محسن مهدي.. تحقيق نسخة مجهولة من الف ليلة وليلة

Thursday 23rd of February 2023 12:46:43 AM ,
5376 (عراقيون)
عراقيون ,

د. حسين الهنداوي

عالم الفلسفة الكبير محسن مهدي (1926-2007) غادرنا قبل نحو خمسة عشر عاما سنوات وسط أسف مشهود في الاوساط الفلسفية العربية والعالمية اعترافا بالمكانة المتميزة لهذا المفكر المنهجي الذي سعى الى احياء واعلاء مفهوم "العلم المدني" في الفلسفة الاسلامية من خلال الكشف عن أهمية وعمق تياراته لدى عبد الرحمن ابن خلدون الذي خصص له في 1954

اطروحته لنيل الدكتوراه "فلسفة التاريخ عند ابن خلدون – دراسة في الأساس الفلسفي لعلم الثقافة"، والتي نشرت بالانجليزية في لندن عام 1957، واعيد طبعها عدة مرات كما ترجمت إلى الفارسية رغم انها لم تظهر بالعربية بعد، ثم لدى أهم فيلسوف مسلم كتب في علم السياسة لحد الآن والفيلسوف المدني بامتياز "المعلم الثاني" ابي نصر الفارابي الذي خصص له، ولاثره لدى عدد آخر من الفلاسفة والمتكلمين والمؤرخين والفقهاء، سلسلة من الدراسات العلمية اهمها كتابه "الفارابي: وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية" الذي ظهر بالفرنسية والانجليزية في عام 2000 ثم بالعربية بعد عام. المفهوم المهم الآخر الذي سعى محسن مهدي الى احيائه واعلائه وبنفس القوة هو ذلك المفهوم الخاص الذي اسسه الفارابي ويدل عليه تعريفه للفلسفة باعتبارها "علما بحتا" يقوم على منهجية مماثلة لمنهجية علم الرياضيات التي تعتمد على "طرق البراهين اليقينية". ومن هنا سعيه الى الإسهام بشكل فاعل في احداث تقدم نوعي في نمط المناهج الاستشراقية السائدة من قبل في الجامعات الامريكية والاوربية بشأن دراسة الفلسفات والآداب الشرقية والاسلامية خاصة والاستفادة منها في ذات الوقت. فقد دأب على تحقيق عدد مهم من نصوص الفارابي المجهولة احيانا، ونشر العديد منها مع مقدمات دراسية عميقة وموسعة، كما تعمق بدراسة الفلسفة السياسية لغير الفارابي بدءاً بنصوص سقراط وإفلاطون وأرسطو وكذلك الفلسفات الإفلاطونية الوسيطة المسيحية واليهودية فضلا عن الفلسفة الكلامية الاسلامية ومؤلفات ابن رشد وابن سينا وأبي بكر الرازي وابن خلدون ومن المعاصرين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة ورشيد رضا ومحمّد إقبال وطه حسين.

وقد انجز دراسات بالغة الأهمية عن عدد من اهم النصوص الفلسفية العربية، نشر بعضها بالتعاون مع رالف ليرنر من جامعة شيكاغو وفيما بعد ذلك مع إيرنست فورتن من كلية بوسطن، كما نشر الكتاب المعروف "الفلسفة السياسية الوسيطة"، والمتضمن لمجموعة من النصوص المختارة والمترجمة من اللغات العربية والعبرية واللاتينية إلى اللغة الإنجليزية.

وتوّج الاستاذ محسن مهدي مسيرته العلمية بتحقيقه لنسخة مجهولة من كتاب "ألف ليلة وليلة"، أثبت فيه أنه كان لا يضم سوى 282 ليلة، وأن مستشرقي القرنين 18 و19 هم الذين غيروا ومدّدوا العدد لكي يصل إلى "ألف ليلة وليلة".

منذ أوائل النصف الثاني من القرن الماضي، وبموازاة اهتمامه بالفارابي، بدأ محسن مهدي سلسلة دراسات جادة في تحقيق (ألف ليلة وليلة) التي عاش مع مخطوطاتها المتناثرة في مكتبات العالم مايقرب من عشرين سنة بشكل حوله عن مؤلفات الفارابي عمليا برغم أنه لم يكن تحولا بنظره، بل تزامن العملان ضمن إهتمامه بالفكر السياسي في التراث الاسلامي نظرا الى ان (ألف ليلة وليلة) كوثيقة، وسواه من النصوص الادبية الكبرى، تبين لنا آراء عامة الناس في السلطة والسلطان والمجتمع.

وهكذا، فبعد مائة وخمسين عاما من تداول كتاب (ألف ليلة وليلة)، في مختلف أنحاء العالم، قام محسن مهدي بانجاز أول تحقيق علمي له في 1985، انطلاقا من نسخة قديمة ونادرة مجهولة لها أصدرها (عن منشورات – بريل – الهولنديّة المعروفة بسلسلة كتبها المخصّصة للدراسات العربيّة والإسلاميّة)، مسبوقة بدراسة شاملة وعميقة ومنهجية مثبتا أنّ هناك 282 ليلة فقط مبيّنا أن مستشرقي القرنين 18 و19 هم الذين غيروا ومدّدوا العدد لكي يصل إلى تسميته "ألف ليلة وليلة" ومستنتجا ان هذه التسمية لا تعبر بالتالي الا عن طابع التواصل الدائم كما وتنوعاً وحسب، وأنّ العدد «ألف وليلة وليلة» يمكن تحميله بدلالة مجازيّة تفيد الكثرة الاستثنائية وليس من الضروريّ التقيّد بدلالته الحرفيّة. كما اعتبر ان ميزة هذه النّسخة تتمثّل في كونها محرَّرة بعربيّة عاميّة تجتمع فيها لهجات عديدة، وفي كونها سلمتْ من كلّ رقابة أو تنقيح أو تفصيح قسريّ لاحق

وقفة عند كتاب "الواحد والوحدة" او حين تصبح الفلسفة علما بحتا

بتحقيق ونشر "كتاب الواحد والوحدة" الصادر عن دار توبقال المغربية، يطرح محسن مهدي من جديد اهمية خاصة للاحاطة بفلسفة "المعلم الثاني"، تتضمن بذاتها دعوة الى دراسة واستقراء جديدين اكثر شمولية ودقة لهذا النص ولكتابات الفارابي الاخرى.

نص الفاربي هذا، كما يلاحظ مهدي في مقدمته التوضيحية السريعة، هو في الاصل جزء لا يتجزأ من "كتاب الحروف"، وهو مؤلف لم ينل الشهرة والاهتمام اللذين حظيت بهما مؤلفات للفيلسوف الكبير كـ "احصاء العلوم" و"المدينة الفاضلة" و"كتاب الموسيقى الكبير" وغيرها. ولعل الاغراق في التجريد على صعيدي الاسلوب والنهج، كما نزع اليه الفارابي عند وضعه هذا الكتاب، هو العامل الاساسي الذي يقف وراء ذلك.

والعلاقة بين "كتاب الحروف" و"الواحد والوحدة" يردها المحقق الى وحدة الاسلوب والموضوع العام، حيث تجدر الاشارة الى انه كان قد قام، في عام 1970،

بتحقيق ونشر "كتاب الحروف" لاول مرة ايضا. واذا كان مهدي لم يستطع ضم "كتاب الواحد والوحدة" ضمن عمله آنذاك رغم معرفته بوجود ثلاث مخطوطات عنه في مكتبة "ايا صوفيا" في اسطنبول واطلاعه عليها منذ 1961، فذلك يعود لاسباب طارئة وخارجة عن ارادته، وفي مقدمتها ان باحثين اخرين هما حازم مشتاق استاذ الفلسفة في جامعة بغداد وحسين أتاي الاستاذ في جامعة انقرة، كانا قد سبقاه في الشروع بتحقيق تلك المخطوطات او بعضها، لكن ظروفهما لم تسمح لهما باكمال المهمة وبلوغ الهدف كاملا. امام ذلك، وبموافقتهما، قام الاستاذ مهدي بانجاز العمل. وقد اشار الى حيثيات هذا الامر في مقدمته للكتاب. مؤكدا ايضا ان النص المنشور اعتمد على عملية تحقيق، تضع كافة النسخ الثلاث موضع الاعتبار.

من جانب اخر، ورغم بقاء مخطوطات المكتبة الاسطنبولية بعيدة عن ايدي الباحثين والمتخصصين، فان مصداقية نسبة "كتاب الواحد والوحدة" الى الفارابي هي مسألة لا يطالها الشك لتوتر ذكره لدى القدماء والمحدثين. فأول من ذكر كتاب الفارابي هو الفيلسوف الاندلسي الكبير ابن باجة في مطلع رسالته عن "اتصال العقل بالانسان"، كما قام بتلخيص بعضه في نصوص منشورة ضمن "رسائل ابن باجة الالهية" كما تناوله ابو الوليد ابن رشد ملخصا اياه ضمن تلخيصه لكتاب الحروف المنشور في "تلخيص ما بعد الطبيعة" وجاء على ذكره ايضا القفطي في "اخبار العلماء" وابن ابي اصيبعة في "عيون الانباء" والصفدي في "الوافي بالوفيات". ومن المحدثين ذكره شتاينشنايدر في كتاب له عن الفاربي صدر في بطرسبورغ عام 1866، كما اشار اليه بروكلمان في الجزء الاول من ملحق "تاريخ الادب العربي" وكذلك عدد اخر من المؤرخين العرب والاتراك يذكرهم المحقق جميعا.

اذن، وقبل الانتقال الى مضمون "كتاب الواحد والوحدة" لابد لنا من الاشارة الى الجهد الكبير الذي بذله محسن مهدي في تحقيقه. بيد اننا بالمقابل لا نستطيع الا ان نعبر عن اسفنا لخلو تحقيقه لـ "كتاب الواحد والوحدة" من دراسة ولو موجزة تسمح بتوسيع دائرة مستقبلي هذا النص الفلسفي المعقد للغاية. فهذا الكتاب رغم شعبية طباعته سيظل ربما، وهذا ما نخشاه دائما، محصورا ضمن عدد ضئيل جدا من المعنيين، والمحقق نفسه يعترف في مقدمته الانكليزية للكتاب بالتعقيد الاستثنائي للنص، وباستحالة فض دواخله دون معرفة عميقة بفلسفة الفارابي وخصوصيتها لاسيما قضايا الوجود والطبيعة. ومهما يكن الامر، ينبغي الالتفات منذ البداية الى ان "كتاب الحروف" و"الواحد والوحدة"، هما من النصوص التي سعى الفارابي الى ان يطبق فيها بشكل نموذجي تعريفه الخاص للفلسفة باعتبارها "علما بحتا" يقوم على منهجية مماثلة لمنهجية علم الرياضيات التي تعتمد على "طرق البراهين اليقينية". اما محور النص فهو ما نستطيع تسميته بجدلية الواحد والكثرة الذي يواصل فيه الفارابي، من وجهة نظره الفلسفية الخاصة، المساهمات السابقة في الفلسفة العبربية الاسلامية (الكندي خصوصا) وفي الفلسفة اليونانية.

يمكننا باختصار شديد تقسيم النص الى ثلاثة اجزاء تتوالى على النحو التالي: عرض تفصيلي مركز لمختلف الاحوال التي يقال فيها على الكثرة (شيئان او اكثر) بانها واحد، ثم عرض مماثل لمختلف الاحوال التي يقال فيها عن الكثرة بانها كثرة، واخيرا يخلص الفارابي الى الاستنتاج الفلسفي الخاص حول ماهية التماثل والتضاد بين الواحد والكثرة من وجهة نظر الفلسفة الفارابية. ويشخص الفارابي ثلاثة محاور رئيسية بالنسبة لفكرتنا عن الوحدة وعن الكثرة، وهي الجنس والنوع والعدد.

وبالتالي فان التماثل واللاتماثل ينحصران في الجانبين الاساسيين في الشيء، اي هيوليته وصورته، او بلغة المنطق، موضوعه ومحموله. ونجد هذا الاستنتاج في قول الفارابي "وبالجملة، فان كل اثنين انما يقال فيهما، وهما اثنان، انهما واحد، اما اذا كان محمولهما واحدا بالعدد واما اذا كان موضوعهما واحدا بالعدد" وبعد ان يبين ماهية الجنس (انسانية،حيوانية..) والنوع (حالة مدلولية، غائية…) نجد ان الفارابي يميل ضمنا الى فرضية ان تكون الاشياء كلها وحدة فقط بلا كثرة. وان الوجود الظاهري الذي توحي به هذه الاخيرة، ليس وهميا. الا انه وجود داخلي فقط، اي ان الكثرة توجد ضمن الواحد وضمن الوحدة.

يعكس هذا المنظور تأثر الفارابي بمفهوم النفس عند افلوطين في "التاسوعات" القائل بان النفس واحدة الا انها تتضمن الكثرة، والقول بان الواحد يتضمن الاختلاف، يبدو لنا مهما جدا لاحتوائه على مفهوم جدلي (ديالكتيكي) جنيني، اكثر وضوحا وعمقا مما في مفاهيم من سبق الفارابي في هذا المجال من المتاثرين بالافلاطونية المحدثة. ويتدعم هذا الراي بنصوص كثيرة اخرى مبعثرة (في "المدينة الفاضلة" خصوصا) تؤكد لنا بان المادة الواحدة مشتركة بين ضدين ضروريين لوجودها، الامر الذي يعني ان الوحدة في الماهية لا تتناقض مع الكثرة في العدد.

انتهى

: كاتب عراقي، له في الفلسفة «هيغل والاسلام» (1987 بالفرنسية)، و«التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل» (بيروت/ دار الساقي 1996)، و«على ضفاف الفلسفة» (بغداد/دار الحكمة 2005) وترجمة «هيغل والهيغلية» عن الفرنسية (بيروت/الكنوز الادبية 2004)، و«محمد مكية والعمران المعاصر» (بيروت، ناشرون 2013) و«فلاسفة التنوير والاسلام» (بيروت/دار المدى 2014)، و«استبداد شرقي ام استبداد في الشرق؟»، و«مقدمة في الفلسفة البابلية»، وغيرها.