مدير شرطة لواء بغداد يتحدث عن إنقلاب بكر صدقي 1936

Sunday 22nd of January 2023 09:43:17 PM ,
5353 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

الفريق إبراهيم الراوي

في ايام ادارتي لشرطة لواء بغداد كنت اشعر ان وزارة ياسين الهاشمي تعد بعض سلوك الملك غازي وتصرفاته الشخصية لا تليق بملك. وابتداءا من 14 حزيران 1936 اقدمت الوزارة على اعمال للحد من تصرفات الملك.

فاحدثت مخفرا للشرطة بجوار قصر الملح الذي اتخذه الملك قصرا ثانيا له يقضي فيه اكثر اوقاته. ولم تكتف الوزارة بذلك، فارادت ان تبعد عنه سائق سيارته ابراهيم، الا انها اتبعت طريقة غير مألوفة، فبدلا من ان تتبع الاجراءات القانونية، طلبت من مدير الشرطة العام ان يهيء اشخاصا يتشاجرون معه في احدى الليالي، لاتخاذ ذلك ذريعة توقيفه وابعاده عن الملك. ولما جرت محادثتي بذلك، استنكرته قائلا: انه من العار على الحكومة ان ترتكب مثل هذا التزوير الشائن، ولكن في الامكان القبض على السائق وزجه في السجن حين يكون في حالة سكر. واصررت على مخالفتي لهذه الاعمال وامثالها، وامتناعي عن المشاركة فيها، لا لان ذلك ضد الملك فحسب، بل لانه عمل مخالف للحقيقة والعدالة، ولاعتقادي ان كل حكومة تزور الحقائق، مهما كانت الغاية من ذلك العمل، تمهد لنفسها الزوال، فلما رأى مدير الشرطة العام اصراري على موقفي، تجاوزني، واتفق مع احد المعاونين على غير علم مني، ودبر للسائق ما اسفلت ذكره من الخطة لتوقيفه.

انقلاب بكر صدقي يوم الخميس 29 تشرين الاول 1936

في الساعة الثامنة صباحا، كنت في محطة قطار شمالي بغداد بالقرب من باب المعظم (محطة كركوك) للمشاركة في استقبال وزير حربية الافغان، ورئيس اركان جيشها. وكان في استقبالها. وزير الخارجية ووزير الدفاع، ووكيل رئيس اركان الجيش ومتصرف لواء بغداد، وأمين العاصمة، ومعاون رئيس التشريفات في البلاط، وسرية من الجيش مع الموسيقى.

في الساعة الثامنة والنصف، وصل القطار، وفوقه رف من الطائرات عددها سبع، وصدحت الموسيقى بالسلامين الملكين، الافغاني، والعراقي. وقدمنا وزير الخارجية الى الزائرين. فلما انتهت هذه المراسم، رجعت الى الدائرة، واذا بطائرات ظننتها اول الامر من الطائرات المشاركة في الاستقبال، تلقي من الجو منشورات بتوقيع "قائد القوة الوطنية الاصلاحية" الفريق بكر صدقي، يطلب فيها من الشعب معاضدة الجيش وقادته في طلبهم من الملك غازي اقالة الوزارة القائمة، وتأليف وزارة برئاسة حكمة سليمان. كما قام بعض الضباط بتوزيع هذه المناشير في الاسواق والدوائر الرسمية. اتصلت هاتفيا بوكيل مدير الشرطة العام وبالمتصرف وبوزير الداخلية، فقيل لي: انهم في البلاط. فطلبت من رئيس الكتاب في دائرتي، توجيه كتاب الى الجهات لرسمية يرفق به المنشور، لكي احمله الى المجتمعين في البلاط. وصلت الى البلاط ومعي المنشور، فوجدت رستم حيدر، رئيس الديوان الملكي، مكفهر الوجه، وتحت ابطه حقيبة، فقال: الجماعة (ويعني المجتمعين) رجعوا الى وزارة الداخلية. فرجعت الى الدائرة، واذا بوكيل مدير الشرطة العام يطلب المنشور، ليأخذه الى رئيس الوزراء، لأن اعضاء الحكومة مجتمعون عنده.

حدث ذعر وارتباك في الاسواق، واخبرنا: ان جعفر ابو التمن يعمل على اثارة الناس، وان عبد القادر اسماعيل يحرضهم على الفوضى، فامر وزير الداخلية، بواسطة المتصرف، بالقبض عليهما. فقلت له: ان القبض عليهما سيؤدي الى مزيد من الشغب، وسأتولى الأمر بالتي هي احسن. وتمكنت من استقدام عبد القادر اسماعيل، وطلبت منه ان يكف عن اعمال الشغب وبث الاشاعات، لكي تسير الامور بهدو وبدون حوادث مزعجة، بلدنا في غنى عنها، ولأن القليل من الفوضى او الشغب، سيؤدي الى اعمال النهب والاعتداء، وقد يشمل ذلك الاجانب والقنصليات والسفارات وحين ذاك يقع العراق في مشكلة، وذكرته بما حدث في تركية، الامر الذي ادى الى طلب الاجانب امتيازات خاصة بهم مست باستقلالها. وانهيت كلامي معه بتاكيدي على اني مصمم على استتباب الامن مهما كلف الامر. وكان يقف وراءه جماعة من الاشخاص، يستمعون الى كلامي، منهم مكي الجميل.

في الساعة الحادية عشرة صباحا، سمعنا ازيز الطائرات وانفجار القنابل، اذ القيت واحدة منها على باب مجلس الوزراء، واخرى على باب البريد، وكانت دائرتي بين الموقعين، وكان سبب القصف ان بكر صدقي قد رفع كتبا الىالملك حدد فيه الساعة الحادية عشرة صباحا موعدا نهائيا لاقالة وزارة ياسين الهاشمي، وتعيين وزارة برئاسة حكمة سليمان، والا فان الجيش سيقوم بهذا الواجب، ولما كانت الوزارة لم تستقل حتى تلك الساعة، امر بكر صدقي بالقصب مبرهنا انه يعني ما يقول: وكان عدد الطائرات التي قامت بالقصف اربعا، وقنابلها من عيار 31 (باوند) ومن النوع الذي يستعمله الجيش. اما الخسائر، فكانت: قتيلا واحدا، وثمانية جرحى. وفي هذه الاثناء قطعت خطوط الهاتف بين بغداد ويعقوبا، وسيطر الجيش على سكة القطار التي تصلها ببغداد.

رأيت ان الامور ستسوء اذا لم تعزز دوريات الشرطة، يجعلها دوريات مختلطة من الشرطة ولجيش معا. فذهبت من فوري الى امر الانضباط العسكري العقيد طاهر محمد عارف، وكانت دائرة الانضباط تقع في (الاكمكخانة) في شارع المتنبي بجوار سوق السراي قريبا من مقر دائرتي، وبينت له فكرتي. فايدها، ووضع تحت تصرفي فصيلا من الانضباط العسكري، فوزعته على الدوريات. وبهذه الوسيلة لم تقع حادثة تذكر في بغداد. في نحو الساعة الثانية عشرة ظهرا، رجت في البلد اشاعة مفادها: ان وزارة ياسين الهاشمي قد استقالت، فعهد الملك الى حكمة سليمان تاليف وزارة جديدة. وان الجيش يزحف متقدما من بعقوبا الى العاصمة بقوة تتقدمها اربع دبابات، وثلاثون سيارة مسلحة، وتسعون سيارة تحمل جنودا مدججين بالسلاح، تتبعها الخيالة، والمداع.

في الساعة الثالثة بعد الظهر، تحقق سقوط وزارة الهاشمي، وتاليف وزارة جديدة برئاسة حكمة سليمان. وقام المحامون بمظاهرة سليمة، فامر حكمة سليمان بتفريقها. ثم قامت مظاهرة يقودها معلم اسمه عبد المنعم، وكان يهتف هو وجماعته: فليسقط الخائن الهاشمي. فلما علمت ان المتظاهرين ضايقوا دار ياسين الهاشمي، امرت معاون مدير الشرطة، محيي الدين، ان يفرقهم بالقوة، فتم تفريقهم. وبعد ذلك سارت ف بغداد وسائط نقل تحمل ضباط الطيران، والناس تهتف لهم.

عند المساء، عسكرت قوة بكر صدقي على سد ناظم باشا، مقابل بغداد، وجاء بكر صدقي وضباطه المقربون الى النادي الملكي العسكري.

في الساعة السادسة مساء، جرت حفلة استيزار الوزارة الجديدة.

وهكذا تم بالقوة اسقاط الوزارة التي الفت بقوة العشائر، ولكن بقوة الجيش هذه المرة. وبذلك تحققت العدالة على قاعدة: "الجزاء من جنس العمل". وانتهى يوم حافل بالاحداث.

عن كتاب (مذكرات ابراهيم الراوي)