نازك الملائكة.. وحدي ولم يتبع خطواتي غير ظلي

Thursday 23rd of March 2023 01:01:21 AM ,
5395 (عراقيون) (نسخة الكترونية)
عراقيون ,

علي حسين

ياسيدتي ، نحن لا نأخذ إلا ما نعطيه ،

وفي حياتنا وحدها تحيا الطبيعة ،

فثياب عرسها ثياب عرسنا ، وأكفانها أكفاننا

كولردج

قال لها والدها بقسوة وهو يرمي على الارض قصيدة كتبتها: تعلمي أولاً قواعد النحو ، ثم إنظمي الشعر. كانت الصبية البالغة عشرة أعوام ، تسمع اهلها يقولون عنها انها ستصبح شاعرة في يوم من الايام ، تتذكر ان جدها جعفر الجلبي كثيرا ما كان يطلب منها أن تقرأ له شعرا بالعامية ، لكن الشعر سيرتبط عندها بالغناء وبالقصائد التي تنطلق بصوت محمد عبد الوهاب من جهاز الغرامافون الذي يستقر في زاوية من زوايا الصالة في البيت الذي ولدت فيه في الثالث والعشرين من آب عام 1923 في منطقة العاقولية قرب شارع الرشيد.في هذه الفترة نفسها قررت ان تصبح مغنية ، وحفظت كثيرا من الاغاني التي كانت ترددها امام أمها التي استغربت كيف لفتاة صغيرة تحفظ كل هذا العدد الكبير من الاغنيات: ” كنت اغني ساعات كل مساء ، وقد كان الغناء سعادتي الكبرى منذ طفولتي. وكنت سريعة الحفظ لأي اغنية اسمعها “ – لمحات من سيرة حياتي وثقافتي مجلة الجيل 1995 -. تَّدخل فيما بعد إلى معهد الفنون الجميلة لتاخذ دروسا في العزف على ألة العود ، وتجرب حظها في التمثيل.لكن الطالبات في المدرسة كن يطلقن عليها اسم الشاعرة الشاردة ،: ” كنت تلميذة خجولة ، اتحدث عن نفسي.وكانت مدرسة اللغة العربية قد لاحظت انني شاردة في الصف اتطلع عبر النافذة الى السماء «.

في خريف 1935 يرسل الأب صادق الملائكة إلى مجلة “ الصبح “ يسأل هل يمكن نشر هذه القصيدة؟ وجدت اسمها مطبوعا “ نازك صادق الملائكة “ على قصيدة من ستة ابيات بعنوان “ ياقوم “ ، وكانت هذه القصيدة بوابة دخولها الى عالم النشر.. بعد شهر ستقدم لوالدها قصيدة جديدة مطلعها:

هب النسيم يداعب الاغصانا

وبدت ذكاء فابهجت دنيانا

نظر الأب نظرة استنكار الى ابنته التي لم تبلغ الثالثة عشرة بعد ، وسألها: من اين سرقت هذه الابيات؟. ثم اضاف وهو يوبخها بشدة: هل يجوز سرقة الشعر ، هذا امر حرام.

تدخلت الام لانقاذ الصبية: انتِ ما زلت صغيرة وهذا شعر عال ، مكتمل ولا تقدرين على نظمه.

انشغل الاب والام في البحث عن القصيدة في دواوين الزهاوي والرصافي ، فهما على يقين بأن صاحب القصيدة امهر من ان يكون ابنتها نازك. لكنهما فشلا في العثور على اثر لها ، ايقنا في النهاية ان ابنتهما الصغيرة ستصبح ذات يوم شاعرة مبدعة.

لم تعد نازك الملاكة مجرد هاوية للشعر ، وباتت شاعرة موهوبة ومستقلة تدرك ما يدور حولها. ارتابت بالحياة المحيطة بها ، وتسللت نغمة الحزن إلى قصائدها. كانت تشعر دوما انها وحيدة وغريبة ، متعبة القلب ، منهكة يلفها الحزن:

« كان صمت راكد حولي كصمت الابدية

ماتت الاطيار او نامت باعشاش خفية

لم يكن ينطق حتى الرغبات الآدمية

غير صوت رن في سمعي.. وغابا

لحظة لم ادر حتى أين غابا

آه لو ادركت من القاه في الصمت الممل

اتراني لم اكن امشي أنا وحدي وظلي «

ظلت الشاعرة تتساءل في سنواتها الأخيرة هل الصمت حياة..ام هو عَّدم؟ ، الفتاة التي شغفت بكتابات سارتر وكتبت عنه في بداية الخمسينيات: ” الظاهر ان هذا الكاتب الموهوب قد تَّمثل الحياة المعاصرة تمثلا نادر المثيل حتى تنبجس مسرحياته محققة المثل الادبية العليا التي يتلمسها العصر “ – مجلة الاديب اللبنانية 1951 – ، وجدت نفسها وهي تكتب قصيدتها “ انا وحدي “ – نشرت في جريدة اخبار الادب عام 2001 – ان ما قاله سارتر من ان “ الآخرون هم الجحيم “ ، ما هو ‘إلا خرافة ، فالوحدة هي الحجيم:

« كان في روحي فراغ جائع كاللانهاية

كان ظلي صامتا ، لا لحن ، لا رجع حكاية

باهتا يتبع مسرى خطواتي دون غاية «.

تتذكر كيف عثرت في العشرين من عمرها على قصائد الشاعر الانكليزي جون كيتس (1795-1821) احد رموز المدرسة الرومانسية ، تسحرها شخصية هذا الشاعر الذي ظل يردد “ الجمال هو الحقيقة والحقيقة هي الجمال “ ، قصائد مليئة بالحزن والشجن والعواطف الرقيقة ، الشاعر الذي تشكلت حياته من جراء فقدان والديه والفقر والمرض وحبه الفاشل حتى انه يكتب: ” كم هو ضروري عالم الآلام والمشكلات من اجل ترويض الفكر وجعله روحا “.وستترأى لنا صورة الشاعر الحزين في قصيدة نازك الملائكة “ ماساة الشاعر “ التي نشرتها عام 1946 في مجلة الاداب اللبنانية:

آه يا شاعري المعذب ماذا؟

في سبيل الوحي السماوي تحيا

شاحب الوجه متعبا محزونا

قراءة الشعر الانكليزي دفعتها لكتابة مطولات شعرية “ مأساة الحياة “ التي بدأت بكتابتها عام 1945 ، كانت آنذاك في الثانية والعشرين من عمرها ، مفهوم السعادة لديها يختصر في الحب النقي ، تؤمن مثل جون كيتس بأن الحب عقيدة على الانسان أن يضحي من اجلها ، لكنها سرعان ما ستكتشف ان الحب الحقيقي مجرد وهم: ” لان الشهوة الجنسية تدنس الروح وتحد افاق الفكر “ – نازك الملائكة مقدمة مأساة الحياة واغنية الانسان – ، في تلك السنوات شكّل هاجس الموت مفهومها للشعر. في مقال بعنوان “ الشعر والموت “ - نشر في مجلة الاديب - ، تعود الى شاعرها المفضل كيتس الذي تسميه “ شاعر الموت المفتون الاكبر “ لتستعيد عبارته التي يقول فيها: ” الشعر والمجد والجمال اشياء عميقة حقا. ولكن الموت اعمق. الموت مكافاة الحياة الكبرى “. كان كيتس عاشقا للموت وناداه باسماء عذبة في اناشيد عديدة: ” ويدل كيتس على جنونه بالموت حتى دون ان يتحدث عنه مباشرة ويكفي ان نشير مثلا الى قوله في احدى مطولاته (كان هناك موت حي في كل انبجاسة من النغم) . ذلك انه يصف هنا الحياة بالموت دون ان يلوح له هذا متناقضا على الاطلاق “. تخبرنا نازك الملائكة وهي تقدم لقصيدتها “ ماساة الحياة “ بأن هذه القصيدة كانت تمثل فلسفتها في الحياة: ” العنوان يدل على تشاؤمي المطلق وشعوري بأن الحياة كلها ألم وإيهام وتعقيد “ –الاعمال الكاملة الجزء الاول - ، ونجدها تستلهم افكار فيلسوف التشاؤم ارثر شوبنهاور وتحيلنا الى عبارته التي يقول فيها: ” لست ادري لماذا نرفع الستار عن حياة جديدة كلما أسدل على هزيمة وموت. لست ادري لماذا نخدع انفسنا بهذه الزوبعة التي تثور حول لاشيء؟ حتام نصبر على هذا الالم الذي لاينتهي؟ متى نتذرع بالشجاعة الكافية ونعترف بأن حب الحياة إكذوبة وان اعظم نعيم للناس جميعا هو الموت “؟

كان الموت لدى نازك هو مأساة الحياة التي لا تتوقف: ” لم تكن عندي كارثة أقسى من الموت ، وذلك هو الشعور الذي حملته من أقصى أقاصي حياتي الى سن متاخرة “ – مقدمة مأساة الحياة – وجَّدت ان منطق العبقرية ينسجم مع ما أسماه نيتشه بالرغبة في الفناء للتفوق على الذات. وهي ترى ان الشاعر يجب أن يسرف في إنفعالاته ، حتى وان أدى هذا الإاسراف الى موته: ” لا بل انه يسرف لكي يموت ، وهو يمنح الاشياء قيما جمالية اعلى من القيم التي يمنحها الفرد العادي ، ويؤدي هذا المنح الى الموت “. وترى الملائكة ان حياة المبدع تتكون من ثلاث مراحل هي “ الإنفعال والشعر والموت “ ، فالشاعر يحب الإنفعال لأنه يؤدي الى الشعر ، والشعر مع الإنفعال يؤديان الى الموت.

قبل أن تنشر “ مأساة الحياة “ أكملت ديوانها “ عاشقة الليل “ نشر عام 1964 باعتباره اول دواينها ، وفيه تبدو موضوعة الحزن والموت واضحة ، وهذه المرة ستضع اسبابا متعدده لحالة الحزن التي ترافقها ، فهي اولا تضيق بفكرة الموت الذي ينتهي اليه البشر ، والشاعرة الرقيقة نفسها في مواجهة إستعمار بريطاني كريه يحتل بلدها العراق ، أضف الى ذلك ما تعانيه المرأة في المجتمع العربي ، وفقدانها للثقافة والحرية ، ونظرة المجتمع اليها ، والسبب الرابع لحالة الضيق التي ترافقها هو: إحتقاري للجنس والزواج واعتقادي بأن الحب يدنس روح الانسان لما وراءه من حسية –الشعر في حياتي –.

كانت الغربة في “ عاشقة الليل “ خيارها الأول عن سابق تصوّر وتصميم. رغبت في الإفراط في الحزن ، ، الكآبة والرعب من فكرة الموت: ” اما أسباب الحزن الذي يغلف عاشقة الليل فهي متعددة ، واحدها فكرة الموت الذي ينتهي اليه البشر “..فالكآبة تبسط ظلها على الكون ، والقصيدة تبدو تعويضا عن وطأة الحياة ، وفرار من شبح الموت الذي يحاصرنا في كل مكان ، وملاذ من الزمن بدقائقه الثقيلة والبطيئة. إن مشهد الشاعرة المتوحدة المتأملة ، يتكرر كثيرا في قصائد نازك الملائكة ، وينطوي على دلالات لاسبيل الى اغفالها ، فالشاعرة المتوحدة في حضرة الليل ، تمثل لنا بؤرة المشهد الذي يلفه الحزن والأسى ، ويفضي الى المجهول:

ما الذي شاعرة الحيرة ، يغري بالسماء؟

اهي أحلام الصبايا أم خيال الشعراء؟

أم هو الإغرام بالمجهول ام ليل الشقاء؟

أم ترى الافاق تستهويك ام سحر الضياء؟

لقد تحكمت فيها تشاؤومية مريرة وسوداوية مرة ، ونسمع من خلال ابيتها صوت “ المطر الكئيب “ ونمر على “ الوادي الكئيب “ ، وتتفتح اعيننا في “ الصباح الكئيب “ تلك الكآبة التي تقول عنها: ” كآبتي خالفت نظائرها «.

في سيرتها الشعرية التي نشرت فصولا مجتزأة منها عام 1983 ، نعرف ان كل شيء حولها كان يتصف بالحيوية والتوهج والنشاط ، فالاب أديب له مجلس ثقافي يستضيف كبار الادباء والكتاب ، والام سلمى عبد الرزاق تنشر القصائد في الصحف والمجلات تحت اسم “ “أم نزار الملائكة”. وفي البيت مكتبة كبيرة بمختلف حقول المعرفة من ادب وتاريخ وفلسفة ، في هذا الجو العائلي وجدت نازك نفسها راغبة في عزلة مع الكتب ودواوين الشعر والغناء ، وعندما بلغت الخامسة عشرة من عمرها أصبحت تعشق الوحدة وتعدها جزء من أدوات الشاعر: ” نبذت المجتمع وانطويت على نفسي “ ، لكن الشاعرة التي ظلت تردد “ رف حولي الليل والصمت الكئيب “ ستنطلق من حياة العزلة لتحيط بالوضع الانساني. لا بقصائد الحزن فقط ، وانما باشعار تتوهج عاطفة ، حيث اتخذت لنفسها شعارا من قول نيتشه “ ما قيمة فضيلتي إن كانت لم تستطع ان تجعل مني انسانا عاطفيا “..لكنها تكتب عن عاطفة لم تُسعد بها ، وباتت امرأة موهوبة لكنها ممسوسة بالفراغ والانتظار:

ولو جئت يوما

لجف عبير الفراغ الملون في ذاكرتي

وقص جناح النخيل ، واكتأبت اغنياتي

وامسكت في راحتي حطام رجائي البريء

وادركت ان حبك حلما

ما دمت قد جئت لحما وعظما

ساحلم بالزائر المستحيل الذي لم يجئ.

عرفتُ قصائد نازك الملائكة منذ ان تفتح وعيي على القراءة ، وكان لديوانها “عاشقة الليل “ فعل السحر ، حيث كنت أحفظ قصائد كاملة أرددها مع نفسي او أتباهى بها امام زملائي في المدرسة ، وفي درس الانشاء كتبت موضوعا بعنوان “ الغروب “ إستوحيته من قصيدة لها بنفس العنوان ، لم يعجب مدرس العربية الذي كان يسخر من السياب والبياتي ، وعلى مدى سنوات عملي في مهنة بيع الكتب ، ومشاهدتي لاسماء لامعة في الادب والفن كانوا يترددون على المكتبة ، لم يخطر في بالي يوما ان اشاهد نازك الملائكة تدخل الى المكتبة تبحث عن كتاب بين الرفوف ، فقد كنت احمل لها صورة المرأة الحالمة المنشغلة عن العالم بقصائدها وتاملاتها.. كانت بالنسبة لي حلما عراقيا ، باهرا ، تَكّون من المعاناة ، ورأى النور في لحظة انبعاث ثقافي لن يتكرر ، ليعرف هذا الحلم بعد ذلك باسم “ نازك الملائكة “.. واستمر هوسي بكتابات نازك الملائكة ، اسمع البعض يسخر من تعلقي بشاعرة “ هرب الشعر منها “ ، لكنني كنت ارى فيها حالة خاصة جدا في الوفاء للشعر ، وينطوي هذا الوفاء على نوع من التأمل عن معنى الشعر.

في تلك الفترة كنت قد عثرت على عدد قديم من مجلة العالم صدر في بداية الخمسينيات ان لم تخني الذاكرة ، ولم يكن شرائي لهذه المجلة من قبيل هواية جمع المطبوعات القديمة ، وانما من قبيل الفضول بعد أن وجدت على الغلاف صورة لفتاة جميلة مرفق معها هذا العنوان “ اول حوار مع شاعرة عراقية تمنت ان تغني مع محمد عبد الوهاب “ ، ولان المجلة كانت تهتم بالصور ، فقد نشرت عددا من الصور للشابة نازك الملائكة واحدة منها تقف امام باب بيتهم ، كنت اتطلع الى وجه الشاعرة وهو وجه لا يخضع لمقاييس الجمال التقليدية او غير التقليدية.. وانما كنت اراه مقياسا لجمال هادئ ومألوف.. واتذكر انني قرأت عبارة في رواية عباس محمود العقاد “ سارة “ يصف البطلة بان لها “ جمال مهيب “ ، كانت صاحبة الجمال المهيوب نادرا ما تسمح بنشر صورها ، وكانت اشهرها صورتها على غلاف الاعمال الكاملة التي صدرت عن دار العودة.. يبدو الوجه عراقي خالص ، شديد الحميمية ، فيه من الخصوصية بقدر ما فيه من العمومية.. ولدقة خصوصيته تشعر بانك لم تره من قبل ، ولفرط عموميته تكاد توقن انها احد اقاربك او شقيقة لك.. السر في هذه الازدواجية انه وجه كلاسيكي الملامح ، هاديء.. كانت عيناها ساكنتان متخمتان بالأسرار والمعاني.. ستبقى صورة نازك الملائكة الفتاة الأنيقة في ذهني وانا اتابع أخبارها ، رغم انها كانت نادرة الظهور ، فمرة سمعت انها استاذة في جامعة البصرة ، بعدها قرأت عن انتقالها للعمل في الكويت ، ومرة اشتريت من شارع المتنبي كتاب يضم وقائع مؤتمر الادباء العرب الثاني الذي انعقد في دمشق عام 1956 واثناء تقليبي للصفحات وجدت اسماء الوفد العراق وكان يتالف من ثلاثة ادباء فقط العلامة محمد بهجت الاثري وقد وضع امام اسمه هذا التعريف “ مفتش اختصاص للغة العربية بوزارة المعارف – بغداد الصرافية ، وبدر شاكر السياب مع هذا التعريف “ ملاحظ في مديرية التجارة العامة – بغداد “ والاسم الثالث نازك الملائكة مكتوب الى جواره “ مدرسة وزارة المعارف -4/22 ابو قلام الكرادة بغداد “.. ووسط الكتاب صور لبعض المحاضرات ،سالمح من بين الحضور شاعرتي المفضلة وهي تجلس في الصف الثالث بعد ميخائيل نعيمة ويوسف السباعي وكانت الى جانبها الاديبة البنانية وداد السكاكيني.

بعد سنوات وذات يوم من عام 1986 كنت اجلس في غرفتي بدائرة السينما والمسرح عندما دخل عليّ الشاعر المنسي والمثقف الكبير حسين الحسيني يحمل حقيبته “ السامسونايت “ ، ليخبرني انه ذاهب الى فندق المنصور ميليا للقاء بعض الادباء المشاركين في مؤتمر الادباء العرب الذي انعقد في بغداد آنذاك ، وكعادته اطلق الحسيني عدد من قفشاته ترافقها يعض الشتائم وهويتناول كتاب تركه له يوسف العاني ، قلت له سأتي معك ، نظر الي من وراء عدسة نظارته السوداء وهو يتمتم بكلام لم اسمعه جيدا ، وبالتاكيد كانت هناك شتيمة. دخلنا فندق المنصور ، الصخب يملأ المكان ، تلفت الحسيني يمينا ويسارا ، بينما انا تسمرت انظر الى سيدة تجلس بين ثلاثة رجال تبدو منهمكة بالحديث ، قلت مع نفسي انها نازك الملائكة ، لكن ملامحها تغيرت كثيرا ، يبدو ان الزمن فعل فعلته معها ، كنت انظر اليها واستحضر الصورة القديمة المنشورة في مجلة العالم ، محاولا ان اقول لنفسي انها ليست نازك ، اقتربت اكثر دون ان أجرؤ على اقتحام مجلسها ، كانت العينان الحائرتان تؤكد انها نازك الملائكة ، انهما نفس العينين الحزينتين اللتين لا تزالان ترقبان الليل ، لكن الزمن ترك آثاره على “ عاشقة الليل “. التي كانت وستظل أحد اكبر الظواهر الادبية في العراق ، شاعرة اخلصت للشعر ، لكنها مع الاسف لم تاخذ أي شيء مما تستحقه وتعرضت للنسيان. تذكرتُ مناجاتها للشاعر كيتس المنشورة في ديوانها عاشقة الليل:

وتمضي الليالي إلى قبرها

وتمشي الحياة مع الموكب

أسير أنا في شعاب الوجود

افتش عن حلمي المتعب

تخادعني كل قمرية

وتعبث كل الاغادير بي.

لم يسهم احد مثلما فعلت نازك الملائكة في فرض التجريب الشعري الذي عرف بالشعر الحر على خارطة الادب العربي. فقد كانت اول من كتب ونظر له ، فارتبط باسمها لانها ابدعت ودافعت عنه ونقدته وصاغت مصطلحاته. كانت حجر الاساس في تشكيل ظاهرة ادبية. سيقول البعض ان نازك لم تظهر بغير سوابق وإرهاصات في التجديد الشعري العربي وجدت قبلها سواء في مصر او لبنان او العراق ، لكن يبقى لها شرف الريادة ببلورتها لنظرية شعرية حديثة وايضا ثورة اجتماعية لم يكن بامكان إمراة غيرها ان تكتب في منتصف الابعينيات قصيدة تندد فيها بازدواجية المعايير بالنسبة للمرأة في مجتماعاتنا ، فكانت قصيدتها “ غسلا للعار “ نص من نصوص المقاومة في سبيل تحرير المجتمع كاملا:

ياجارات الحارة.. يافتيات القرية

الخبز سنعجنه بدموع مآقينا

سنقص جدائلنا وسنسلخ ايدينا

لتظل ثيابهم بيض اللون نقية

لا بسمة ، لا فرحة ، لا لفتة. فالمدينة

ترقبنا في قبضة والدنا واخينا

وغدا من يدري أي قفار

ستوارينا غسلا للعار

عاشت نازك الملائكة حياتها مثل دون كيشوت تحارب طواحين الجهل والموت ، لكنها في النهاية مثل بطل سيرفانتس استسلمت بعد أن وجدت نفسها وحيدة ، يحيط بها صمت دائم.. المرأة التي فتحت أبواب الحداثة الشعرية في “ شظايا ورماد “ ، أمضت سنواتها الاخيرة منزوية، توغل في الصمت ، وسيتأمر عليها العمر والمرض لتسقط في العشرين من حزيران عام 2007 بعيدة عن بغداد التي احبتها وتمنت ان تستند في ايامها الاخيرة على اسوارها. يغادر الجسد الذي تقلب في دروب الثقافة والسياسة والغربة ، غير أنه ظل مخلصا للشعر ، ومثلها مثل بطل سيرفانتيس ، كانت فضائلها تعادل شجاعتها.