- القامعون- لسميرة المانع، رسالة تحذير من الإنهيار

Wednesday 1st of March 2023 11:45:17 PM ,
5381 (عراقيون)
عراقيون ,

بلقيس حميد حسن

بشّر القاتلَ بالقتل...

كم سمعت هذه العبارة " الحكمة "من أمي منذ كنت طفلة، وكم كانت هذه العبارة أساسا بـُنيتْ عليه عشرات القصص الشعبية والحكايا التي سمعتها منذ الصغر، فلكل قصة هناك عبرة، وكم كانت القصص التي اختصت بهذه الجملة الهامة كثيرة..

قبل فترة قصيرة أهدتني الأديبة سميرة المانع مشكورة روايتها "القامعون"، والسيدة سميرة المانع هي احدى مبدعات العراق المغتربات، اللواتي اعطين ويعطين الكثير بصمت وبلا اضواء أو تجمهر.

هناك حقيقة لا بدّ من تذكرها عند قراءة أي عمل لآمرأة عربية اينما كانت، وهي ان الدموع والسهر والارهاق والتحدي والمعوقات هي المرافق الاكثر حضوراً لها في انجاز العمل. من هنا كان اهتمامي بتسليط الضوء على اعمال النساء وفاءً مني لقضية المرأة التي بدون حلها بالعدالة الاجتماعية والمساواة لا يمكن ان نبني اية حضارة انسانية حديثة، ولا يمكن ان يكون أي بناء بدون مساهمة المرأة إلا ناقصا خاليا من الروح بل سيكون حتما مشكوكا بقدرته على الاستمرار والعطاء..

في رواية " القامعون" للمبدعة سميرة المانع والصادرة عن دار المدى عام 1997 في سوريا، تفتح الكاتبة روايتها بتذكيرنا بقسوة مرعبة في التاريخ البشري، مارسها الانسان الذي حصد نتائجها بعد ذلك دمارا وقسوة اكثر وحشية. لقد استشهدت الكاتبة بما نشرته صحيفة نيويورك تايمز في 15 اكتوبر عام 1933 مستعرضة كتاب كفاحي لهتلر قائلة:

(اولئك الذين يريدون ان يحلو لغز الهتلرية، عليهم ان يبحثوا في تاريخ الألمان، فحرب الثلاثين سنة التي انتهت في عام 1684 قللت من سكان المانيا البالغ عددهم 24 مليوناً الى اربعة ملايين. لقد أجاز القانون الزواج من اكثر من واحدة، وبيع لحم الكائن البشري في اسواق هيدلبرك. لم يعش آنذاك، إلا القساة والأقوياء...).

هذه الحقيقة المرعبة التي عاشتها مجاميع البشر في المانيا والتي انتجت قسوة هتلر ورجالات النازية، أكلت اليابس والأخضر في اعوام الحرب العالمية الثانية باوروبا، تذكرنا بغيرها من احداث عربية طبعت التاريخ العربي بمفردات وافعال لازال الكثيرون يرددونها ويؤمنون بانها حلّ لقضايا كثيرة مع الاسف. فالقتل، الوأد، الثأر، حرب البسوس، غسل العار، اسلم تسلم، وغيرها مما تحفل به كتب التاريخ العربي، تركت لنا ارثا نفسيا معقدا لأناس عشقوا التعدي على الغير، وتمادوا في القسوة والظلم، وصار دم الانسان لديهم مباحا. اتذكّر هنا حادثة في تاريخنا ما قبل الاسلام حيث كانت عادة وأد البنات سائدة ويمارسها جميع الناس تقريبا حتى عليّة القوم خوفا على الشرف عندما يكبرن. اتذكر ما اخبرتني به أمي منذ الطفولة كيف ان أباً كان يغطي ابنته بالتراب لتختنق وهي تمد يدها للحيته ماسحة ماعلق بها من حبات تراب، وهو لا يتوقف عن اهالته عليها وقتلها.. فهل هناك قسوة اكبر من هذه؟ وهل ان أحدا من هؤلاء القتلة عوقب على جريمة القتل التي مارسها بحق البشرية جمعاء. لقد كان بعضهم يقتل جميع ما تنجب زوجته من البنات وان كن سبعاً او عشراً، الا ينطبق علينا ما انطبق على المانيا لنعترف بأن القسوة والقتل تراث بقي يسري في دماء الكثيرين من العرب؟

لقد كتبت الكاتبة اكثر احداث روايتها " القامعون "عام 1968 حيث عكست ما به من ظلم واذلال للانسان، عبر نموذجين. فجاسم الرجل وهو الضحية والقاتل غالباً وسعدية المرأة الضحية عبر قرون، يتكررون في كل مكان في العراق وعلى مدى اجيال وازمان سحيقة، كما عكست استبداد السلطات التي توالت على حكم العراق قهرا تلو الآخر، لتكمل احداث روايتها بعام 1996 مشخصة لنا نتائج كلّ ما مّر على المجتمع من عنف واضطهاد للانسان وحروب، ومجازر، وانتهاكات حقوق، مبرهنة صحة رسالتها في ان العنف والظلم يتولدان من بعضهما عبر حيوات الناس، وان ما يزرع من بذور شيطانية ستنبت حتما موتاً وخراباً ليصل العراق الى حالته هذه..

في عام 2003 بعد سقوط نظام صدام نقل لي بعض الاقارب والاصدقاء انهم رأوا بأمّ أعينهم رجلا يجلس في منطقة كراجات علاوي الحلة في بغداد واضعا قطعة كتب عليها:

(قاتل مأجور, الرأس 250 الف دينار عراقي)

الا تشبه هذه الحالة مااستهلت به الكاتبة سميرة المانع روايتها عما حصل في المانيا؟

دعونا نناقش ما أرادته الكاتبة من وجهة نظر علم الاجرام الذي يؤكد هو الآخر بان من يقوم بارتكاب جناية القتل عمدا ويكررها يصبح مجرما معتادا ويشكل خطرا على المجتمع, من هنا صارت قوانين العقوبات تشدد على هكذا نوع من الجناة لخطورتهم القصوى، فمعتاد القتل يصبح مثل مصاص الدماء يستسيغ الدم البشري، ويقتل بدم بارد، لكننا نرى ان القتل للبشر اثناء الحروب- مثلا- يُشجع عليه الشباب في جبهات الحروب باعتبار المقتول عدوا، او تكون العقوبة غير رادعة ولا مخيفة في مجتمع يقدس قتل المرأة تحت ذريعة الشرف المهدور، كما جاء على لسان عبود شقيق سعدية حين خاطبها قائلا:

"أتستحقين السنتين؟!

كان يحسب ما سيناله من عقاب لدى الحكومة بعد قتلها. ومن المعلوم ان عقاب سنتي حبس له، هي غاية ماسيحصل حسب القوانين العراقية، مادام القتل غسلا للعار"

لكن عبود استكثر العقوبة مقابل قتل اخته، فأجبرها على حرق نفسها مع كل أثاث البيت بعد ان أخرج زوجته وابنتهما من الدار، ليسجل تحقيق الشرطة القتل قضاء وقدرا فقط..

اذن قتل المرأة او البنت ظل دائرا في مجتمعاتنا منذ الجاهلية حتى الان، لأن المجتمعات العربية لم تتوقف فعليا عن وأد النساء الذي حرّمه الإسلام، انما هي تمارسه باسلوبه القديم والحديث حيث حولته الى وأد من نوع آخر, فالوأد صار ابعادها عن المجتمع وعزلها في البيت محرومة من ابسط الحاجات الانسانية الطبيعية مثل بقية المخلوقات. والوأد هو تغطيتها بالسواد تماما لترى نور الدنيا مشوبا بظلمة الحجاب. والوأد هو عدم تعليم الفتيات وعدم السماح لهن بممارسة الهوايات الشخصية كما يمارسها الرجال. والوأد ان تتزوج رجلا لا تعرفه، او لا تريده. والوأد ان تجبر البنت في حياتها على كل ما لا ترضيه، ارضاء للمجتمع او العائلة او التقليد او القبيلة او لأي اعتبار آخر يتعارض مع حاجاتها البشرية. الوأد ان تزغرد الأم وتهلل حينما يقتل ابنها بحرب مهما كانت دوافعها، فمسخ عواطف الأمومة لصالح دوافع السيطرة الذكورية وسواها وأد. وجعل النساء باردات في الجنس وختانهن خوفا على الشرف وأد. وعدم السماح للبنت بالسفر للتزود من تجارب الحياة ومعرفة العالم وأد. كل مايفعله المجتمع العربي بالنساء هو وأد في وأد، والمتتبع لضحايا غسل العار في العالم العربي اليوم، واحوال المرأة ومعاناتها يستطيع ان يكتشف هذه الحقيقة وبسهولة..

لقد اكدت احداث الحياة ما أرادت الكاتبة سميرة المانع أن توصله للناس في " القامعون " من ان القتل يولّد قتلا، والحرمان يولد قسوة، والقسوة تولد امراضا نفسية، والامراض تولد دمارا لا لـ "سعدية" وامثالها فقط، انما سيكون الدمار شاملا. فالذكور يتوارثون العنف والمرض جيلا بعد جيل. الكل في داخله صورة دونية للمرأة والكل يستسهل قتلها، والدائرة تدور على كل الأصعدة لنتفاجأ بوجود قتلة بين ظهرانينا، يقتلون الرجال والنساء وحتى الاطفال، يزدادون كل يوم، ناشرين القنابل والمفخخات والتناحر والصراعات العدوانية تحت مسميات السياسة او الاختلاف الطائفي، او الدين او الاقتصاد او حتى التنافس مهما كانت مجالاته ليصبح حقدا وغيرة عمياء تصل حد التصفيات الجسدية، عندها ننوء بعبء ثقيل من الاحباط واليأس والخراب ونتساءل لماذا نتخلف نحن وتتطور سوانا من الأمم؟..