المطربة نهاوند في بغداد

Sunday 30th of October 2022 11:39:41 PM ,
5295 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

نور عزالدين

كانت نهاوند (وريت كيروز، وقد توفيت عام ٢٠١٤ عن عمر يقارب التسعين عاماً) مؤدية جيدة، ويظهر هذا جليّاً في أغنية يا فجر لما تطل، الأغنية الفارقة في مسيرتها. كتب الكلمات الشاعر اللبناني محمد علي فتوح ولحنها مصطفى كريدية الذي غناها هو نفسه قبل أن يعطيها لنهاوند.

اشتهرت الأغنية بصوتها في منتصف الأربعينات، ثم غناها عدد كبير من الفنانين حتى زعم البعض أنها من التراث السوري. بقيت النسخة المشهورة والمسموعة هي التي بصوت نهاوند، بموّالها الذي تقف له الآلات في منتصف الأغنية فيبقى القانون وحده خليل خامة صوتها. رافقتها الأغنية طيلة حياتها مثل ملاك حارس، وبقيت حاضرة في ذاكرتها

بعد أن حظي صوتها بكل هذا الاهتمام ذهبت لوريت إلى القاهرة لتشارك في ثلاثة أفلام وتؤدي أدواراً سنوية. رغم أنها أدت عدة أدوار، منها دور البطولة في فيلم اسمه عذاب الضمير للمخرج جورج القاعي، إلا أنها سرعان ما تخلت عن حلم التمثيل وتركت القاهرة. لم أجد تفسيراً مقنعاً لهذه العودة السريعة، سوى ما قالته مرة عن ازدحام المشهد المصري وشراسته.

في مقابلتها التلفزيونية، تقول نهاوند إن مشوّارها الفني الحقيقي بدأ في حلب. “رحت عـ دمشق مع إمي، بس ما قبلو يعطوني رخصة غني بسبب صغر سني، تبناني عفيف الطيبة، وطالب يعطوني رخصة، أخدتها ورحت ع حلب، وهونيك صرت مطربة “

في حلب واجهت منافسة شرسة من مطربات لبنانيات فضلت عدم الإفصاح عن أسمائهن. قالت إنها كانت تجد فساتينها مقطّعة قبل الحفلات، ولكنها كانت تصمت كي لا تخسر المسرح.1 من هناك انتقلت إلى العراق في بداية الخمسينات، حيث كانت الأغنية العراقية تشهد أهم مرحلة من مراحل تطورها بعد ظهور كبار الملحنين مثل الأخوين صالح وداوود الكويتي، وخروج الأغنية البغدادية بنمط مغاير شهدت تطور المقامات.

شاهدتُ المقابلة وانتظرتُ أن تتكلم عن علاقتها بالفن العراقي وكيف تعرفت على الملحن رضا علي الذي ترك إرثاً فنياً لا يقدر بثمن من ألحان أغنت المنجز الموسيقي العراقي، لكنها لم تلتفت للموضوع، بل قالت ببساطة وكأنها لم تدرك يوماً البصمة القوية التي حفرتها في رؤوس العراقيين في تلك الحقبة :” انبسطت كتير ببغداد، وبالإذاعة العراقية سجلت كتير أغاني وكانوا يحبوني“.

مدها رضا علي بالألحان طوال فترة مكوثها في العراق، وهو مؤشر على براعتها وتمكنها. فـ رضا علي مثّل مرحلة مهمة في تطور الغناء العراقي، خاصة أنه اتبع البساطة والسلاسة في ألحان تطلبت تمكناً من المطرب وقدمت نقلة نوعية في تجديد الأغاني العراقية، ودمج الحس الشعبي في لحن معقد.

تصف نهاوند كيف أنها كانت تجلس في منزلها في بغداد إلى جانب الراديو، تستمع إلى الإذاعة العراقية، عندما خرجت أغنية يبا يبا شلون. انتهت الأغنية وتفاجأت بصوت المذيع يقول :”كانت معكم المطربة نهاوند” ، لم تكن تعرف هذه المسكينة أنه صوتها، فراحت ترقص في أرجاء منزلها وحيدة من الفرحة.

انتقل صوت نهاوند في هذه الأغنية إلى مرحلة جديدة. تطورت قدرتها على الغناء ولم تعد تسقط في هفوة إخراج تلاوين صوتها بهشاشة، كما أضفت اللهجة العراقية عليه نوعاً من السحر. أجادت اللهجة العراقية وجارت الإيقاع البغدادي الجديد برصانة، حتى ظن البعض أنها مطربة عراقية جديدة.

ي أين يا ليل، الأغنية الأولى التي غنتها نهاوند بالفصحى، بدت ملامح صوتها أكثر وضوحاً. إذا أغمضنا أعيننا وحاولنا تخيل شكل المغنية سنحصل على صورة سيدة أربعينية محنكة تعتلي المسرح بثقة، تغني بقوة واقتدار. رافق القصيدة الكثير من التأويلات حول من كتبها ولحنها. نُسبت مثلاً إلى سيف الدين ولائي، رغم أن سيف الدين اشتهر بكتابة أغان باللهجة العراقية البسيطة. البعض الآخر نسبها إلى الشاعر العراقي علي الشرقي الذي اقترب في أسلوبه من كلمات أين يا ليل، وتجلّى بوضوح في قصيدته شمعة العرس، ولكن لا شيء رسمي يؤكد مرجعية كلماتها له.

تضاربت المعلومات حول هوية الملحن أيضاً، وأرجحت بعض الروايات أنها من ألحان منير بشير ووصل البعض إلى القول بأنها من ألحان نهاوند. لكن ما استطعت التوصل إليه بعد استشارة صديق من العراق، هو أن الأغنية على مقام السيكاه وبالتالي ليس بالضرورة أن يكون هناك ملحن. كل ما احتاجته نهاوند هو ضبط المقام وإيجاد ما يناسبه من الشعر، وهي نجحت بهذا، وأغوتنا على مقام يتجنبه الكثيرون. إذا قارنا صوتها بـ صوت يوسف عمر وهو أكثر من أجاد إخراج المقامات العراقية والتلوي في قالبها، سنجد أنها لامست المقام بطريقتها الخاصة وزادت عليه من جمالها.

في هذه الفترة التي قضتها في العراق واظبت نهاوند على زيارة سوريا، حتى تزوجت من رجل سوري متنفذ منعها من السفر والغناء لسنوات طويلة: “كان يمنع أغانيي من الإذاعة ويحرق صوري مع المشاهير، صهرو كان وزير داخلية بسوريا، كان بدهم يقوصوني، كسرلي مستقبلي وكسرلي حياتي“. اختفت نهاوند إثر هذه الزيجة وظل صوتها أسيراً إلى أن توفي زوجها وعادت إلى بيروت.

عن موقع (معازف)