بعد 100 عام على غيابها...مجلة نور الفيحاء الدمشقية في جامعة هارفارد

Wednesday 1st of March 2023 12:32:44 AM ,
5380 (منارات)
منارات ,

لا نعرف كيف حصلت جامعة هارفارد الأمريكية العريقة على أعداد نادرة جداً من مجلّة "نور الفيحاء"، تلك المطبوعة النسائية الشهرية التي كانت تصدر في دمشق سنة 1920.

المجلّة مفقودة، وليس لها أعداد تُباع في سوق الكتب القديمة بدمشق، وهي غير متوفرة في كبرى جامعات الشرق الأوسط. لهذه الأسباب، يأتي المؤرخون على ذكرها عادة بشكل مقتضب وعابر، عند الحديث عن منجزات الرائدة السورية نازك العابد (1887-1959)، مؤسِّسة مجلّة "نور الفيحاء».

كانت نازك العابد سليلة أسرة دمشقية عريقة من حيّ الميدان، وكان والدها، مصطفى باشا العابد، متصرفاً على الموصل في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، أمّا عمها أحمد عزت باشا العابد، فهو أشهر السياسيين العرب في العهد الحميدي، والذي كان كبير أمناء السلطان عبد الحميد، وصاحب عدة مشاريع ريادية في سورية، مثل الخط الحديدي الحجازي، وله يعود الفضل في إدخال الكهرباء على مدينة دمشق سنة 1907.

ولدت نازك العابد بدمشق سنة 1887، حيث درست اللغتين الألمانية والفرنسية على يد مدرسين خصوصيين، قبل أن تلتحق بمدرسة خاصة في حيّ سوق ساروجا، كانت تملكها وتديرها سيدة أمريكية تُدعى ميس أثينبيرغ.

أسست نازك جمعية "نور الفيحاء" في زمن الحرب العالمية الأولى، وكان الهدف منها تمكين المرأة السورية اقتصادياً في ظلّ غياب عدد كبير من الرجال خلف خطوط النار العثمانية، وبعد انتهاء الحرب سنة 1918، أرفقتها بمجلّة شهرية كانت تحمل نفس الاسم. كما أسست مدرسة لبنات الشهداء في طريق الصالحية، قُدمت أرضها مجاناً من قبل الملك فيصل الأول، الذي تولّى عرش سورية سنة 1920، وخصص لها معونة شهرية مقدارها 75 دينار. وللعابد الفضل أيضاً في إنشاء جمعية "النجمة الحمراء"، التي سبقت منظمة الهلال الأحمر في سورية، وكانت معنية بجرحى الحرب ومرتبطة بمنظمة الصليب الأحمر الدولية في جينيف.

في أرشيف جامعة هارفارد نجد ثلاثة أعداد من "نور الفيحاء" (أيار – تموز 1920)، وفيها الكثير الكثير عن فكر نازك العابد المتنور والسابق لعصرها وزمانها. غلاف المجلّة يُشير إلى أنها مطبوعة "نسائية، أخلاقية، أدبية"، اتخذت من مدرسة بنات الشهداء مقراً إدارياً لعملها. ولكون عدد شهر أيار 1920 هو خامس أعداد المجلّة، فذلك يعني أن عددها الأول صدر في كانون الثاني 1920، أي قبل شهرين فقط من تتويج فيصل ملكاً على سورية في 8 آذار 1920. وتشير المجلّة إلى أن قيمة الاشتراك بأعدادها هي 50 قرشاً مصرياً داخل سورية و60 قرشاً في الخارج (وكان الجنيه المصري متداول في سورية بعد سقوط الحكم العثماني وقبل سك العملة الوطنية، ومنها جاءت عبارة "مصاري" الدارجة حتى اليوم في المجتمع السوري).

وكانت "نور الفيحاء"، بحسب صورة غلافها، تُطبع في مطبعة الترقي بحيّ القيمرية، التي كان يملكها الناشر السوري صالح الحيلاني، ومن المعروف أن الحيلاني كان في تلك الفترة يطبع مجلّة "مجمع اللغة العربية" بدمشق، وجريدة "ألف باء" اليومية التي كان يصدرها الصحفي الفلسطيني يوسف العيسى. وقد حصلت مجلّة "نور الفيحاء" على معونات مادية من بعض الوجهاء السوريين المؤمنين بقضية المرأة، مثل مصطفى باشا العابد والقاضي راشد مردم بك (والد زوجة الرئيس خالد العظم الأولى).

أما عن محتوى المجلة (وكانت لا تقل عن 50 صفحة شهرياً) فكان متنوعاً ما بين الدراسات الأدبية والتاريخية والأخبار النسائية، مع قليل من الطرائف والفكاهات. في بداية كل عدد نجد باب بعنوان «شهيدات النساء»، فيه سير نساء رائدات قضوا حياتهن في الدفاع عن موقف أو فكرة (ولم يكونوا شهيدات بالضرورة)، مثل زوجات الرسول خديجة وحفصة وأم حبيبة (رملة بنت أبي سفيان)، وابنته فاطمة الزهراء وسكينة بنت الحسين، حفيدة علي بن أبي طالب. ومن الملفت وجود دراسة عن حياة نور جهان، الشاعرة والأميرة في دولة المغول الهندية وزوجة الإمبراطور جهانكيز. يتضح للقارئ المعاصر أن جهداً كبيراً قد بذل في جمع وتحقيق تلك السير، تحديداً غير العربية منها وغير المسلمة.

أسست نازك جمعية "نور الفيحاء" في زمن الحرب العالمية الأولى، وكان الهدف منها تمكين المرأة السورية اقتصادياً في ظلّ غياب عدد كبير من الرجال خلف خطوط النار العثمانية.

وبعدها يظهر مقال حماسي عن المرأة، كانت تكتبه نازك العابد بنفسها (وهي التي تدربت على الكتابة في مجلة "العروس" التي كانت تصدرها ماري عجمي في حمص منذ سنة 1910). إحدى مقالات العابد حملت عنوان: "فتاة الوطن أين أنت"، وفيه تقول: أين أنت يا فتاة الوطن؟ عليك نفتش ولأجل فقدك نبكي وننوح».

ثم تأتي سلسلة من التحقيقات الصحفية، عن حاملة أثقال أمريكية مثلاً، أو مراسلة حربية في أوروبا، وبعدها دراسة تاريخية عن نساء عالميات، مثل رائدة التمريض فلورنس نايتنغيل أو الكاتبة البريطانية جين أوستن. هذا البند كان مخصصاً للنساء غير العربيات وغير المسلمات، وفيه أيضاً يظهر جهد كبير وتوثيق دقيق لتلك الشخصيات التي لم يكن المجتمع الدمشقي مطلعاً عليها.

يلي هذه الأبواب الجدية باب خفيف نسبياً عن "التدبير المنزلي"، وباب آخر عن "تربية الأولاد"، وتختم المجلّة بأخبار عن سيدات دمشق، وتحديداً العاملات منهن في أسرة تحرير مجلّة نور الفيحاء أو في جمعية نور الفيحاء. نرى مثلاً خبر زواج الأنسة نعمة العمري على مرافق الملك فيصل، الضابط الشاب جميل الإلشي (الذي أصبح رئيس وزراء سورية سنة 1943). فقد زارها وفد من طالبات مدرسة بنات الشهداء يوم عرسها وقدموا لها باقة زهور، فردت بتبرع لصالح صندوق الجمعية، قدرة 12 فرنكاً فرنسياً.

ومن ألطف الأخبار، خبر الحفل الذي أقامته الجمعية بمناسبة عيد المولد النبوي في 4 أيار 1919، حضره الأمير زيد بن الحسين، نيابة عن شقيقه الأمير فيصل، وكان في استقباله مجموعة من طالبات مدرسة بنات الشهداء، على جيد كل واحدة منها حرف من أحرف اسم "حسين" (نسبة لاسم والده الشريف حسين بن علي)، مصنوعة من زهر القرنفل، وخلفهن وقفت مجموعة ثانية من الطالبات يلبسن أحرف اسم "فيصل" على صدورهن. وكلّما تقدمت واحد منهن خاطبت الأمير زيد شعراً:

فرض عليناً أولاً... أن نحمي فيصلاً

يا رب نوله الذي... يسعى له مولانا

صنه إلى استقلالنا... فغيره لن نقبلا

لا زال فيصل ظافراً... ونال ما قد أمل

وقد خطبت ماري عجمي في ذكرى المولد النبوي (على الرغم من كونها مسيحية) وتلتها على المنبر كل من رئيس الجمعية نازك العابد، ونائبة الرئيس فطمة مردم بك. جميع هؤلاء النساء كانوا من أشد الداعمين للملك فيصل، وقد رفعوا له المعروضات مطالبين بإعطاء المرأة السورية حقها بالانتخاب والترشح إلى عضوية مجلس النواب (المعروف يومها بالمؤتمر السوري العام).

وقد أثار هذه الموضوع عند عرضه على السلطة التشريعية زوبعة من الانتقاد من قبل المشرّعين المحافظين ومن رجال الدين، وقرر المجلس تأجيل البتّ فيه إلى تاريخ يتم تحديده لاحقاً. ولكن هذا الأمر لم يحدث بسبب سقوط الحكم الفيصلي وخلع الملك فيصل عن عرش الشّام في 24 تموز 1920، إبان معركة ميسلون الشهيرة التي فرض إثرها نظام الانتداب الفرنسي على سو

نهاية المجلة

والمعروف جيداً أن نازك العابد خرجت إلى تلك المعركة مع وزير الحربية يوسف العظمة، بصفتها المسؤولة عن جمعية "النجمة الحمراء"، المعنية بجرحى الحرب. جالت شوارع العاصمة مع الجنود السوريين وفي يدها البندقية، رافعة المنديل عن وجهها، وهي ترتدي بذّة عسكرية.وقد شبهها الناس يومها بخولة بنت الأزور،وكان آخر قرار للملك فيصل قبل مغادرته دمشق إطلاق لقب "جنرال فخري" عليها، بالرغم من معارضة الكثير من رجال الدين، الذين قالوا إنها عرضت مفاتنها على الناس، وكان أنفع لها أن تبقى في دارها ولا تتدخل في شؤون حربية ليست من اختصاص النساء. بررت خروجها من المنزل يومها وقالت إنها حصلت على موافقة من أبيها، وأضافت أنها اتخذت قدوة من زوجات النبي اللواتي شاركنه في نشر رسالة الإسلام وفي معارك المسلمين الأوائل.

وفي مذكرات رئيس وزراء سورية الأسبق حسن الحكيم، يرد حديث دار بين نازك العابد والدبلوماسي الأمريكي شارل كراين، عند زيارته دمشق في نيسان 1922. تقول له العابد إن سلطة الانتداب الفرنسي قامت بإغلاق مدرسة بنات الشهداء، لأن مديرتها، صبحية التنيّر، رفضت أن تعمل مخبرة لصالح المخابرات الفرنسية، وبذلك، من الممكن جداً أن تكون مجلّة "نور الفيحاء" قد أغلقت يومها، لكونها موجودة داخل حرم المدرسة.

عن موقع رصيف الالكتروني