ساعة في سدة الهندية سنة 1928

Sunday 5th of February 2023 11:54:22 PM ,
5363 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

عبد الرزاق الحسني

استدعت الحكومة العثمانية في عام ١٩٠٩م المهندس الإنكليزي المعروف بالسير وليم ويلكوكس لإقامة سد محكم عل الفرات بالقرب من قصبة المسيب ليمنع المياه الوفيرة من الانحدار نحو الجنوب من دون أن تستفيد منها مزارع الفرات الأوسط فائدة تذكر. ويكون (الناظم) هو الحكم في توزيع المياه على المزارع والمدن القائمة على عدوتيه توزيعا عادلا يدر على المزارع والفلاح أفضل الخيرات والبركات.

وقد اضطرت الحكومة البائدة إلى استدعاء المهندس المشار إليه للقيام بهذا العمل الخطير على أثر انهيار السد الذي أقامه في عرض النهر المذكور المهندس الافرنسي المسيو شندرفر عام ١٨٨٥م، عندما بدأ الفرات يتحول عن مجراه الطبيعي فيتدفق بغزارة في شط الهندية من دون أن يأخذ جدول الحلة منه قسطه الوافر. والذي يطلع على خارطة العراق وأنهاره، ويلم بمواقع فدنه ومزارعه يدرك - بلا ريب - حاجة المزارع الواقعة على نهر الحلة إلى مياه غزيرة دائمة حتى لا يعوزه القحط فيستحوذ على سكانه كما استحوذ عليهم عام ١٨٧٨م. فلهذا السبب مست الحاجة إلى وضع (ناظم) لماء الفرات وأصبح ذلك الشغل

الشاغل لا لأهالي الفرات فحسب بل لساسة العراق وحكومة الأستانة من ورائهم.

زرت سدة الهندية غير مرة فلم اقض فيها وقتا كافيا لدرس طرق توزيع المياه وتعبير السفن وترتيب المناوبة كالوقت الذي صرفته هناك في بحر كانون الأول من سنة ١٩٢٧ فقد بقيت هناك مدة طويلة استطعت فيها أن اقف على ملاحظات دقيقة لا أعتقد أن قراء لغة العرب الزاهرة في غنى عنها.

أقيم سد السر وليم ويلكوكس على أثر انهدام سد المسيو شندرفر الافرنسي فوق أرض تبعد ألف متر عن السد القديم وهو أعظم بناء شيدته يد البشر في بلاد الرافدين حتى ألان. والواقف عليه اليوم يدهش دهشا عند رويته ضخامة ذلك الأثر وهندسته وتبويبه والطرق الفنية المتخذة لرفع الأبواب لتوزيع المياه وتعبير السفن وغير ذلك مما يدهش العقول: طول السد أكثر من ٢٥٠ مترا وعرضه بين الطوارين ٤ أمتار وعدد الأبواب التي فيه ٣٦ وعرض كل منها ٥ أمتار وهذه الأبواب من المعدن وتنزل إنزالا كما ينزل السيف في القراب. واقربتها من الآهين (الحديد المصبوب) وتنزل فيها بواسطة آلات خصوصية تقام على الاطورة (التيغ) من جهة صدر النهر تسمى مرافع (جمع مرفعة) ويكون ارتفاع منبسط الماء الذي يمر خلال هذا السد ٦ أمتار في وقت الفيضان ويدفع ٢٦٠٠ متر مكعب في الثانية وعرض كل عمود من هذا السد متر ونصف وطوله عند قاعدته ١٣ مترا والسد كله مبني بالطابوق وبالملاط (الشمنتو) ولقد صنع له أكثر من ١٢ مليون آجرة واتخذت الأسس من اللياط والملاط ولم يستعمل فيه من الحجارة إلا حجارة هيت وذلك لتقوية بعض المنحدرات منه وعلى الجانب الأيسر من السد درقتان متتاليتان عرض كل منهما ٨ أمتار وطولها ٥٠ مترا لتتمكن السفن من العبور من جانب السد إلى الجانب الآخر منه.وطرق عبور السفن من جانب إلى آخر مدهشة وخطرة لان الماء الذي في جهة السد اليمنى يعلو الماء الذي في الجهة اليسرى بأكثر من خمسة أمتار أحيانا.

ولهذا تراهم يفتحون أبواب الدرقة اليمنى فتمتلئ ماء حتى يوازي سطح النهر في الجهة اليمنى فتدخل السفينة في الدرقة وتنزل أبوابها ثم تفتح أبواب الدرقة اليسرى فتخرج المياه منها وتنخفض حتى تكون موازية لسطح النهر من الجهة اليسرى فتخرج السفينة عندئذ سالمة من كل خطر. ولكنها قد تنقلب أحيانا فتتضرر وذلك في موسم الطغيان عندما تكون المياه غزيرة وقوية لا تقوى أبواب الدرقتين على مقاومتها.

تفتح جميع أبواب السد - وعددها ستة وثلاثون كما أسلفنا - في موسم الطغيان فتجري المياه في مجاريها الطبيعية وتشترك جميع الأنهار في الاستفادة منها. أما في موسم الصيهود (أي وقت نقصان المياه) فتسد الأبواب بأجمعها وتوزع المياه على البلاد والأنهر بطرق المراشنة (المناوبة). وهذه الطريقة وإن ألحقت أنواع الأضرار الحية والمعنوية بسكان الفرات الأوسط، ولا سيما بأهل الحلة والديوانية في أيام الصيف المناوبة إلا إنها تفيد المزارع فوائد جزيلة، فعوضا من أن تكون المياه نصيب المزارع الواقعة على شط الهندية الكبير فقط، تجد جميع مزارع الفرات وبلدانها تستفيد بهذه الطريقة فائدة واحة مقسمة بينها تقسيما عادلا فنيا. ولو أن الحكومة العراقية الرشيدة عملت بجميع التوصيات الفنية التي أوصى بها السير وليم ويلكوكس المهندس الإنكليزي البارع وأقامت السدود عل دجلة في (سامراء) وفي (بلد) وعلى صدر الفرات قبالة مدينة الكوت وعلى (قرمة علي)

لحصلت على موارد زراعية عظيمة ربما عوضت عن جميع النفقات اللازمة لإنشاء هذه السدود في مدة لا تزيد على أربعة أعوام وبذلك تتخلص من الضائقة الاقتصادية التي لا تزال رازحة تحت أثقالها لان البلاد بلاد زراعية وليست فيها موارد اقتصادية شريفة وعظيمة غير زراعتها فإذا لم تستثمر الحكومة هذا المنبت الحيوي فلا فائدة اقتصادية ترجى لهذا المملكة وإذا قال غاندي أن استقلال الهند قائم على المغازل؛ فنحن نقول أن مدنية العراق المقبلة منوطة بالمحاريث والمناجل وكفى بهذا الاعتبار فخرا.

م. لغة العرب: العدد ٥٦ - ١٩٢٨