شهادة حية عن سلام عادل..

Wednesday 18th of January 2023 11:44:08 PM ,
5351 (عراقيون)
عراقيون ,

ثمينة ناجي يوسف*

وزعت منظمة الحزب الشيوعي العراقي في دار المعلمين الابتدائية جريدة الحزب بين الطلاب في عام 1942، وكانت الادارة تتربص بالطلاب بعد ان نشرت جريدة القاعدة مقالا انتقدت فيه الادارة. وكان النقد صحيحا، مما يدل على ان كاتب المقال ملم بامور دار المعلمين، إثر ذلك توجه مدير الداخلية مع عدد من موظفيه الى دولاب”سلام عادل»،

الذي كان في غرفة واحدة مع شاكر الطالقاني الطالب معه في دار المعلمين، ولم يعثروا على شيء في حاجيات سلام عادل ففتشوا حاجيات شاكر الطالقاني فعثروا على اعداد من جريدة القاعدة، اذ كان عضوا في الحزب الشيوعي العراقي وتقرر فصله من المعهد (بعدها اصبح صاحب مكتبة دار الحكمة التي نشرت كتب الحزب) اما سلام عادل فقد فصلوه لما تبقى من السنة الدراسية، ومذ ذلك التاريخ بدأ سلام يفتش عن وسيلة للاتصال بالحزب الشيوعي. تحدث الرفيق عبد علوان (ابو بشرى) عن تلك الفترة قائلاً:

«عرفت سلام عادل طالبا بدار المعلمين الابتدائية في الاعظمية ببغداد اوائل عقد الاربعينات، اذ تخرج منها معلما في عام 1943.

كان جماهيريا، محبوبا بين الطلاب ومن الاساتذة وامتاز بمرحه وشفافيته وسعة صداقاته، فهو يملك طاقات وكفاءات عديدة متميزة، رياضي بارز، احد اعضاء فريق كرة الطائرة المتميزين في دار المعلمين ومنظما للسفرات والمخيمات الكشفية، رساما له اهتمامات فنية، اطلق عليه اقرانه اسم (حسين الرسام) كما كان اديبا يتذوق الشعر ويحفظ الكثير منه معجبا بالشاعر الرضي وحفظ الكثير من شعره حتى لقب بين الطلبة حسين احمد الرضي وظل هذا اللقب معه الى (يوم استشهاده في 24 شباط 1963 كما سمعت».

عندما تخرج سلام عادل وعين مدرسا في الديوانية عام 1944 التقى في تلك المدينة بصديق له (وهو المرحوم محمد حسين فرج الله) وكان عضوا في الحزب، فرشح سلام عادل لعضويته.

يقول الرفيق مهدي عبد الكريم:”وكان سلام عادل يتمتع بمواهب متعددة، فهو رياضي ولاعب كرة سلة ماهر، ومعلم الرياضة والرسم في الثانوية، وكان يطلب للتحكيم في العاب الكرة المختلفة لمعرفته قوانينها وكان يدرب فريق الجيش الكروي في الديوانية، لقد كان شخصية محبوبة بين طلابه والاساتذة والرياضين والعسكريين الذين يتعرف عليهم».

ونتيجة لهذا النشاط رشحته لجنة المدينة الحزبية الى عضويتها (وهو لم يزل مرشحا لعضوية الحزب). وكتبت اللجنة الى قيادة الحزب تستشيرها في هذه القضية، وجاء جواب القيادة طالبا حضور سلام الى بغداد. والتقى في بغداد بالرفيق زكي بسيم مسؤول التنظيم الحزبي، الذي اخذه الى احد بيوت الرفاق في الكرادة الشرقية، وكان جالسا في الحديقة الكبيرة لهذا البيت رجل مهيب في الاربعين من عمره، فقدمه زكي بسيم اليه قائلا لسلام”تكلم مع هذا الرفيق بحرية واجب عن كافة اسئلته بلا تحرج».

فاخذ الرفيق يسأله عن طبيعة عمل الحزب في الديوانية، وانطباع معارفه عن الحزب ومشال سكان المدينة، وامكانيات توسيع العمل العسكري فيها... الخ.

حدس سلام، ان هذا الرفيق لابد ان يكون فهد، وقال منتقدا واظن انني عرفت شخصيتك الحقيقية فانت الرفيق فهد، لهذا فانا استغرب كيف يضيع قائد الحزب وقته ليتحدث مع شخص لازال مرشحا في الحزب!”ابتسم الرفيق فهد وقال له:”اولا ان ظنك ليس في محله فانا لست الرفيق فهد، وثانيا انت اصبحت عضوا في الحزب بصورة استثنائية نظرا لنشاطك وثالثا لماذا لايجوز للرفيق فهد الاتصال بالمرشحين، فالمطلوب منه اكثر من ذلك، الاتصال باكبر عدد من الناس مع مراعاة سرية العمل طبعا، ليعرف من الناس كيفية حل مشاكلهم”. ارتاح سلام من الاسلوب المقنع الهادئ الذي تحدث به هذا الرفيق، واخذ يشرح له مشاكل منظمة الديوانية، وان لجنة الديوانية لا تستثمر كل امكانياتها لتطوير العمل، فاجابه الرفيق فهد”اننا مضطرون لتقديم رفاق بسطاء وسنعثر على الرفاق الافضل، وسيتحسن وضع الحزب ان كبرتم انتم لتشغلوا هذه المراكز القيادية”، ثم جاء الرفيق زكي بسيم، فاستفسر منه الرفيق فهد قائلاً: لقد علمت منك ان الرفيق”مختار”قد اصبح عضوا في الحزب، وهذا هو اسمه الجديد، فما سبب تأخر تبليغه؟ فاعتذر الرفيق زكي بسيم بسبب تأخر وصول بريد الحزب الذي يحمل ورقة العضوية الى الديوانية.

خرج سلام عادل من هذا اللقاء فخورا بالحزب الذي انتمى اليه، وعقد العزم على بذل قصارى جهده لكي يكون مفيدا للحزب. وهكذا عاد الى الديوانية بعزيمة قوية على النضال.

كان اختيار الاسماء الحزبية للاعضاء الجدد يتم انذاك مركزيا، ويختار مسؤول التنظيم المركزي الاسم الحزبي للعضو الجديد، وربما يرجع سبب ذلك الى الرغبة بعدم تكرار الاسماء واعتقد ان سبب ذلك هو لتسهيل معرفة المركز بنشاط الاعضاء.

فوجئ سلام عادل باختيار اسم”مختار”كاسم حزبي له، واذا كان هذا الاسم شائعا في مصر فهو غير شائع في العراق، ربما بسبب وظيفة المختار، وظل هذا الاسم ملازما له وعزيزا عليه جدا حتى عام 1955 عندما اصبح سكرتيرا للحزب، فقد اصبح اسم”مختار”معروفا من رفاقه الذين عملوا معه فاضطر الى تبديله باسم جديد”عمار”وهو ما يتطلبه العمل السري. وقد ظل سلام عادل طوال حياته يعتبر نفسه تلميذا لفهد يتعلم منه وينهل من خبرته التي توارثها عنه الشيوعيون، امينا للتقاليد التي رسخها في الحزب، وقدرته على تطبيق الماركسية الليتينية على ظروف العراق بابداع. وقد تجلت هذه القدرات ابدع مايكون في كتاباته مثل: حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية، وكتابه عن البطالة ومكافحتها، وكتب ايضا: مستلزمات كفاحنا ضد العدو، ووضع النظام الداخلي للحزب وميثاقه الوطني وكثيرا غيرها.

تعلم الرفيق فهد اللينينية باهتمام وتواضع، فلينين مثقف ثوري، وفهد عامل ثلج متفتح الذهن قاده وعيه الثوري وثقافته واحتكاكه بالعمال وادراكه لتناقضات الواقع الى ادراك الحاجة الموضوعية لتأسيس حزب شيوعي في العراق، ومثل ذلك الادراك المبكر كان نادرا بالنسبة لعامل مثله، فقد اسست الاحزاب الشيوعية في اغلب دول العالم من قبل المثقفين الثوريين، ولينين نفسه كان من هذه الفئة، الا ان الرفيق فهد لم يكن من العمال الذين يعيشون في كدح متواصل ويتميزون بتدهور مستواهم المعيشي، فعائلته لم تكن تعاني من الفاقة والضائقة الاقتصادية، واخوه كان مالكاً لمعمل ثلج في مدينة الناصرية، الذي عمل فيه الرفيق فهد. وليس من الصعب على المتتبع لتاريخ الحزب وحياة الرفيق فهد ان يدرك عظمة هذا الابن البار من ابناء الطبقة العاملة العراقية المثقفة، فقد تعلم اللغة الانكليزية وهو طالب في المرحلة المتوسطة من الدراسة. وساعده ذلك على تعرف النظرية الماركسية اللينينية.

قال لي احد الرفاق ان سلام عادل عندما رجع من لندن عام 1956 بدل اسمه الى”هاشم”لكني اتذكر انه عندما كنا معا في البصرة، كان يوقع المقالات التي يكتبها بحرف (م) اي مختار، وربما يكون هذا الاحتمال وارداً فقد سافر الى لندن بعد عمله في البصرة.

عاد سلام عادل من بغداد الى الديوانية بعد لقائه مع الرفيق فهد مليئا بالعزم والحماسة وعمل عضوا في لجنة مدينة الديوانية وانيطت به مسؤوليات اضافية، فعندما بدأ بتدريب الفريق الرياضي للفرقة الاولى، اصبح المسؤول عن التنظيم العسكري لحزبنا فيها. تعرف في اثناء قيادته لذلك التنظيم العسكري في الفرقة الاولى الى الشهيد الضابط كاظم عبد الكريم وهو اخو المرحوم الرفيق مهدي عبد الكريم، وسوف يعيد الاتصال به عام 1954 عندما يتولى مسؤولية لجنة بغداد، لتأسيس منظمة الحزب العسكرية في الفرقة الاولى كما سنتطرق الى ذلك لاحقا، وعدا ذلك كان سلام عادل يقوم ايضا بمهام حزبية اضافية إذ كان يقود ايضا خطاً محليا، وعددا كبيرا من الاتصالات الفردية التي لها اهمية خاصة في بناء التنظيم في بدايته. وهذا النوع من الاتصالات الفردية هو الذي يقوي التنظيم ويوسعه.

وعن فترة عمل ونشاط الرفيق سلام عادل في الديوانية ناخذ مقطعا آخر من حديث الرفيق الراحل مهدي عبد الكريم (ابو كسرى) يقول:

«ربطتني بسلام عادل صداقة شخصية وذكريات جميلة، فهو اول من حبذ الشيوعية وافكارها باسلوب واضح وطريقة جذابة.

كان سلام عادل مدرسا للرياضة والرسم في ثانوية الديوانية التي كنت طالبا فيها، ولم نكن نمارس الرياضة احيانا عند ارتفاع درجة الحرارة وقت الظهيرة. ويستغل استاذنا حسين احمد الرضي ذلك ويروي لنا قصصا جذابة حول ثورة اكتوبر وجابايف وعن شخصيات اسطورية سوفيتية حاربت في اثناء الحرب الاهلية باسلوب اخاذ، حيث يوصل القصة متعمدا الى نقطة حرجة ومثيرة مع انتهاء الحصة، فنبقى متشوقين لاستكمالها فقد كنا شبابا ونحب هذا النوع من الاثارة وعند حلول موعد الحصة الجديدة بعد يومين او ثلاثة نتجمع حوله مرة ثانية ويطالب الجميع استاذهم اكمال قصته».

ويواصل الرفيق مهدي قائلاً:

«تميز سلام عادل بقدرة التاثير على الناشئة وكسب جماهيرية كبيرة بين الطلاب وكان يخطط للوصول الى هذا الهدف. وقد كان شخصية محبوبة تمتلك مواهب عديدة تستهوي الشباب فهو رياضي يلعب كرة السلة بمهارة ويعرف قوانين التحكيم العالمية لذلك يطلب لتحكيم المباريات الكبيرة في كرة السلة والطائرة. وهو مدرب ممتاز لكرة السلة والطائرة، لذلك استدعي الى حامية الديوانية ليدرب فريقها الرياضي. وتمكن من خلال هذا الطريق ان يمد جسور علاقاته السياسية والشخصية مع ضباط الحامية. كان خطاطا ماهرا ورساما جيدا ومخرجا مسرحيا وكاتبا ذا اسلوب مقنع جدا.

عرف سلام عادل بشخصيته المتميزة الجماهيرية وكفاءاته جعلته يتمتع بحب الناس له، حتى الذين لادخل لهم بالسياسة.

هذه في البدايات الاولى التي استطيع ان اتذكرها عن الشهيد حسين احمد الرضي، لان الفترة التي استقر بها في مدينة الديوانية على ما اعتقد كانت سنة ونصف السنة بعدها لم اره في المدينة».

انتقل للحديث عن سلام عادل في عام 1946 فقد عرفه ابناء مدينة الديوانية باعتباره شيوعيا. كان ذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ووقتها اصبح بهجت العطية مديرا لشرطة مدينة الديوانية. وظهر ميل واضح عند الحكومة لكبح جماح الشيوعيين ومحاربتهم وعدم ترك الفرصة لهم كالسابق، ووضعت خطة لمضايقتهم. وليس من المستعبد ان بهجت العطية نقل من مدينة الديوانية اثر نجاحه بمحاربة الشيوعية فيها الى العاصمة بغداد ليكون مديرا لدائرة الامن العامة ويصبح احد الاعمدة المهمة لحكومة نوري السعيد والوصي حتى قيام ثورة الرابع عشر من تموز”يوليو”عام 1958، وقد حوكم بعد الثورة على جرائمه وصدر عليه حكم الاعدام من قبل محكمة الشعب ونفذ فيه.

وعندما شعر والدي ان سلام عادل اصبح في خطر، ارسل اخي ليطلب منه المجيء الى بيتنا جلس والدي معه وتحدث اليه، وقد اخبرني سلام عن هذا الحديث فقد قال له والدي:”وصلت تقارير خطرة عنك، واعتقد ان عليك تخفيف نشاطك الحزبي، انت من عائلة كادحة، واهلك ينتظرونك لترجع اليهم بعائد وظيفتك».

استمع سلام عادل الى ابي، واجابه باسلوب مهذب ومقنع، وما معناه ان كل العوائل الكادحة تنتظر رواتب ابنائها، بينما البلاد ترزح تحت حكم الاجنبية ويعمها الفساد ولا امل يلوح في المستقبل. ثم تسال ما العمل؟ وكيف؟ فاذا فكرت انا براتبي وفعل الاخرون مثلي فمن الذي سينهض لايقاف هذا التدهور الذي إما ان استسلم له فيزداد، او نبذل الجهود لايقافه، وليس هناك من طريق سوى ما يقوم به الواعون من ابناء هذا البلد واضاف سلام عادل في حديثه الى والدي: ان القضية تطرح بهذا الشكل، اما ان ننهض للدفاع عن وطننا او نستكين، فما هو رأيك؟

صمت والدي لحظات، ثم قال له هل انتم جادون بهذه القضية؟ وهل هناك خطة واضحة؟ وامل بالنجاح؟ اجابه سلام عادل: نعم دون شك، فانا منذ يومي الاول في الحركة وضعت اسوأ الاحتمالات التي تنتظرني. قال والدي: بعد ان تنهد: لولا الحمل الثقيل على كاهلي ووجود عائلة معي كان يمكن ان اشارككم هذا النضال، وليس لدي شيء اقوله لك سوى ان سيروا على بركة الله، ولكن احتاطوا والزموا الحذر لان العدو شرس جدا. وبعدئذ سوف يتذكر سلام عادل ذلك اللقاء كثيرا فهو الذي كان بادرة قربت بينهما كثيرا.

وبعد ايام من ذلك اللقاء مع ابي ارسل بهجت العطية في طلب سلام عادل. عرف بهجت العطية بالذكاء واللباقة، وليس اعتباطا ولا صداقة اسناد دائرة الامن العام له واختياره لهذا المنصب من قبل النظام، بل انه كان ذكيا.

قال بهجت العطية لسلام عادل، ان امر فصله صدر ووصل اليه وهو الان معه وبامكانه ايقافه ان تنفيذه. واضاف ان هذا الطريق الذي تمشي عليه وعر محفوف بالمخاطر وانت شاب متحمس ومندفع، وكلنا عندما كنا شبابا مثلك اندفعنا ايضا، ولكن يجب ان تدرك ان الشيوعية شيء آخر، فلو كنت انت وجماعتك فابيين اواشتراكيين ديمقراطيين، لامكن التساهل معكم، ولكنكم شيوعيون وانتم مشكلة لانكم مثل جرثومة”السل”تتكاثرون بالانقسام. وليست هناك من وسيلة لمقاومتكم غير القوة. وتظاهر بهجت العطية بانه ينصح سلام عادل طالبا منه تخفيف حماسه واندفاعه والتفكير بالزواج والعائلة، فماذا انت فاعل؟ سأل العطية وتطوع بالاجابة: انك تحطم نفسك نتيجة هذا الاندفاع.

اجابه سلام عادل: كيف يمكن ان نصلح الوضع؟ رد بهجت العطية على هذا السؤال ليس انتم من بيدكم اصلاح الاوضاع وستصطدمون بالحكومة، وعليك ان تختار فبامكانك وانت شاب ذكي ان تخط لنفسك طريق جيد مريح، سأله سلام عادل: هل تريد ان تشتريني وتساومني على شرفي واصبح جاسوسا؟ رد عليه: الامر ليس كذلك، انت لم تفهمني.

خرج بهجت العطية من جلده ”الدمث والديمقراطي” واسفر عن وجهه الحقيقي، وقال لسلام عادل: اذا جاءك قرار الفصل من الوظيفة كيف يمكنك العيش؟ وانت معلم لا تستطيع ان تشتغل اي شيء سوى التعليم؟ استشاط سلام عادل غضبا واجابه: ماذا اعمل؟ لدي يدان وتقول لي ماذا اعمل؟ ابيع لبنا على الجسر.

سخر بهجت العطية ورد عليه: لا (بلي) كم من المعلمين رايناهم يبيعون اللبن على الجسر؟ واضاف: تذكرني يا حسين بعد ان تذوق الجوع. وتذكر اني حاولت ان اجنبك نتائج هذا الطريق، فاجابه سلام عادل: انت لاتحميني بل انت تدافع عن معاهدة 1930 وعن الاستعمار. رد بهجت العطية على هذا الكلام قائلا بغضب: انت مفصول.

سافر سلام عادل الى بغداد بعد فصله، والحوار الذي دار بينه وبين بهجت العطية يدور في ذهنه وهو في الطريق. وعندما التقى الرفيق فهد بسلام عادل، اقترح عليه احتراف العمل الحزبي، حيث يمنح المحترف 6 دنانير للعيش بها، فقال الرفيق فهد: ستكون مثلنا، خذ 6 دنانير من الرفيق زكي واشتغل معنا. اجابه سلام عادل: ان عدد المفصولين بلغ 100 معلم وانا قلت لبهجت العطية انني سابيع لبنا على الجسر. واريد ان اعمل نموذجا له وللمعلمين المفصولين. وسوف افتش عن عمل واشتغل، واستمر في نشاطي الحزبي.

هذه الفكرة اعجبت الرفيق فوافق عليها. وفكر سلام ان يبيع الفشافيش، لان بيع اللبن قليل المردود ويتطلب جهدا كبيرا، اما الفشافيش فلا تحتاج سوى الى منقلة وفحم واسياخ وقلوب واكباد ويباع على قارعة الطريق.

واتفق مع صديقه محمد حسين فرج الله الذي هو الاخر قد فصل ايضا، على العمل معا في منطقة”علاوي الحلة”بسبب وجود سينما الارضروملي وكراج للسيارات مزدحم بسواق السيارات والمسافرين. واشتريا عدة العمل. واخذ سلام عادل يخرج فجرا للذهاب الى المسلخ لشراء القلوب والاكباد (الفشافيش) بسعر رخيص.

واستغربت اوساط من اهالي بغداد ان يقوم معلم يبيع (الفشافيش)! ولم يخل الأمر من المبالغات وقال قسم منهم بانه أكمل الانكليزية وعلق شهادته في محل عمله.. الخ.

اما والدي فلم يستمر فترة طويلة في منصبه كقائم مقام لقضاء المسيب، وما ان جاءت وزارة ارشد العمري حتى نقل من قائم مقام لقضاء المسيب الى مدير دار المعلمين الريفية بالرستمية ببغداد. كانت الضربة على ابي هذه المرة اشد وطأة، فعمقت اكثر من وعيه السياسي وفهمه لسوء الاوضاع مع هذه الحكومة. لذلك فقد سجل كطالب في كلية الحقوق (مسائي) في الوقت الذي عمل مديرا لدار المعلمين، يذهب عصرا الى الكلية ويدرس في المدارس الاهلية مادتي الفيزياء والرياضيات لعدم كفاية راتبه لمصاريفنا الكثيرة مما زاد من اعبائه. وعندما سمع بان سلام عادل قد فتح محلا لبيع (الفشافيش) اهتز لذلك، وذهب لزيارته وساد بينهما جو من المرح والطرافة وشد ابي على يديه.

عمم الحزب هذه التجربة، ولم يكن سلام عادل وحده من لجأ الى هذا النوع من الاعمال، واتذكر ان رفيقا اخر، رغم ان عائلته كانت ميسورة الحال، فقد فتح محلا لبيع السندويشات وهو من خريجي دار المعلمين العالية.

ترك سلام عادل بيع الفشافيش، وفتح دكانا وعمل في بيع الكبة ووجبات الافطار والطعام الى العمال في ساحة الوصي (حاليا ساحة الوثبة) قرب سينما الفردوس، ويبدو انه كان مرتاحا لعمله الثاني اكثر من الاول لكونه يوفر له وقتا اكبر لممارسة عمله الحزبي كما كان الدكان نقطة استلام وتسليم، وارسال البريد الحزبي.

وفي احد الايام قرأ سلام عادل اعلانا يطلب مفتشين لباصات مصلحة نثل الركاب من حملة شهادة الثانوية، التي حصل عليها سلام اضافة الى اكمال الدراسة في دار المعلمين الابتدائية.

قبل سلام عادل في وظيفته الجديدة كمفتش باصات، وادى عمله بشكل ممتاز، وارتبط بعلاقات طيبة مع مرؤوسيه والعمال الذين يعملون معه، وتميز عنهم بعدد وجبات التفتيش التي يقوم بها، فوطد ذلك من مركزه بين الجياة والمفتشين.

وقد لاحظ العسف وظروف العمل السيئة وانخفاض الاجور، فقرر تعبئة العمال من جباة ومفتشين للمطالبة بحقوقهم عن طريق القيام بالاضراب. وساعدهم على تحقيق مطالبهم.

وتنفيذ الادارة لها بعد نجاح الاضراب الذي قاموا به، لذلك قررت الحكومة فصل عدد من منظمي الاضراب وعلى رأسهم سلام عادل.

سمع ابي بفصل سلام عادل من وظيفته وعرف بحصوله على شهادة الثانوية، وهو الذي يتابع اخباره، فارسل في طلبه واقترح عليه العمل في مدرسة اهلية للاكراد الفيلية تدار من قبل شخصيات كردية ومنهم الحاج علي حيدر، والد الشهيد لطيف الحاج وعزيز الحاج، الذي يرتبط بصداقة قوية مع والدي، وهو من اكرم وافضل الناس وشخصية وطنية وصديق للشاعر محمد مهدي الجواهري والشهيد جلال الاوقاتي. وكان الحاج علي حيدر ينفق بنفسه مع بعض الوجوه الكردية الاخرى على هذه المدرسة التي فيها الطلبة الفقراء من الاكراد”الفيلية”. درس سلام في هذه المدرسة، بعد مرور سنة على فصله. وبدأ يعمل على مساعدة الطلبة المحتاجين من الدارسين فيها، ويزورهم في بيوتهم ويعطيهم دروسا خاصة ويساعدهم في اوقات الامتحانات عن طريق التدريس الاضافي لمادتي الرياضيات والعلوم العامة، فكسب ثقة ذويهم.

اكمل الطلاب الذين درسهم سلام في الديوانية المرحلة الثانوية وجاؤوا الى بغداد لاكمال دراستهم، فشكل سلام عادل منهم فرقة لتمثيل مسرحية لدعم المدرسة مادياً. وعرضت هذه المسرحية في قاعة فيصل (قاعة الشعب حاليا) وذهبت ايراداتها لدعم المدرسة الفيلية.

وعند انتهاء مدة فصل سلام عادل من التعليم عرض عليه ابي العمل في المدرسة التطبيقية التي يطبق فيها الطلبة الذين يتخرجون كمعلمين يدرسون في الارياف، وهي بمثابة مدرسة نموذجية، ولمعت في ذهن سلام عادل فكرة اخرى، فقد اعتبر التدريس في دار المعلمين الريفية فرصة هامة للتحرك وسط الطلبة الذين هم على وشك التخرج والذهاب للتعليم في ارياف العراق المختلفة وكسبهم للحزب، فاستقال من مدرسة الفيلية وعمل في المدرسة التطبيقية. ويقع مبنى هذه المدرسة في الرستمية ببغداد، انتقلت بعدها الى منطقة الكرادة الشرقية في (سبع قصور) قرب منطقة الزوية. وقد شغل هذا المبنى قبلها من قبل طلبة الكلية العسكرية وعند اقتراب سكن الاهليين منه، لم تفضل الحكومة ذلك خوفا من الاختلاط فيما بينهم، فنقلت مدرسة الكلية العسكرية الى الرستمية ودار المعلمين الريفية الى بغداد لتحل فيه.

نجح ابي في نقل بعض الوجوه الديمقراطية من المعلمين الى”الدار”مثل محمد شرارة الذي فصل بعدئذ من الوظيفة في عام 1952 وحكم عليه بالسجن لمدة عامين، ومهدي المخزومي، والوجه الديمقراطي مدحت عبدالله الذي شغل وظيفة نائبا لمدير المعارف في مدينة العمارة وفصل منها في عام 1946 مع المئة معلم الذين فصلوا، فعاد للعمل مع والدي، وسكن المعلمين وعوائلهم في القسم الذي كان مخصصا لسكن الضباط. وسكن سلام عادل مع المعلمين العزاب في غرفة منفردة.

تميز سلام عادل بقوة شخصيته وجاذبيتها لذلك وقع ابي وامي تحت تأثير حديثه الممتع المفهوم وادبه الجم وتواضعه. فكان موضع احترام والدي وحفاوتهما عندما ياتي لزيارة بيتنا. وقد رجاه ابي ان يدرسني مادة الرياضيات فقد عانيت من الضعف في هذه المادة بالمرحلة الثانوية.

وجاء سلام عادل لتدريسي، جلست امامه على الكرسي في غرفة الاستقبال وتحول الدرس دون قصد او تخطيط من الرياضيات الى السياسة واخذ يحدثني باسلوبه الممتع الاخاذ عن الشيوعية ولينين والاتحاد السوفيتي ومعنى الثورة. وتكلم عن اهمية التقدم العلمي والصناعة واثرهما على التقدم الاجتماعي، وعلاقة العمل اليدوي بالعمل الفكري، وكيف تمكن الاشتراكية العلماء والمبدعين والموهوبين من تطوير قدراتهم ومواهبهم، فضلا عن تمكينها من تشغيل النساء وتخفيض ساعات العمل وتوفير العلاج المجاني عن طريق تطوير الطب وغيرها. لقد سحرني حديثه الذي استمر سبع ساعات واللوحة التي رسمها امامي للمجتمع الاشتراكي. وفجاة قال لي: ثمينه الم تلاحظي ان الوقت مضى وانا لم اتغد بعد؟

وكنا عندما ينتهي الدرس نخرج لنتمشى، فنذهب الى بيت صديق والدي الاستاذ محمد شرارة، وعنده تعرفنا على الشعراء بدر شاكر السياب وكاظم السماوي ونازك الملائكة وغيرهم. وكنت على علاقة وطيدة بالشهيد حسين مروة لانه من اصدقاء والدي، والتقاه سلام عادل لاحقا، اما محمد شرارة فهو صديق متبرع للحزب ووجه ديمقراطي معروف وقد اعتقل بعد انتفاضة 1952 وحكم بالسجن لمدة عامين.

عائلتي من العوائل العراقية المثقفة والمنفتحة، فابي من دعاة التحديث والعقلانية في العراق وهو من اوائل مثقفيه، قارئ ممتاز للادب والعلوم واحد المربين الرواد وصاحب رؤيا ونظرية في التعليم، محب للموسيقى.. الخ، لذلك كان بيتنا مفتوحا لاصدقاء ابي واخي نختلط بهم دون حرج ونذهب معهم في سفرات عائلية. وعندما اشتكى راغب بخطبتي الى ابي من سماحه لي بالخروج مع سلام عادل رده بحسم قائلا: انا اعرف ابنتي جيدا واعرف حسين ايضا، فلا تتدخل في ما لايعنيك. منحني ذلك ثقة كبيرة بنفسي جعلني اكثر حرصا على تبرير ثقة اهلي وازداد حبي واحترامي لابي الذي لم يقل لي ما قيل له من هذا الشخص، بل سمعت ما دار بينهما من حديث حولي من صديق والدي محمد شرارة. ولم اكن اخترج من السير مع سلام عادل في منطقة الكرادة منفردين او مع اصدقاء او عندما اذهب معه الى بيت محمد شرارة للتحدث مع الموجودين فيه، ثم نرجع بعدها الى بيتنا.

في شهر آيار”مايو”عام 1947 صدر قرار تقسيم فلسطين الذي عارضته الدول العربية وايدت الحرب ضد اسرائيل. كان مالك سيف وقتها مسؤولا للحزب الشيوعي العراقي.

في حينها كان الرفيق فهد في السجن، وكانت جريدة”الاساس”العلنية اشبه بجريدة للحزب.

ما اريد ان اقوله: انه بعد تجميد سلام عادل خفت مسؤولياته الحزبية فركز عمله على كسب الطلبة الدارسين في دار المعلمين الريفية الى الحزب، ولما كان بيتنا هناك فقد نجح في كسبي الى الحزب ورشحني عام 1949. وقبل فصل سلام عادل من التدريس للمرة الثانية في نهاية عام 1948 تقدم لخطبتي، لكن والدي اصر على عدم اعلان الخطبة حتى اكمالي للدراسة بعد خمس سنوات من ذلك التاريخ لاكون مستعدة على مواجهة اعباء الحياة. اعتقل سلام وحكم عليه مدة خمس سنوات، حيث دخل السجن واضعا خاتم الخطوبة في اصبعه.

* عن كتاب سلام عادل