في ذكرى رحيل الاب الكرملي في 7 كانون الثاني 1947..من هو والد الاب الكرملي وما هي أحواله ؟

Monday 2nd of January 2023 12:17:11 AM ,
5338 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

رفعة عبد الرزاق محمد

مع ايماننا الكامل بان الأب انستاس ماري الكرملي، كان من ابرز المنافحين عن حياض لغة الضاد واحد سدنتها، وحبه لها بكل جوارحه، فان قضية نسبه، مازالت تثير الباحث لاستقصائها والولوج الى اسرارها. وازاء الادلة الكثيرة التي تثبت عروبته، فان بعض الاشارات الى غير ذلك، جديرة بالدرس والتحقيق، للوصول الى الحقيقة.

والمعروف ان والد الأب الانستاس، من اسرة لبنانية تدعى (آل عواد)، اسمه جبرائيل يوسف عواد، كانت ولادته عام 1823 في حي (بحر صاف) من أحياء (بكفيا) في جبل لبنان.

هذا ما ذكره الاستاذ كوركيس عواد في كتابه الفذ عن الأب الكرملي (ص7). بينما سماه الاستاذ جورج جبوري (ميخائيل عواد)، وسماه الاستاذ روكس بن زائد العزيزي (ميكائيل الماريني).. ولوالد الأب انستاس ترجمة موجزة في كتاب (تقويم بكفيا الكبرى وتاريخ اسرها) للشيخ ادمون بليبل المطبوع في لبنان عام 1935 (ص 256 – 260).

وقد ذكر الكرملي في مخطوطته (معين المحقق ومعين المدقق) المحفوظة في دير الأباء الكرمليين ببغداد، والمكتوبة بخطه عام 1908 نبذة، جاء فيها: ابوه ميكائيل ماريني واسمه الحقيقي جبرائيل عواد الماروني من بحر صاف في بكفيا من قرى لبنان، وبيت عواد اشهر من ان يذكر، وابدل اسمه جبرائيل بميخائيل لأمور سياسية كانت في ذلك العهد.. فرحل من لبنان مرافقا احد المنتمين الى نابليون بونابرت. وكان قد جاء سورية ثم رحل منها الى الاستانة ومنها الى فارس والعراق، فكان جبرائيل رفيقه وترجمانه، وكان يفهم 14 لغة. وفي بغداد عرف مريم مرغريته او (لؤلؤه) من بيت اوغسطين جبران البغدادي، وامها (مرتا) ابنة رحماني الكلداني البغدادي، فتزوجها فولد له منها خمسة بنين واربع بنات، وبطرس (يقصد الكرملي نفسه) كان الأبن الرابع من ابناء جبرائيل.

وللمزيد من المعلومات عن هذه الاسرة، ولوضع الحقيقة في موضعها، فان نسابة الاسر المسيحية في العراق، الأب نرسيس صائغيان (المتوفى سنة 1953)، كتب في الصفحة (625) من المجلد الثالث لمجلة لغة العرب، مقالا عن احدى الاسر، قال فيه ان الياس جرجي اقترن في اوائل سنة 1859 بكترينه صابات ابنة اوغسطين بن الياس جبران الكلداني، واسم امها مرثا بنت رحماني. واولاده الذين عاشوا هم: مينا ويوسف ونعوم واليزه وجونيت، وهذه تزوجها يوسف بن ميخائيل بن يوسف ماريني (يعني به شقيق الأب انستاس الكرملي)، وهي ابنة خاله. وفي الهامش يستدرك فيقول: لان ميخائيل يوسف ماريني عواد واسمه الحقيقي جبرائيل بن يوسف عواد الماروني وهو من بحر صاف، اتى بغداد قبل منتصف القرن التاسع عشر وكانت مهنته التعاطي بالعاديات (الاثار) وتزوج في العشرين من حزيران سنة 1852 بلولو ابنة اوغسطين بن الياس جبران المذكور.

لماذا هذا التأكيد على نسب الأب الكرملي؟

توجد بعض الاشارات الى ان الأب الكرملي من اصول غير عربية، فقد ذكر المرحوم ابراهيم الدروبي في كتابه الفذ عن البغداديين واخبارهم (ص234) ان الكرملي من اسرة ايطالية نزحت الى لبنان اوستوطنت هناك مدة طويلة ثم اجرت الى بغداد. ولم تكن رواية الدروبي ضربا من الخيال، فقد عثرنا على شيء من هذا (الأمر الغريب) في رسائل الدكتور نابليون الماريني، شقيق الأب انستاس، الى شقيقه. ففي رسالته المؤرخة في 20 آذار 1907، ذكر انه من اصل ايطالي، بل انه ذكر في رسالته ليوم 25 تشرين الثاني 1908 ان اباه لو قام من القبر واعترف انه من آل عواد فلا يصدقه، بل انه سيقنعه عكس ذلك، ولم يكتف بهذا بل صرح في رسالته ليوم 27 تموز 1912 ان اخواله يرجعون الى اصل ايطالي وان جده لامه عاش في استانبول ثم رجع الى بغداد.

غير ان ما يضعف هذه الدعوى، ويؤكد عروبة الأب الكرملي، ان ابن عمه المدعو عواد منصور، ذكر في رسالة له للكرملي في 28 كانون الأول 1909 ان الدكتور نابليون اكتسب الجنسية الايطالية، واشاع النسب الايطالي ليكون ضمن حماية القنصل الايطالي وليتخلص من الضرائب (ملفات الكرملي المحفوظة في دار المخطوطات ببغداد، الملفان المرقمان (34787، 34641).

ذكر عدد من اصدقاء الأب انستاس الكرملي انهم سمعوا من الأب ان اصله عربي، وكان هؤلاء الاصدقاء من الملازمين للاب الكرملي والعارفين اسراره واحواله، فقد كتب المرحوم مهدي مقلد (المتوفي سنة 1979) ان الكرملي ذكر مرات عديدة انه ينتسب الى قبائل المرده العربية الذين يسكنون جبال وانه، وان المرده في الاصل من بني مراد، القبيلة الكبيرة في اليمامة (جريدة الايام البغدادية 11 تشرين الاول 1962)، بينما ذكر المرحوم الدكتور مصطفى جواد ان الكرملي ذكر في احدى رسائله له ان حبه لأهل اليمن يعود الى ان ارومته من تلك الارجاء (الالوسي ص9). واكد المؤرخ المحقق يعقوب سركيس (المتوفى سنة 1959) ان والد الأب انستاس من اسرة آل عواد العربية وليس له اية صلة بايطاليا (الايام 8 تشرين الأول 1962).

وهكذا تبين لنا اصل الأب انستاس الكرملي بجلاء. اما بدء صلة اسرته بالعراق، فقد كان ابوه مترجما عند امير فرنسي من عائلة نابليون بونابرت، ولتبقى ذكرى هذا الامير حية لديه، فقد اطلق اسم نابليون على احد ابنائه، وقد اكمل هذا الابن دراسته في فرنسا واصبح طبيبا معروفا، كتب العديد من البحوث الطبية، وقد ترجم شقيقه الاب انستاس بعضها الى اللغة العربية، ونشرها في مجلة (المشرق) البيروتية، قبل ان يدب الخلاف بينه وبين صاحبها الأب لويس شيخو اليسوعي. وتوفى الدكتور نابليون الماريني عام 1925، تاركا كتاباً طريفا عن بغداد، سماه (تنزه العباد في مدينة بغداد)، طبع في بيروت عام 1887م.

وقد رافق (جبرائيل عواد) الامير الفرنسي في رحلاته الى مصر ولبنان وسوريا والاناضول وايران.. والعراق. ويبدو ان رحلاته كانت للبحث عن الآثار القديمة ونقلها الى اوروبا، وقد عرف جبرائيل فيما بعد بنشاط اثاري تجاري كما سنرى. وما ان انتهت مهمته مع الامير حتى قرر ان يستقر في العراق، فاقترن عام 1859 بكريمة احدى الأسر الكلدانية ببغداد، فرزق منها خسمة ذكور واربع اناث. ومن اولاده بطرس الذي انخرط في السلك الديني واشتهر باسم انستاس ماري الكرملي، وكانت ولادته في اليوم الخامس من آب 1866.

ونذكر هنا ان خال الأب انستاس، هو الشماس فرنسيس اوغسطين جبران، المتوفى يوم 28 كانون الاول 1924، كانت له بعض المساهمات الفكرية (الكتاب الذهبي ليوبيل مجلة المقتطف ص129). وقد اشترك مع وجهاء الكلدان في بغددا واسس (مدرسة الاتفاق الكاثوليكي) عام 1878 م في كنيسة الكلدان في مجلة (عقد النصارى). ويذكر المرحوم سامي خونده (المتوفى سنة 1990) انه كان يرتدي طربوشا احمر وعباءة سوداء وذا لحية كثه. وقد خلف ولدا يدعى (نرسي) استخدم في العشرينيات في مديرية البريد والبرق (الايام 12 تشرين الاول 1962).

اشتغل والد الأب انستاس بتجارة القطع الاثرية وبيعها للسواح الاجانب، وكانت اثارنا يومذاك مشاعة للجميع، لا قانون يحميها ولا وعي يدرك اهميتها التاريخية. وكان الرحالة الاجانب يجوبون ارض العراق بحثا عن الآثار واخبارها. ومن الطريف ان احد هؤلاء الرحالة ترك لنا وصفا لوالد الاب انستاس الكرملي.

حدثنا الرحالة الهولندي (نيجهولت) الذي زار بغداد سنة 1866 (وهي سنة ولادة الكرملي) عن شخص طريف تعرف عليه في دير الاباء الكرمليين ببغداد، يدعى الأب ميخائيل، ويقول: وليس في هذا الاسم اية دلالة دينية، وهو ترجمان الدير، وقد قرن بهذه الوظيفة صفة تاجر عاديات وتحف، مما جعل له صلة بجميع الاوروبيين، ولم يكد يغتبط بالبنية التي خلق عليها او ابتلى بها على الاصح.

تصوروا وجها عريضا وفما ضخما مع عينين صغيرتين وكتفين اختلف فيهما العلو والبروز، كل ذلك قائم على ساقين معاديين للخط المستقيم. وخلاصة القول فيه انه راس (كازيمودو) على جسم (تريبوليه) (الاول بطل رواية احدب نوتردام، والثاني مهرج البلاد الفرنسي ايام الملك لويس الثاني عشر).

ومهما يكن من امره، فانه تزوج من فتاة ارمنية جميلة، انجبت له اربعة اولاد، كان يتبجح بتنشئتهم على احسن المبادئ واقومها. وكانت مبادئه في التربية تقوم على الضرب من الصباح الى المساء.. يضاف الى ذلك ان ميخائيل الورع المتدين كان يستند الى آية الكتاب المقدس التي تنص على التأدب، علاقة المحبة الابوية.

كان ميخائبل وكيل الدير الكرملي، يقوم بكل اعماله في الخارج، اما في الداخل فكان يتعهد الكنيسة بالعناية ويخدم في القداس ويقرع النواقيس ويتولى اعمال الترجمة والقيم والمتعهد والشماس.. فكان يبحث عن الاجانب ويتعهد بخدمتهم، كان يشتري لتجارته كل ما يقدم اليه من مواد غريبة كما يعتقد. بيد ان معلوماته الاثارية قاصرة وكثيرا ما كان يقع فريسة الخداع لان البعض تفنن في تقليد العاديات وتزييف الاحجار.

ثم ينقل معرب الرحلة (مير بصري) شيئا عن معاملته في بيع العاديات، حتى يذكر: ان ميخائيل الموما اليه هو والد الأب انستاس الكرملي على ما حققه المحقق يعقوب سركيس، وهو اكثر الناس صلة بالكرملي (جريدة الايام) 8 تشرين الأول 1962).

واخيرا، فان كلمة الدكتور مصطفى جواد على قبر الكرملي، تغني عن كل قول، قال: الأب انستاس رجل وهب نفسه للغة العربية، فكان باراً بها بر الوالد الصالح بامه و ابيه، عاطفا عليها ايام شدتها وضرائها، حافظا لها ايام كانت هزأة الهازئين وفكاهة الافاكين ان في اثاره وسيرته العلمية ما يجعله خالد الذكر ابد الآبدين ودهر الداهرين.