل الملك غازي بتاريخ 4 نيسان 1939 بسبب حادث السيارة الشهير لا يزال موضوع جدل بين المؤرخين فيما اذا كان مقتله ناجما عن خطة ساهمت بها اطراف كي تتخلص منه ام ان الحادث كان نتيجة تهور الملك في قيادته لسيارته.
صحيح ان هنالك من يربط بوجود دور لنوري السعيد بالموضوع غير انه يبقى محصورا في عالم التكهنات خاليا من اي سند يؤكد ذلك، والوثائق البريطانية المعروض منها لا تساعد بشيء. هذه القضية تبقى موضوع جدل حالها حال قضية مقتل وزير المالية رستم حيدر بتاريخ 18 كانون الثاني 1940 على يد مفوض الشرطة المفصول المدعو حسين فوزي توفيق والذي مرة اخرى حاول بعض المؤرخين عدها من الجرائم السياسية التي ارتبط اسم نوري السعيد بها ولكن من دون ان يقدم اي دليل واضح. المهم تم التعامل مع القضية بوصفها قضية جنائية وصدر حكم الاعدام بحق مرتكبها.

ثانيا: أشهر المحاكمات في العهد الملكي بين 1941 و 1958.
ثورة مايس 1941 وما نجم عنها من تطورات واحداث انتهت ليس بالفشل فقط، بل كانت سببا في ان يشهد العراق سلسلة من المحاكمات التي طالت قادة الثورة من مدنيين وعسكريين، مثلما طالت اعداد كبيرة من الناشطين السياسيين ممن وقف الى جانب الثورة وساهم فيها.
لم تكن الثورة سوى نتاج لسلسلة من الحوادث السياسية انتهت بأن فرضت بريطانيا الحرب على العراق، من اجل ضمان مصالحها السياسية والعسكرية والاستراتيجية وهي تخوض الحرب ضد ألماني.
الاحداث الداخلية المتسارعة انتهت بتدخل الجيش العراقي ممثلا بما عرف في حينه باسم الضباط الاربعة، ونقصد بذلك العقيد صلاح الدين الصباغ ورفاقه وفرضهم ان يتولى رشيد عالي الكيلاني الحكومة، واجبرت تلك الاحداث الوصي على العرش الامير عبد الاله، على الهرب وترك البلاد ليستقر في عمان، وقد تبعه إليها عدد آخر من السياسيين الموالين له في مقدمتهم نوري السعيد واخرون، وحالما تمكنت القوات البريطانية من السيطرة على الاوضاع، وإعادة الوصي الى بغداد جرت ملاحقات واسعة لكل من كان طرفا في الثورة، تم اعتقال الكثيرين ونقلهم الى معسكرات اعتقال في الفاو والعمارة وفي روديسيا، في حين تم تنفيذ محاكمة لمن تم اعتقالهم من رؤساء وزراء ووزراء وقادة في الجيش ومدراء عامين، واصدرت بحقهم بتاريخ 6 كانون الثاني 1942 احكام الاعدام والسجن مع الاشغال الشاقة، وتم تنفيذها بعد ساعات قليلة من صدورها.
من أهم الشخصيات التي صدرت بحقهم احكام الاعدام ومن ثم تنفيذها، كان العقيد صلاح الدين الصباغ ومحمد فهمي سعيد ومحمود سلمان وكامل شبيب في حين خفف حكم الاعدام لاحقا عن علي محمود الشيخ علي والفريق امين زكي ويونس السبعاوي وتم سجنهم لبضع سنوات.
كما حكم على الوزير ناجي شوكت بالأشغال الشاقة لمدة 15 سنة بينما توفي ناجي السويدي في معسكر اسره في روديسيا وكان واحدا من افضل رجالات العراق الوطنيون.
وتعد محاكمات ثوار مايس 1941 من اشهر المحاكمات السياسية لأنها كانت سببا لاحقا في خلق حالة من العداء لدى تيارات سياسية لأن تعمل من أجل أسقاط النظام السياسي فيما بعد.
أحداث كانون الثاني 1948 التي شهدتها البلاد بسبب توقيع معاهدة بورتسموث نجم عنها سقوط الكثير من المتظاهرين بين جريح وقتيل وقد تم اعتقال الكثير من المساهمين فيها، ولكن وفي النهاية لم تكن هنالك محاكمات سياسية بالمعنى الكامل لهذا الوصف على الرغم من تأكيد الحكومة على تنفيذ أحكام قانون التجمعات، والذي يقضي بالسجن لمدد حدها الاقصى الحبس لمدة تصل الى خمس سنوات، لمن يشترك او خطب على ملأ من الناس او الصق على الجدران اوراقا مطبوعة او غير مطبوعة او وزعها محرضا الناس على التجمهر.
الحرية الصحفية والتعددية الحزبية التي بات يشهدها العراق بعد نهاية الحرب الثانية، وان كانت محدودة فأن نوري السعيد ولأجل أن يضع حدا لاستمرار التظاهرات في شوارع بغداد، والتي تواصلت منذ مطلع كانون الثاني 1948، ولأجل تنفيذ شكل من اشكال القبضة الحديدية في حكم البلاد بعد الهزيمة في فلسطين، فقد وجد في الحزب الشيوعي العراق ضالته لكونه لم يكن بوسعه محاربة الاحزاب القومية ومنها حزب الاستقلال.
وكان مكتب التحقيقات الجنائية قد تمكن في منتصف كانون الثاني 1947 من كشف قيادات تنظيم الحزب، الذي أصرت الحكومة عدم منح إجازة تأسيسه في عام 1945-1946،بقيادة زعيم الحزب يوسف سلمان يوسف (فهد) وهكذا تم اعتقاله وعدد من قادة الحزب ومحاكمتهم . تم الحكم على فهد واثنين من قادة بالإعدام، بينما تم الحكم على اربعة عشر اخرين مددا مختلفة. محكمة التمييز التي عرض عليها الحكم ابدلت عقوبة الاعدام بالسجن المؤبد. السجناء تم نقلهم الى سجن الكوت لتمضية مدد محكومياتهم فيه، ولكن اكتشف فيما بعد انهم استمروا يواصلون نشاطهم السياسي من داخل السجن، وقد تمكنت دوائر الشرطة من كشف كامل التنظيم بما في ذلك المطبعة الحزبية.
ولما تشكلت وزارة نوري السعيد العاشرة فقد نشطّت دور المجلس العرفي العسكري في ايلول 1948 وهو المجلس الذي اصدر حكمه بالإعدام شنقا حتى الموت على فهد وثلاثة من رفاقه. وقد تم تنفيذ حكم الاعدام بحقهم وذلك في 14 و 15 شباط من عام 1949. وتعد هذه القضية من اشهر القضايا السياسية التي شهدت تصفية خصوم سياسيين بسبب من نشاطهم السياسي.
الوثائق الرسمية البريطانية ذات الصلة وقضية اعدام قادة الحزب الشيوعي تم حجبها بالكامل باستثناء ورقة واحدة، تشير الى ان نوري السعيد كان وراء المطالبة بتنفيذ الحكم. وفي قضية اخرى تتصل بشخصية اجتماعية معروفة ونقصد به التاجر العراقي المعروف شفيق عدس (يهودي) وكان قد حكم عليه بالإعدام هو الاخر عن جريمة المتاجرة مع اسرائيل، فأن الوثائق البريطانية المتصلة وهذه القضية معروضة بالكامل وهي تظهر حجم الضغط الذي مارسه السفيران البريطاني والامريكي في بغداد على الامير عبد الاله، لأجل عدم تنفيذ الحكم بحق المدان على الرغم من علمهما بحقيقة ما ارتكبه من جريمة جنائية .
لم يكن امام الوصي سوى المصادقة على تنفيذ الحكم، من اجل ان يرضي الشارع العراقي بعد وقوع النكبة في فلسطين.
اكثر الشخصيات السياسية الذي طالته المحاكم كان زعيم الحزب الوطني الديمقراطي كامل الجادرجي. أنظم الجادرجي الى حزب الاخاء الوطني الذي كان يرأسه ياسين الهاشمي عام 1930 وانتخب عضواً في اللجنة المركزية لذلك الحزب. وتولى ادارة صحافة الحزب المذكور فحوكم في عهد وزارة نوري السعيد الاولى وحكم عليه بالسجن، وفي تلك الفترة اظهر كامل الجادرجي مقدرة كبيرة في ادارته لصحافة حزب الاخاء الوطني.
وكان الديمقراطيون قد بدأوا بالتجمع قبيل حوادث عام 1941 في العراق، وكان كامل الجادرجي متصلاً بهم وبالحركة الوطنية عموماً، وفي ايلول من عام 1942 اصدر مع عدد من الديمقراطيين جريدة (صوت الاهالي) ومع إجازة تأسيس الاحزاب العراقية عام 1945 اسس كامل الجادرجي مع محمد حديد وحسين جميل ، الحزب الوطني الديمقراطي الذي اجيز رسميا في نيسان عام 1946 وقد تولى كامل الجادرجي قيادة الحزب.
خاض الجادرجي مع حزبه المعارضة ضد العهد الملكي . وقد قدمته وزارة ارشد العمري للمحاكمة بعد تكوين الحزب بأشهر قليلة عام 1946 وحكم عليه بالسجن ثم نقض الحكم وأعيدت المحاكمة، استمر الجادرجي في خطه الديمقراطي وقدم للمحاكمة مرة اخرى عام 1947، في حزيران عام 1949 قدم نوري السعيد الذي كان على رأس الوزارة كامل الجادرجي مرة أخرى الى المحاكمة وحكم عليه بالسجن مع ايقاف التنفيذ وإغلاق جريدة صوت الاهالي.
معظم المحاكمات التي تعرض لها الجادرجي كانت مناسبة يتم خلالها إذلال الحكومة وكسب التأييد له وقد نجى الجادرجي بحياته ولكنه قضى أوقات مهمة من حياته في مواقف الشرطة.
في عام 1952 شهد العراق حدثا سياسيا كبيرا اطلق عليه المؤرخون اسم انتفاضة كانون الثاني. اضراب طلبة كلية الصيدلة لم يكن حدثا انيا منعزلا بقدر ارتباطه بمجمل الاوضاع السياسية العامة القائمة في البلاد وقت ذاك. لقد تطور الاضراب بسرعة الى تظاهرات كبيرة عمت بغداد رافقها وقوع مصادمات بين قوات الشرطة والمتظاهرين سقط خلالها عدد من الجرحى والقتلى. ولقد استغلت قوى المعارضة السياسية الاحداث واستخدمتها لمصلحتها الى ابعد الحدود، وكانت النتيجة ان اضطر الوصي على العرش ان يستعين بالجيش وان يأتي بالفريق نور الدين محمود لتولي الوزارة خلفا لحكومة مصطفى العمري التي اجبرتها الاحداث على تقديم استقالتها. من جديد تم اعلان الاحكام العرفية في بغداد وتعطيل تنفيذ قانون اصول المحاكمات الجزائية وعدد اخر من القوانين، لأجل ان تتمكن المحاكم العرفية والعسكرية من اصدار احكامها على وفق ما يتراءى لقائد القوات العسكرية.
هذا وقد اصدر الزعيم الركن عبد المطلب الامين قائد القوات العسكرية للإدارة العرفية قرارا بغلق عدد من الاحزاب منها حزب نوري السعيد (حزب الاتحاد الدستوري) وايضا حزب صالح جبر أي حزب الامة الاشتراكي وشمل القرار ايضا حزب الاستقلال والوطني الديمقراطي وحزب الجبهة الشعبية. هذا وقد تم القبض على العشرات من المتظاهرين وزجهم في المعتقلات ولكن لم يمض وقت طويل حتى تم اطلاق سراح معظمهم نتيجة لسياسة تطيب الخواطر التي نفذتها الحكومة.
حكومة نوري السعيد الثانية عشرة والتي تشكلت في شهر اب 1954 احد اهم الوزارات التي تشكلت في العراق الملكي وهي الوزارة الاطول عمرا إذ استمرت وبعد ان شكل نوري السعيد حكومته الثالثة عشر لغاية نيسان 1957. هذه الوزارة لا تزال موضوع جدل بين المؤرخين وما تمت كتابته عنها لا يزال يعكس الجانب المظلم منها، بسبب موقفها من احزاب المعارضة ودورها في تأسيس حلف بغداد، وموقفها من قضية العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. بالمقابل اجد ان هنالك جانبا اخر مضيئا عملته الحكومة عبر اصدارها اكثر من مائة تشريع يتصل بتنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية وبناء الهيكل الوظيفي للدولة بما في ذلك اصدار قانون الضمان الاجتماعي وغيره.
كان السعيد بحاجة الى استخدام سياسة العصا الغليظة من جديد ضد خصومه ومثلما فعل عام 1949، وذلك من أجل تنفيذ خططه في انهاء معاهدة 1930 واقحام العراق بحلف دفاعي يضمن للعراق الحماية الغربية بالضد من توجهات الاتحاد السوفيتي. اقدم نوري باشا على اصدار سلسلة من المراسم بموجبها تم تعطيل الحياة الحزبية وتحجيم المعارضة السياسية، كما شرّع قانونا بموجبه تتمكن الحكومة من اسقاط الجنسية عن العراقي الذي تتم ادانته بأنشطة سياسية. قوانين كهذه ساعدته كثيرا في الهيمنة على البرلمان وتأسيس حلف بغداد. ولكن لم يمر وقت طويل حتى انفجر الشارع العراقي بسبب موقف الحكومة من العدوان الاسرائيلي – الفرنسي – البريطاني على مصر.
من جانب الحكومة وتحت ذريعة تهيئة البلاد لمواجهة احتمالات تطورات العدوان على مصر لجأت الى اعلان حالة الاحكام العرفية من جديد، في حين كانت مثل هذه الخطوة تهيئة الارضية لمواجهة غضب الشارع العراقي والذي لم يدم وقت طويل حتى شهد التظاهرات الكبيرة والواسعة التي عمت مدنا عراقية عديدة سقط خلالها العديد من الجرحى وزج بالمئات في السجون والمعتقلات وتم فصل المئات من الطلبة من الكليات والمدارس.
قادة احزاب المعارضة السياسية تم اعتقالهم ومن بينهم كامل الجادرجي ومحمد صديق شنشل وفايق السامرائي وعبد الرحمن البزاز وجابر عمر وحسين جميل وحسن الدجيلي ومحمد علي البصام وغيرهم وقد صدرت بحقهم احكام بالسجن ونفي الاخرون الى مناطق نائية في شمال العراق .اما شيوخ العشائر فقد تم نفي عدد منهم الى مناطق خارج مناطق سكناهم الاصلية.
انتهى النظام الملكي في العراق في 14 تموز 1958 ولكن مما يمكن تسجيله انه حاول دوما تجنب سياسة تنفيذ احكام الاعدام بخصومه مفضلا دوما تطبيق الاحكام العرفية وتعطيل الاحزاب واعلان حالة الطواري بوصفها طرقا اسهل في تنفيذ اجراءاته ضد الخصوم وهي اجراءات سرعان ما كان يتم تلافيها وانهائها بأسرع وقت، وكانت اجراءات مثل الابعاد والنفي للخصوم الى مناطق محددة ونائية او اصدار احكام بالسجن او الحبس لبضع سنوات هي الاخرى سرعان ما كان يرافقها قرارات بالعفو وعودة المشمولين بها لمزاولة نشاطاتهم السياسية، سياسات مثل الفصل والابعاد عن الوظيفة او من المقاعد الدراسية قد تمت ممارستها ايضا ولكن بحدود مع التراجع عنها بعد مضي وقت قصير.