أصدقاء رشيد القندرجي يتذكرون

Sunday 17th of September 2023 10:54:49 PM ,
5511 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

كمال لطيف سالم

فقد قال تركي الجراخ و هو خبير في المقامات العراقية و صديقا حميما لرشيد (كان رشيد يأتي كل يوم لزيارتي, يجلس هنا في هذا المحل و كان يدندن ببعض الانغام ثم يصمت عندما يجد الناس يحملقون به، ثم يقول عن تلمذة رشيد لاحمد الزيدان (ان حكاية رشيد القندرجي مع احمد الزيدان إبتدأت حين كان رشيد يعمل عاملا في احدى المقاهي التي اندثرت و هي مقهى القيصرية و كان ينصت للأستاذ احمد الزيدان الذي كان يحيي حفلات الجالغي البغدادي,

و ذات يوم تغيَّب احمد الزيدان عن موعده فحار الموسيقيون بمعالجة الموقف فطلبوا من رشيد ان يحل محله و بالفعل قرأ رشيد و اثار انتباه الموسيقيين ولكن عندما علم احمد الزيدان مسك رشيد من رقبته و لكنه عندما علم بحسن صوته ودقة ادائه شجَّعه و قال له ستكون خليفتي في هذا الميدان الصعب فواصِل الطريق, و هكــــذا اصبح رشيد ملازما لاستاذه..)، ثم يسترسل تركي الجراخ ويقول (أذكر أنه قبل وفاته بأيام كنت قد قابلته في سوق الصدرية وكان يضع فوق كتفه معطفا سميكا وعندما سألته أجاب أن ألماً حادَّاً قد لازم ظهره منذ ليلة الأمس.. وقال أيضا.. لو لا تحديد ساعة تقديمه بالمقام في الاذاعة لما ذهب وعندما ودَّعْتهُ لم ألتقه بعد ذلك فقد دخل في بيته ولم يخرج منه إلا ميتا.

لقد شيَّعته بغداد بحرقة فقد ترك فراغا واضحا لا من المقام حسب بل بحضوره الشخصي).

اما الحاج هاشم الرجب احد تلامذة رشيد فيقول عن بعض خصائصه: (لقد تأثر رشيد باستاذه احمد الزيدان و اخذ عنه الكثير وبما ان صوت استاذه كان ضعيفا ولأن مقامات التحرير تحتاج الى قرار قوي, فكان احمد لا يتفنن بمقامات التحرير بل يركز جهوده على مقامات البدوة كالابراهيمي و المحمودي و الطاهر و قد برع في المقامات العالية).

اما الصحفي الكبير الاستاذ عبد القادر البراك فيقول (تعرفت على رشيد القندرجي في سرداب جريدة العراق عام 1942 حيث كان يتردد لزيارة بعض اصـــدقائه من محرري الجريدة و كان يلبِّي دعواتهم لقراءة المقامات التي يودون الاستماع اليها منه..)، فيما ذكر الاستاذ الصحفي المخضرم صادق الازدي يقول (تعرفت على رشيد القندرجي في شهر مايس عام 1941 وهو الشهر الذي قامت في بدايتة الحرب بيننا و بين بريطانيا و قد اسهمتُ اثناء ايام تلك الحرب بتحرير جريدة يومية مسائية يصدرها المرحوم عبد الله حسن, و كانت الاعداد التي صدرت منها خلال مايس هي آخر ما صدر منها طوال مدة الحرب العالمية الثانية و كان احد اصحاب مطبعة الرشيد التي تطبع النهار على ماكنتها من قراء المقام العراقي و هو المرحوم محمد سعيد احد اصدقاء رشيد القندرجي و كان رشيد يزور المطبعة في معظم ايام الاسبوع و كان يرتدي الملابس العصرية و يضع السدارة على رأسه و هو ممتلئ الجسم قوي البنية رغم كونه يتجاوز الخمسين من العمر, و عندما كان يجلس معي في غرفة ادارة المطبعة كان يسألني ما هي اخبار الحرب يا صادق..؟ فكنت اروي له الانباء التي سمعتها عن طريق الاذاعات العربية و كنت سعيد الحظ لأنني سهرت و أياه في بيت صديق له و لي, فانطلق يغني ثم ذهب بعد ذلك الى بيته الذي يعيش فيه وحيدا و هناك لفظ أنفاسه الاخيرة يوم 8 اذار 1945..).

و بالنسبة الى المرحوم باهر فائق السفير الدبلوسي و الخبير المقامي فيقول (صوته في – البس- \باص في الفرنسية \ جهيري جميل كما يتبين ذلك من اسطوانته التي يغني فيها الرست مثلا و ما استعماله – للزير- أي الصوت المفتعل به في الميانات إلا لأن بُعُدْ صوته محدود في الالحان المرتفعة و اكثر المولعين بالمقام يقدرونه في لونيه المنخفض و المرتفع كما انه يلتزم التزاما كليَّا باصول المقام و قد سمعته في مختلف مقاهي بغداد و المجالس الخاصة, يعطي التحرير و الاوصال و الميانات و التسلوم حقَّها فلا ينتهي من إحداها إلا بعد أن يكون قد وفَّى حقَّها من التعبير النغمي فأشبعها من روحه وفاء للمشاعر التي لحِّنت من اجلها واستيعابها لمعنى الكلم.. تبرز شخصيه القندرجي في ابتعاده عن الابتذال و التكرار الممل و الميوعة باستيعاب الاصول و مراعاة المقام في بُعْديهِ النغمي و المحيطي فمكانة رشيد خير مثال لتلك الصفات).

و اخيرا يتحدث الشيخ جلال الحـــنفي فيقول (كان رشيد سلس القيادة أليفا بسيطا لم اره متعنتا يوما ما إلا في موقف يتطلب منه الاعتراف بالاستاذ القبانجي او الالتقاء به تحت سقف واحد و اني بذلت جهدا كبيرا استمر زمنا غير قصير من اجل جمعهما في مكان واحد فلم افلح في ذلك و كان موقف القبانجي من هذه الناحـية لا يقل امتناعا عن موقف صاحبه, و في الثلاثينات كنت احمل معي آلة تصوير بدائية اجول بها على المغنين والمواسقة و قرَّاء المقام العراقي لألتقط لهم صورهم فكانت صورة رشيد القندرجي تتعرض عندي للفشل الذريع المتكرر و قد لاحقت رشيد القندرجي ملاحقة مستمرة و كنت آخذه الى - مسجد حسب الله - الذي آل منه الجزء المطل على الشارع بعد ان شقَّ شارع الخلفاء و في المسجد كان رشيد يعرض لنا نماذج من تسبيحات التمجيد الذي هو ضرب من الغناء الصوفي الذي كاد ينقرض و يندثر و في مسجد حسب الله تم التقاط صورا كثيرة لغير واحد من رجال المقام).

ثم يختتم المطرب محمد القبانجي هذه الاحاديث بحديث عن سر الخلاف الذي كان بينه و بين رشيد القندرجي. (حين سمعت المرحوم رشيد القندرجي لاول مرة يغني في مقهى علوان العيشة التي كانت ملتقى الفنانين في الثلاثينات لم اكن مشهورا انذاك, لكنني اخذت عليه تحفظه في الغناء, فالذي تسمعه اليوم منه تجده يكرره غدا دون تغيير او تبديل في الانغام شأنه في ذلك شأن المغنين الكلاسيكيين الذين كانوا يعتبرون المقام قالبا معينا لا يمكن تغييره, مع ذلك كان له مؤيدون و الكثيرون المعجبون و ما زالو يذكرونه حتى الآن, و من هنا نشأ الخلاف بيننا.. انا ادعو للتطوير شريطة عدم خروج المغني عن الجوهر و هو يلتزم الكلاسيكية, و اليوم بعد رحيل القندرجي اقول ان خلافنا لم يكن شخصيا بل كان فنيا و اذكر انني عندما غنيت مقام حجاز كاركرد و النهاوند و سمعني رشيد لم يكن يعرف النهاوند او على علم به و بدأ القندرجي يشيع بين الناس على ان القبانجي بدأ يغني حسب مزاجه مقامات ليس لها وجود و لم نسمعها من اساتذتنا).

عن كتاب: اعلام المقام العراقي ورواده, بغداد, 1985