من أعلام المسيحيين العراقيين..كيف دخل يعقوب سركيس عالم البحث و التأليف؟

Monday 26th of December 2022 12:19:09 AM ,
5334 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

رفعة عبد الرزاق محمد

يفخر الأستاذ يعقوب سركيس (ولد في بغداد في 21 آب 1876 وتوفي فيها في 23 كانون الاول 1959) دوما بانه نصف بدوي لمعرفته حياة البداوة واعرافها، ولاشك انه تعلمها من رحلاته الى جنوب العراق،

وكان كثيرا ما يردد المقولة السائرة: قطع الخشوم ولاقطع الرسوم، يريد بذلك وجوب التقيد بالاعراف والتقاليد. لقد عرف الكثير من تاريخ منطقة المنتفك واحوالها قبل ان يبدأ بتدوينها، عندما استهوته الكتابة التاريخية بدفع من صديقه الاثير الاب انستاس ماري الكرملي.وانصرف من شبابه الى جمع الوثائق والمدونات التاريخية المختلفة، وتوسع في هذا الانر حتى اصبحت مكتبته من اكبر المكتبات الخاصة، ضمت نفائس المخطوطات والمطبوعات النادرة، ولاسيما تلك التي تبحث في تاريخ العراق واحواله المختلفة. واهتم بشكل خاص لجمع كتب الرحلات الاجنبية التي سجلت الحياة العامة بما لم تسجله المظان الاخرى، وقد راسل امهات المكتبات الغربية للحصول على مايشبع هوايته.

ولم يخطر بباله ان يكتب شيئا عن ابحاثه ومكتشفاته ونشرها، الى ان اقنعه صديقه الكرملي، ان يكتب في مجلته الذائعة (لغة العرب) شيئا عن المنتفك، فكتب نبذة بعنوان: خواطر في المنتفك وديارهم، بتوقيع مستعار ! غير ان الاب الكرملي وضع بعض الاضافات والتنقيحات على المقالة تلك، ولم يرض سركيس على ذلك، حتى انه لم يضمها الى مجموعته المنشورة (مباحث عراقية). الا ان تلك الحادثة لم تمنعه عن مواصلة الدراسة والنشر، فاستمرت بحوثه الدقيقة والطريفة منذ عام 1913 الى اواخر حياته. وقد احسن كثيرا، عندما نهد الى جمع هذه البحوث والتحقيقات والنبذ والتعليقات في كتاب جامع، سماه (مباحث عراقية)، صدر:

1 ــ الجزء الاول، طبع سنة 1948 بتقديم الشيخ محمد رضا الشبيبي، ووضع فهارسه الاستاذ كوركيس عواد. وهو يضم مانشر في مجلة لغة العرب.

2 ــ الجزء الثاني، طبع سنة 1955، بتقديم الاستاذ رفلئيل بطي، ووضع فهارسه الاستاذ يوسف يعقوب مسكوني. وضم المقالات في شتى الصحف والمجلات.

3 ــ الجزء الثالث، طبع سنة 1981، جمع وتحقيق الاستاذ معن حمدان علي. ومن المؤسف له ان يظهر غلاف الكتاب خاليا من اسم سركيس، اذ توهم مصممه ان جامعه هو المؤلف.

وقد ذكر الاستاذ كوركيس عواد ان المجلدين الثالث و الرابع، قد اعدهما سركيس للنشر قبل وفاته، الا انهما فقدا فيما بعد. لقد تمكن الاستاذ معن حمدان من جمع ما استطاع جمعه من مقالات سركيس ليظهر لنا ــ مشكورا ــ الجزء الثالث. وهو يعد العدة لجمع الجزء الرابع ونشره بأذن الله.

ومما أود بيانه هنا ايضا:

اختار المجمع العلمي العراقي الاستاذ يعقوب سركيس عضوا فخريا فيه عند تاسيسه، وبطلب من المجمع ترجم في ايامه الاخيرة ما يتعلق ببغداد من رحلة (اوليا جلبي) مضيفا اليها تعليقات وفوائد كثيرة، ولقد رأيت رسالة للسيد نصرت الفارسي حول هذا الموضوع. ولعل الايام تظهر لنا هذا الاثر النفيس من آثار سركيس.

اتسمت طريقة كتابته البحوث التاريخية بدقة التعبير، اذ كان يزن كل كلمة يكتبها خشية اللبس، فقلما كان يعني بجمال صياغة الجمل التي يكتبها، فلم يكن يهتم بذلك كثيرا، بقدر اهتمامه بحشد اكبر ما يمكن من الفوائد. وكان يصرف في كتابة المقالة اياما واسابيع لمراجعة المصادر المختلفة، وما اكثر مصادره البعيدة عن ايدي الاخرين، فلا غرو ان تجد في كل ماكتبه اضافات اخرى على ما تجده في المصادر المتداولة. هذا فضلا عن طرافة ما يبحثه وغرابة الموضوعات التي يتناولها. لقد امتلك يعقوب سركيس بصيرة نفاذة نقادة، تميز بين الحق والباطل وروحا علمية لا ترضى بغير التدقيق والتحقيق ومحاكمة النصوص وتمحيصها، قبل اعطاء الرأي. وكان حريصا بما لامثيل له على الاطلاع على كل مايفيد البحث ويدفعه نحو الحقيقة، وجلدا فائقا على وعورة الوصول الى مظان بحثه ومراجعه. وبهذه الصفات جاءت ابحاثه غزيرة المادة، كاشفة لحقائق مجهولة من تاريخ هذه البلاد. ولا ريب ان بحوثه مكتشفاته تحمل في ثناياها عوامل البقاء والخلود، فضلا عن اعتمادها في السنوات اللاحقة باشكال مختلفة.

ومن المؤسف ان تصبح آثاره نهبا لادعياء البحث وانصاف الاميين ممن شجعته بعض الصحف على التمادي في ذلك.

اذا طرق سركيس موضوعا تاريخيا لايكتفي بما يسهل الحصول عليه من المضان بل يرجع الى ماهو عزيز المنال مما في مكتبته الكبيرة، او في مكتبات الاخرين، ليشبع الموضوع تدقيقا وتوثيقا.

وكان رحمه الله يستقبل منتقديه بكل حفاوة واهتمام. بل كان يعتذر لهم عن أي خطأ مهما كان صغيرا، ويكفي هنا شاهدا على ذلك ما ذكره تعقيبا على مقال للمرحوم عبد الحميد عبادة، صحح فيه ما كا يعتقده سركيس من ان قبر ابن الجوزي في محلة السنك، فقال: واني لاشكر عبادة على نقده النزيه وعلى تخطئته اياي، وكان سبب غلطي اني اعتمدت على سالنامة بغداد وعلى ما رأيته في اول مخطوط قديم ذكرته هناك. وكان الواجب علي ان ارجع الى ابن خلكان، وليس بين المترجم والنترجم له الا قرن واحد فضلا عن ان ابن خلكان من الثقات المعلومين.

مكتبته

كون يعقوب سركيس مكتبة عامرة، تعد من اشهر المكتبات الشخصية في الشرق. وكانت هذه المكتبة تقع في بيته المطل عل دجلة في محلة المربعة غير بعيد عن جامع ومرقد السيد سلطان علي. وقد اوصى قبل وفاته ان تهدى هذه المكتبة الى جامع الحكمة (الاهلية) في بغداد، ثم آلت بعد الغاء الجامعة الى مكتبة المتحف العراقي. وقد قام الاستاذ كوركيس عواد بوضع فهرس تفصيلي بمخطوطات الاستاذ سركيس عام 1966. اما المطبوعات فق حفظ النادر والنفيس في مكتبة المتحف في بغداد ونقل القسم الاخر الى مكتبة متحف كركوك.

ومن الذخائر الخطية في مكتبته، وقد افادته كثيرا في بحوثه، ما وجده في صندوق آل عبود اخواله، ولندعه يصف لنا هذه اللقية: وجدت في دار لطف الله عبود (ت1947) صندوقا، طوله متر وعرضه نحو نصف متر، وكذلك ارتفاعه وهو مملوء رسائل كان قد بعث بها اجداد اسرته الكريمة، بعضهم الى بعض من حلب و بغداد والبصرة وغيرها، بقصد التجارة، وفيه اوراق تجارية مختلفة تتعلق باواخر القرن الثامن عشر واوائل القرن التاسع عشر... وذكر اصحابها في سياق كلامهم حوادث ووقائع متنوعة. وما هذه الدفينة الا جزءا ضعيفا من اوراق التهمتها نار شبت في 2 تشرين الاول 1908 في خان لطف الله عبود فاحرقت ما فيه. وهذه الاوراق المحترقة كان ينوف قدرها على نحو عشرين صندوقا كصندوقنا الباقي..

ويبدو ان هذه الذخيرة الوثائقية ضمت اوراقا ادبية وتاريخية مختلفة، منها كما اشار اليها سركيس في مباحثه قصائد شعرية ورسائل شخصية واوراق تجارية و سواها.

مقالاته

ان اول مقالة نشرها سركيس كانت (خواطر في المنتفك وديارهم)، نشرها بتوقيع مستعار هو (منتفكي) في مجلة لغة العرب (السنة الثانية 1913)، وهي ملاحظات على مقالة للشيخ محمد رضا الشبيبي في المجلة نفسها. الا انه طواها ولم ينشرها في (مباحث عراقية). وقد ذكر فيما بعد ان يدا تلاعبت بها فشوهت بعض ما اراده، وبقصد هنا يد الاب انستاس ماري الكرملي صاحب المجلة. غير انه تابع مباحثه في المجلة، فنشر في السنة نفسها مقالا ممتعا عن سعدون باشا السعدون، وصف فيه المترجم له وصفا دقيقا لامثيل له. وبعدها شرع بتسطير بحوثه الشلئقة عن النتفق معتمدا على وثائق نادرة. ويبدو انه اهتم بالمسائل التاريخية والاثارية، بدأ منذ فترة مبكرة، فقد ذكر في مقال له سنة 1931، انه لما كان تلميذا في مدرسة الاباء الكرمليين سنة 1891، وهو في السادسة عشر من عمره، رغب في زيارة والده في الشطرة، فذهب اليه على طريق الكوت. وعند عودته طلب من والده ان يسمح له بأن يحيد بضعة كيلو مترات عن الطريق التي سلكها في المجيء ليتفقد الاثار التي بعثت من مدافنها في تلك المناطق.

لقد طرق سركيس في مقالاته قضايا نادرة وطريفة من تاريخنا المنسي. ومن طرائف مقالاته اكتشافه عندما احتفل بتكريم اللاب الكرملي عام 1928 في دار عبد المحسن السعدون، رئيس الوزراء، بتقديمه بحثا عن سعدةوني كرم كرمليا في اوائل القرن الثامن عشر، اعتمادا على سجل قديم للبعثة الكرملية في البصرة.

ومن بحوثه ومكتشفاته التاريخية الطريفة والنادرة: صاحب اول رحلة شرقية عراقية الى اميركة سنة 1668، وآخر العهد بضرب النقود العثمانية في العراق، والعرجاء قصبة المنتفق قبل ثلاثة قرون، وتعريب الانجيل في العهد العباسي، وموضع مقتل المتنبي، ومبدأ زراعة بعض الخضر والفواكه في بغداد والعراق، ومبدأ دخول التتن الى العراق، ومبدأ دخول القهوة واول مقهى في العراق، وحقيقة طاووس اليزيدية، وغيرها من البحوث والتعليقات والنبذ الكثيرة.

مستل عن مبحث (شيء عن يعقوب سركيس)