الوالي نجيب باشا وإستباحة مدينة كربلاء سنة 1842

Monday 2nd of January 2023 12:15:54 AM ,
5338 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

نيزك سعيد عبد الكريم

إتبع معظم الولاة العثمانيين الذين حكموا إيالة بغداد خلال مختلف العهود العثمانية التي دامت لحوالي أربعة قرون، سياسة معينة تجاه العشائر وسكان المدن داخل إيالة بغداد. وكانت تلك السياسة نابعة غالباً من رغبتهم في تأكيد سلطتهم وسلطة الدولة العثمانية على تلك العشائر وأولئك السكان لكسب رضى السلطان العثماني، وللبقاء لأطول مدة ممكنة في حكم الإيالة، كونها تزيد من فرصهم في الإثراء على حساب سكانها وثرواتها.

وكانت سياسة ولاة بغداد قائمة على شعار (فرق تسد)، الذي سعوا الى تطبيقه على سكان الإيالة من خلال إثارة العداوات بين عشيرة وأخرى، وتشجيع إحداث الفتن بين أبناء العشيرة الواحدة، أو مساندة شيخ عشيرة من العشائر ضد شيخ عشيرة أخرى من أجل حدوث العداوات بينهما.

وفي سنة 1842 تولى محمد نجيب باشا حكم إيالة بغداد بدلاً عن الوالي علي رضا باشا اللاظ، وقد اتبع هذا الوالي سياسة أكثر شدة وقسوة ممن سلفه تجاه العشائر وسكان المدن، فقد استهل حكمه بإخضاع مدينة كربلاء الى حكم الدولة العثمانية المباشر من خلال حملة عسكرية قادها على المدينة. وكانت كربلاء تتمتع بشبه استقلال ذاتي عن الحكومة العثمانية في بغداد، وكان يتولى حكمها أحد أبنائها وهو السيد وهاب الطعمة. إلا أن المدينة خلال تلك الحقبة كانت تشهد اضطرابات وفتن كثيرة لوجود جماعة اليارامزية التي كانت تسيطر عليها وتعبث بأمنها، فقد كانت تلك الجماعة تسير شؤون المدينة بما ينسجم مع رغباتها، وتعامل السكان بكل قسوة وتسلب أموالهم وممتلكاتهم دون أن يكون هناك رادعاً لهم. لذا فقد قرر الوالي محمد نجيب باشا تجهيز حملة عسكرية كبيرة والسير بها نحو مدينة كربلاء للقضاء على جماعات اليارامزية وإعادة المدينة الى الحكم المباشر لبغداد، وعند وصوله المسيب عسكر فيها وطلب من الضابط سعد الله باشا قيادة القوات العسكرية والسير بها نحو مدينة كربلاء للسيطرة عليها.

وحينما وصلت القوات العثمانية الى أبواب المدينة فرضت الحصار عليها، وجرت بعض المفاوضات بين بعض علماء الدين الموجودين داخل المدينة وبين القائد سعد الله باشا من أجل العدول عن مهاجمة المدينة حفاظاً على قدسيتها وأرواح سكانها، وقد تعهد هؤلاء بأن يغادر جميع أفراد اليارامزية مدينة كربلاء. كما أن القنصل الإيراني في بغداد الملا عبد العزيز خان إلتقى بالوالي محمد نجيب باشا وحاول إقناعه بعدم مهاجمة المدينة، لكن الوالي رفض ذلك وأصر على مهاجمة المدينة والقضاء على اليارامزية إن لم يغادروا المدنية.

أخذت القوات العسكرية بقيادة سعد الله باشا تقصف المدينة بالمدافع بعد أن فشلت المفاوضات لإصرار اليارامزية على عدم مغادرة المدينة، ثم اقتحمتها وانتشرت فيها، وبدأت عندئذ أعمال السلب والنهب من قبل الجنود الذين قتلوا عدداً كبيراً من سكان المدينة، ولم ينج منهم سوى من ألتجأ الى بيت السيد كاظم الرشتي، أحد علماء الدين الموجودين في كربلاء، والذي كانت له علاقات ودية مع حكومة الإيالة. كما دخل الجنود الى مرقد ابي الفضل العباس ( عليه السلام) وقتلوا السكان الذين التجأوا اليه. وبعد ذلك تمكنت القوات العسكرية من القبض على بعض قادة اليارامزية، وفرّ بعضهم الآخر. وقد قدر عدد ضحايا تلك الحادثة حوالي أربعة آلاف قتيل من سكان المدينة.

وعلى أثر ذلك، دخل الوالي محمد نجيب باشا الى مدينة كربلاء، فعزل السيد وهاب الطعمة عن حكمها، وعين لإدارتها موظفاً تابعاً له برتبة (قائم مقام)، كما عين بعض الموظفين الإداريين لمساعدته في إدارة شؤون المدينة، ووضع فيها قوة نظامية عسكرية قدر عددها بستمائة جندي من أجل الحفاظ على الأمن والنظام داخل المدينة.

وبعد أن نظم أمور الإدارة في مدينة كربلاء، توجه الوالي محمد نجيب باشا نحو مدينة النجف التي كانت تحكم من قبل ( أسرة الملالي) آنذاك، من أجل القضاء على فتن جماعتا الزكرت والشمرت وإعادة المدينة للحكم العثماني المباشر. وعلى أثر ذلك أستحوذ الخوف على سكان المدينة الذين خشوا أن يحدث معهم ما حدث لسكان مدينة كربلاء، فسارع وجهاء النجف المتنفذين وسكانها الى استقبال الوالي محمد نجيب باشا وإظهار الطاعة له. فعدل الوالي عن مهاجمة المدينة بعد أن رأى استقرار أوضاعها.

ولا بد من الإشارة أيضاً، الى أن الوالي محمد نجيب باشا، كان يعامل أبناء الأقلية المسيحية الساكنين في إيالة بغداد، طيلة مدة حكمه، معاملة سيئة، حيث كان يفرض عليهم العديد من القوانين والأنظمة التي كانت تعيقهم عن ممارسة حقهم في الحياة الاجتماعية على الرغم من أن الدولة العثمانية كانت تتغاضى في كثير من الأحيان عن تطبيق مثل هذه القوانين والأنظمة على رعاياها من المسيحيين.

كما استخدم الوالي محمد نجيب باشا سياسة ( القضم) تجاه مشيخة المنتفق، من خلال إفراز بعض المقاطعات التابعة لها، وجعلها تحت الإشراف المباشر لحكومة الإيالة، بحجة أن هذا الإفراز جزء من سياسة الدولة العثمانية الرامية الى تحقيق المركزية المباشرة على جميع الإيالات التابعة لها.

كما أن الوالي المذكور عمد في سنوات حكمه الأخيرة الى زيادة مقادير الضرائب المفروضة على العشائر العربية الساكنة في إيالة بغداد، مما أدى الى حدوث تمردات عشائرية من قبل بعض العشائر، فقد حاصرت عشيرة عنزة مدينة بغداد وأرادت الإستيلاء عليها، وزحفت عشيرة عبيد نحو مدينة الكاظمية واستولت عليها وعطلت جميع وسائل المواصلات بين مركز الإيالة والمناطق الأخرى، فضلاً عن تمرد عشيرتي بني لام وشمر وإعلان عصيانهما لحكومة الإيالة. كما اندلعت ثورة عشائرية في منطقة الهندية أيضاً بسبب السياسة التعسفية التي اتبعها شيخ زبيد وادي الشفلح الذي استخدمه الوالي محمد نجيب باشا في تلك المنطقة لجباية الضرائب الحكومية. وكانت هذه الثورة قد تلقت المساندة والدعم من عشائر المنتفق والخزاعل وعشائر الدليم والظفير وعفج، إلا أن الوالي تمكن من القضاء عليها بقوة وعنف.

وفي آخر سنوات حكمه، تمكن الوالي محمد نجيب باشا من إلقاء القبض على شيخ شمر الجربا صفوق الفارس، الذي كان متمرداً على حكومة الإيالة آنذاك، وقتله بقسوة وشدة، لذا انتهى عهد الوالي محمد نجيب باشا بفوضى وثورات عشائرية عارمة في إيالة بغداد، دون أن تفيد في شيء سياسة القضم والشدة التي اتبعها.

عن رسالة (الإدارة العثمانية في إيالة بغداد”1831 – 1869م»دراسة تاريخية)