في ذكرى رحيلهما..بين مصطفى جواد وسالم الألوسي

Sunday 18th of December 2022 11:40:06 PM ,
5330 (ذاكرة عراقية) (نسخة الكترونية)
ذاكرة عراقية ,

في مثل هذه الايام من عام 1969 توفي العلامة الدكتور مصطفى جواد،

وفي مثل هذه الايام من عام 2014 توفي الاستاذ سالم الالوسي،

وكانت بين الراحلين ذكريات وأيام جمعتهما في محافل الفكر والادب،

ومن ذلك ما كتبه الالوسي عن بدء صداقتهما ضمن أوراقه التي اودعها ملحقنا عام 2010.

بعد حصولي على الشهادة الثانوية- الفرع العلمي- عام 1943 كان المقرر الدخول الى كلية الطب أو كلية الهندسة الا أن ظروف الحرب العالمية الثانية جالت دون تحقيق هذه الرغبة وازاء هذا الوضع تقدمت بطلب التوظيف في (دائرة الىثار القديمة) بناء على حاجتها لموظفين يحسنون الانكليزية فدخلت الامتحان

وكانت النتيجة حصولي على الأولوية بين 85 ممتحناً فصدر الامر الاداري بتعييني في هذه المديرية العامة ابتداءً من 1944/10/18 فأمضيت فيها اكثر من عشرين عاماً شغلت عدداً من الوظائف الفنية منها: عمليات تسجيل الاثار في السجلات الفنية ومرافقة الوفود الأجنبية التي كانت تزور المتحف والمواقع الأثرية والمشاركة في أعمال التنقيب في مواقع عديدة منها الكوفة (قصر الامارة) وتل حرمل والحضر والمشاركة في عدد من مؤتمرات الآثار التي عقدت في بغداد وعواصم عربية اخرى مثل مدينة (فاس) في المغرب عام 1959 وصنعاء 1989 الى جانب الإسهام في أعمال صيانة الآثار في شارع المواكب في بابل. وأخيراً شغلت وظيفة سكرتارية تحرير مجلة سومر الثارية 1958-1964 ونشرت فيها عدداً من البحوث والدراسات الآثارية باللغتين العربية والانكليزية.

كان العلامة الدكتور مصطفى جواد رحمه الله غني عن التعريف، فكتاباته ودراساته منذ أوائل العشرينيات حتى الأسبوع الاول قبل وفاته في 1969 معروفة لدى الخاص والعام والمحافل العلمية واللغوية داخل العراق وخارجه، وكنت معجباً به أستمع الى أحاديثه في الإذاعة واقرأ له في المجلات والصحف العراقية والعربية.

وفي 1944/11/20 كان لي شرف التعرف اليه شخصياً بعد تعييني في دائرة الآثار في العام المذكور، وكان يعمل فيها بعنوان(ملاحظ فني) والذي قدمني اليه هما: الأستاذان حسين عوني عطا(رحمه الله) معاون المدير العام لدائرة الآثار والاستاذ كوركيس عواد ملاحظ مكتبة المتحف العراقي يومذاك، وقد توطدت صلتي به حين كنت أرجع إليه مستفسراً عن المواقع الآثارية في بغداد وخارجها وكان يرشدني الى المصادر الباحثة عنها. فأعجبت بذاكرته العجيبة فكان يشير الى المؤلف واسم الكتاب والى المجلد وأحياناً الى رقم الصفحات التي فيها الموضوع المبحوث عنه، ذات يوم من عام 1945 عرضت عليه وريقات من كتاب مجهول مطبوع على الحجر يتناول مسائل تاريخية وذكر بعض الرجال والمدن، فما ان وقع بصره عليه إلاّ وقال مبتسماً أنه الكتاب الفلاني ومؤلفه فلان ومطبوع في حيدر آباد(الهند)، وفي مكتبة المتحف العراقي نسخة منه، فذهبت الى المكتبة وطلبت الكتاب وقارنت الصفحات فوجدتها كما شخصها، هذه القابلية الفذة العجيبة زادت في اعجابي واحترامي لهذا العلامة الجهبذ ثم توطدت الصلة بيننا أكثر فأكثر عند اصدار العدد الأول من مجلة سومر عام 1945 حيث عملت فيها مع الأستاذ عبد الوهاب الامين(رحمه الله) والاستاذ سامي الصقار وأول مقابلة أجريتها كانت مع الدكتور مصطفى جواد حول (القصر العباسي في القلعة ببغداد) وهو دار المسناة العتيقة من آثار الناصر لدين الله العباسي، وقد نشرت في المجلد الأول من المجلة 1945. وكان هذا العمل قد أفادني كثيراً في كيفية كتابة البحوث والدراسات الخططية والآثارية، كما علمتني الكثير من الأمور التي تتصل بالتحرير والنشر وشؤون الطباعة.

وفي عام 1960 عادت صلاتنا القديمة، حيث شاركت مع الدكتور مصطفى جواد في البرامج الثقافية من محطة تلفزيون بغداد وكان النجم اللامع في البرنامج الذي كان لي شرف تقديمه في التلفزيون(الندوة الثقافية) التي استمرت قرابة (12) عاماً متواصلة، وقبل وفاته رحمه الله طلب إلي أن أكتب مقدمة كتابه (رحلة أبي طالب خان) وقد توثقت صلاتنا الأخوية أكثر فأكثر بمرور الأيام، وقد عبّر عن هذه الصلة في كثير من المناسبات كان آخرها (قصيدة تحية)سجلها بقلمه على أحد مؤلفاته، وهي خير ما أعتز به في ذكرياتي مع العلامة جواد رحمه الله.

هل هو امتحان؟

إن الحديث عن العلامة الدكتور مصطفى جواد صاحب طويل ومتعب بالنظرلتعدد مواهبه الفذة وحدّة ذكائه وقوة حافظته. ومهن ذكرياتي عنه في منهاج (الندوة الثقافية) التي استمرت اكثر من اثنتي عشرة سنة، كان دائم التألق وموضع اهتمام الجماهير على اختلاف مستوياتها الثقافية والاجتماعية.

وفي اواسط الستينيات كنا: الدكتور جواد والاستاذ ناجي معروف وسالم الآلوسي نتحدث عن موضوعات ثقافية وتاريخية ومعضلات لغوية، وبعد مرور نحو عشر دقائق على بدء الندوة، دخل الاستوديو بهدوء الاستاذ دريد الدملوجي مدير عام وكالة الانباء ووكيل المدير العام للإذاعة والتلفزيون يومذاك واشار إلينا اشارة خاصة وكانت بيده ورقة أرسلها الينا مع مخرج البرنامج الاستاذ كمال عاكف، ثم حيانا بيده وخرج من الاستوديو بهدوء لئلا يحدث صوتاً يؤثر على البث.

قرأت الورقة- باعتباري مقدم البرنامج- وقد جاء فيها ان جماعة من الأساتذة يستمعون الى الندوة في دارأحدهم وهم يطلبون من الدكتور مصطفى جواد- إن كان صادقاً في كلامه ومعلوماته!! أن يذكر اسماء خلفاء بني العباس بالتسلسل. وعندما كان الأستاذ ناجي معروف يتحدث قدمت الورقة الى العلامة جواد وكان قد فرغ لتوه من حديثه، فالتفت إليّ مبتسماً وهز رأسه دلالة على موافقته على إجابة ما جاء في الورقة.

واستهل الاستاذ جواد كلامه مستفسراً من مرسل الورقة: هل هو امتحان أيها الأخ؟ أو محاولة احراج لشخصي واختبار معلوماتي واستجابة لطلب المرسل وارجو أن لا يخيب ظنه، أقدم المعلومات التي طلبها إن كان جاداً ذاكر اسماء خلفاء بني العباس ابتداءً من أبي العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الملقب بالسفاح.

أمه ربطة بنت عبد الله بن عبد المدان الحارثي، ولد بالشراة سنة خمس ومئة، وقد بويع بالخلافة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين ومئة وهو ابن سبع وعشرين سنة. وكان طويلاً أبيض اقنى الأنف حسن الوجه سديد الرأي كريم الأخلاق، ذا فضل وحزم ويقظة وسياسة.. ثم جاء على ذكر الخليفة الثاني أبي جعفر المنصور ومن جاء من بعده من خلفاء بني العباس واحداً واحداً وكانوا سبعة وثلاثين خليفة أولهم السفاح كما ذكرنا وآخرهم المستعصم بالله وهو أبو احمد عبد الله بن أبي جعفر المنصور بن أبي نصر محمد الظاهر بن أحمد الناصر بن الحسن المستضيء بن يوسف المستنجد بن محمد المقتفى بن احمد المستظهر بن عبد الله المقتدى بن محمد الذخيرة بن عبد الله القائم بن احمد القادر بن الأمير اسحق بن جعفر المقتدر بن احمد المعتضد ابن الامير أبي احمد طلحة بن جعفر المتوكل بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي السجاد بن حبر الأمة عبد الله بن العباس بن عبد المطلب.

ومما يلاحظ ان الدكتور جواد ذكر الخليفة العباسي الأول مع بعض المعلومات عنه مثل ذكر تاريخ ميلاده وتوليه الخلافة ووفاته ومدة خلافته وجرى على هذا المنوال مع كل خليفة من الخلفاء مع ذكر اولاده ووزرائه وقضاته وحجابه الى غير ذلك من المعلومات ثم ختم كلامه بذكر المستعصم بشيء من التفصيل معتذراً عن ضيق الوقت المخصص للندوة وقد لخص عند ذكر المستعصم اسماء الخلفاء ابتداء وانتهاء.

ثم خاطب المستمعين بقوله: هذا ما طلبه المستمع ولو كان الوقت يسمح باكثر من هذا لذكرت أكثر. ثم خاطب صاحب الرسالة: هل اجتزت الامتحان يا أيها الأخ.

وعند خروجنا من الاستوديو ظهرت على الدكتور جواد إمارات الانفعال وهو يردد: مساكين هؤلاء الحساد المنافقون، مساكين بؤساء.

هذه الحادثة وعشرات من امثالها كانت تحدث خلال تقديمنا البرنامج الاسبوعي (الندوة الثقافية(.

ومن المواقف الأخرى التي أتذكرها أنه كان لا يكرر المعلومات- أية معلومات تاريخية أدبية، لغوية آثارية.. مرتين أبداً، بل كان يفضل عند ورود سؤال الى الندوة اجابة السائل تحريراً.

ومن الطرائف التي أثارت الجمهوروالصحف المحلية ان أحد السائلين سأله عن أنواع التمور في العــــــــــــراق، فما كان من العلامة جواد الاّ وأجابه بقصيدة طويلة ذكر فيها جميع أصناف التمور المعروفة في العراق مع بعض التعليقات الطريفة على بعض الأسماء مثل: الطبرزد ولا تقل التبرزل: والأزادي ولا تقل الزهدي.

هذا قليل من كثير مما تختزنه الذاكرة عن صديقنا واستاذنا العلامة الدكتور مصطفى جواد رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

من اوراق الاستاذ سالم الالوسي التي اودع بعضها ملحق ذاكرة عراقية.